شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كان كابوس الولادة القيصرية يطاردني في أحلامي، إلى أن صار حقيقة

كان كابوس الولادة القيصرية يطاردني في أحلامي، إلى أن صار حقيقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 25 يونيو 202210:06 ص

أشهر قليلة تفصلني عن الدخول مجدداً إلى غرفة العمليات. خمس سنوات حاولت فيها التعافي من مخاوف وآلام آخر مرة كنت فيها مستسلمة لطبيب التخدير الذي يتظاهر بالتحدث إليّ لإلهائي، بينما يدس المخدر في وريدي. 

لسنوات، كان كابوس الولادة القيصرية يطاردني في أحلامي، مزيجاً من ذكريات ضبابية مختلطة. وأسوأ مخاوف عقلي الباطن وهلوسات الأحلام امتزجت في عقلي لتنتج كوابيس متنوعة أكون فيها على وشك الدخول إلى غرفة العمليات ليشقوا رحمي. تارة أحلم بأنّي وحيدة بمصير مجهول، وكأنهم يأخذونني إلى غرفة الإعدام دون ذنب اقترفته. وأخرى أكون في حالة مخاض ولا تأتي طبيبتي. دوماً أرى نفسي عالقة في مستشفى كئيب مع أشخاص مجهولين. ربما هذا هو أسوأ مخاوفي على الإطلاق أن أكون وحيدة في وقت هكذا. 

تارة أحلم بأنّي وحيدة بمصير مجهول، وكأنهم يأخذونني إلى غرفة الإعدام دون ذنب اقترفته. وأخرى أكون في حالة مخاض ولا تأتي طبيبتي. دوماً أرى نفسي عالقة في مستشفى كئيب مع أشخاص مجهولين. ربما هذا هو أسوأ مخاوفي على الإطلاق أن أكون وحيدة في وقت هكذا

لن يشعر بألمكِ سواكِ 

لطالما أخافتني العمليات الجراحية ولا سيما الولادة القيصرية، منذ كنت طفلة صغيرة. بالطبع، لا أذكر شيئاً عن ميلاد شقيقتي التي تصغرني بعامين ونصف، ولكن ذكرى ولادة أمي لشقيقتي الصغرى في منتصف التسعينيات، لا تزال عالقة بذهني. كنتُ حينها في الخامسة من عمري لا أدرك ماهية الولادة. ولكني أذكر جيداً أنين أمي بعد خروجها من غرفة العمليات، وممرضة تحقنها بالإبر من وقت لآخر. أتذكر أنهم منعوها من تناول الطعام والشراب، بينما حلقها جاف وتكاد تموت عطشاً. أذكر أنها طلبت الماء ورفضوا منحها إياه، وأن جدتي أعطتها قطعة قطن مبللة بالماء لتضعها على شفتيها الجافتين. 

وحدها أمي كانت تتألم، بينما الجميع سعداء بالمولودة الجديدة.

وحدها أمي كانت تتألم، بينما الجميع سعداء بالمولودة الجديدة. ووحدها كانت جائعة وعطشى، بينما جدتي وجدي - رحمه الله - وأبي وخالي وأنا وشقيقتي الأصغر مني نتناول طعاماً جاهزاً في الغرفة ذاتها. أظنه كان دجاجاً مشوياً على الفحم. وهكذا تعلمت الدرس الأول أنّ لا أحد يشعر بألمكِ سواكِ. حين سمحوا لأمي بأن تنهي حالة الصيام، كان كل ما أرادته الماء، ولم ترغب في تناول الطعام. ويؤنبني ضميري حين أتذكر أن الممرضات أحضرن لها طعام المستشفى المسموح بتناوله، والمكون من علبتين بلاستيكيين، إحداهما تحوي الهلام والأخرى شوربة لسان العصفور. ولأنها لم ترغب في الأكل، قمت أنا وشقيقتي ذات الثلاثة أعوام حينها باقتسام العلبتين. لم أزل أشعر بالاستياء كلما تذكرت كم كنا أنانيتين، ولم نفكر في أن أمنا التي تعاني جرحاً عميقاً في بطنها ستشعر بالجوع، وربما لن تجد ما تأكله. ولكنّ الأطفال أنانيون دوماً وأوغاد أحياناً. ومع ذلك، لا ينقطع عطاء الأمهات. أظنني تذكرت تلك الواقعة قبل عام حين فقدت وعيي إثر انخفاض كبير في ضغط الدم وهبوط مستوى السكر. وكان طفلاي – الأول بين الخامسة والسادسة من عمره، والآخر في عامه الثالث - مشغولين باللعب. الكبير منهمك في ألعاب الكمبيوتر وأخوه يطبق على صدري ليزداد شعوري بالاختناق. ظننت أنني سأفارق الحياة. وحين استيقظ زوجي ووجدني على ذلك الحال، سارع إلى إفاقتي وإحضار أقراص دوائي، مع مشروب حلو لأحصل على بعض السكر، والذي شربه طفلي الأصغر. 

الطبيبة التي خذلت أمي 

كنت في الحادية عشرة من عمري، حين أصبحت أمي حبلى بشقيقي الأصغر. نحيا في محافظة ساحلية تبعد مئات الكيلومترات عن العاصمة، حيث يعيش كل أقربائنا وغالبية أصدقاء أهلي، فقد كانت أسرتي قد انتقلت للعيش في الإسكندرية قبل عام فقط. لم تستطع أمي متابعة الحمل والولادة لدى طبيبتها المشهورة ذات الخبرة الكبيرة. وحين عثرت على طبيبة نسائية تتابع حملها بأخي، خذلتها الطبيبة في أهم لحظة احتاجتها فيها. وذلك حين باغتتها أعراض المخاض خلال الشهر التاسع، بينما كنا على وشك زيارة أصدقائنا الجدد. وكان عليها التوجه سريعاً إلى المستشفى. وعندما هاتفت الطبيبة كانت الصدمة أنها سافرت فجأة ودون أي إحساس بالمسؤولية، لقضاء عطلة صيفية مع أسرتها في محافظة أخرى، رغم كونها تعيش بالأساس في محافظة ساحلية هي أشهر وجهة للرحلات الصيفية في مصر. نعم خذلت الطبيبة أمي. ولسنوات، خشيت ولم أزل أخشى أن أواجه المصير نفسه. وحيدة في غربة دون أهلها ودون طبيبتها ولا أحد لديها ليرعى بناتها الثلاث، تواجه المجهول دون طبيبة في لحظات المخاض. أظن أن اللحظات العسيرة التي عاشتها أمي تحولت إلى كابوس يطاردني في أحلامي. 

طبيبة تستحق السجن  

في النهاية، تركَنا والداي لنقضي ليلتنا في بيت صديقة لأمي، وبينما يعصرني القلق، ذهبا إلى مستشفى بعيد لتقوم طبيبة أخرى رشحتها لأمي الطبيبة "النذلة"، لإجراء عملية الولادة القيصرية لها، وليتها ما فعلت. في الصباح، جاء أبي بسيارته لاصطحابنا من بيت أصدقاء الأسرة. وكانت أمي تجلس على الكرسي المجاور له وتحمل على ذراعها المولود الجديد. هرولت نحوها بلهفة لأطمئن عليها، وتجاهلت الصغير الذي لمته على آلام أمي. وأظنني شعرت أيضاً بشيء من الغيرة تجاه المولود الذكر الذي حلم أبواي بالحصول عليه. لكن سرعان ما تحولت مشاعري نحو شقيقي من الأخوة والتنافسية إلى إحساس صادق بالأمومة، وقع في قلبي مع أول نظرة وابتسامة بريئة وجّهها لي. أذكر أن صديقة أمي والمرأة التي تأتي لتنظيف بيتنا أعدتا الطعام لها بعد عودتنا إلى البيت، وقامتا بتغسيل أخي وتنظيفه والاعتناء بأمي النفساء. لكن أسوأ الأوقات كان حين قصدنا عيادة الطبيبة التي شقت بطنها، لنزع القطب الجراحية، ونُصدم جميعاً بأن إهمال الطبيبة الخرقاء تسبب في تلويث جرح الولادة القيصرية، فكان الصديد والقيح يخرجان من بطن أمي. الطبيبة الآثمة تمسك مقصاً ومبضعاً تخترق به بطنها وأمي تبكي وتئن ألماً وتقاوم الرغبة في الصراخ. لم أتمكن من تدقيق النظر في ما تفعله بوالدتي، لكن أعلم جيداً أنها تعذبت كثيراً، وأن تلك الطبيبة كانت تستحق السجن. 

الولادة القيصرية للمرة الأولى  

ذات يوم، أخبرتني أمي أن ولادتها لي كانت أصعب المرات الأربعة التي شُقّ فيها بطنها. كنت جنيناً في شهري السابع حين باغتتها أعراض المخاض. قضت أمي ساعات طويلة تتعذب بسبب الطلق الاصطناعي لتعلن لها الطبيبة في النهاية تعذّر الولادة الطبيعية، وضرورة إجراء ولادة قيصرية. القصة نفسها سمعتها من صديقة أمي التي اعتادت الولادة الطبيعية، لكنها في آخر ولادة لها عانت من الطلق. وبعد تعذر الولادة، شق الطبيب بطنها لإخراج الطفلة.

أخبرتني أمي أن ولادتها لي كانت أصعب المرات الأربعة التي شُقّ فيها بطنها. كنت جنيناً في شهري السابع حين باغتتها أعراض المخاض. قضت أمي ساعات طويلة تتعذب بسبب الطلق الاصطناعي لتعلن لها الطبيبة في النهاية تعذّر الولادة الطبيعية، وضرورة إجراء ولادة قيصرية

لا أعرف لماذا يحولنا بعض أطباء النساء والولادة إلى حقل تجارب لهم؟ كنت قد أنهيت ثلثي الشهر التاسع من حملي الأول. انتهيت من تجهيز ملابس الطفل وبطانياته ونسيت شراء الحفاضات و"الببرونات". كان أهم ما يشغلني هو أن تكون طبيبتي موجودة حين يداهمني المخاض وأن أجد أمي بجانبي لأطمئن. كنت نائمة في قيلولة حين انفجرت مياه كيس الحمل منهمرة من بين ساقي لأغرق في بحيرة تحيط بي وأستيقظ فزعة. أصرخ منادية زوجي بأني ألد الطفل. كنت مرتبكة، فاتصلت بطبيبتي التي طلبت مني الحضور لعيادتها بعد ساعة، وبأمي التي راحت تُهدئني. قالت الطبيبة إن الرحم لم تُفتح بعد وعلينا انتظار الطلق، وأنه علي الصيام عن الأكل والاكتفاء بالعصائر. وجعلتني أعود لبيتي لأقضي خمس عشرة ساعة من القلق والجوع والابتلال بماء الطفل الذي ضعف نبضه جراء برودة أعصابها، قبل أن تعلن لي داخل المستشفى في الصباح التالي أن الرحم لم تتمدد وأنها ستجري ولادة قيصرية.  تأخرت أمي بالحضور وسبقتها جدتي (لأمي) ووالدة زوجي - رحمها الله. كنت مرتعبة ولم أرغب في دخول غرفة العمليات دون أن تحضر أمي وتعانقني، ولكنهم أخذوني على أي حال، وغرسوا في وريدي الكانيولا قبل أن يحقنني الطبيب ببنج كلي وأغرق سريعاً في العتمة وصمت الموتى. 

العودة للحياة والخروج للنور 

شعرت وكأنني بُعثت للحياة من جديد بعد سكون الموت، ولكني كنت عمياء لا أرى غير العتمة. وأشعر بسكين يشق بطني وأحس بجسدي ممدداً. ويجري تحريكي ونقلي من مكان لآخر. أذناي تلتقطان بعض الأصوات من حولي فأعي أنهم ينقلونني إلى غرفتي حين أسمع أصوات أهلي من حولي. أشعر بأن جرحي لا يزال مفتوحاً، وأنهم نسوا خياطة الجرح. أحاول تحريك شفتيّ وأطلق صرخات حادة وأتمتم بأن بطني مفتوح. حين أفقت من هلوسات البنج وتمكنت من فتح عينيّ، طلبت مسكنات لأن الألم لم يكن يُحتمل. لم أستوعب جيداً ما يجري لي. تقيأت كل ما في جوفي من عصائر وقضيت بعض الوقت متألمة قبل أن أطلب رؤية مولودي الأول وأتناسى بعضاً من آلامي. أعادت لي رؤية أمي روحي من جديد. وبرفقة الأهل والأحباب، كان الأمر أفضل نسبياً، شعرت بجوع شديد يعتصر أمعائي، وطلبت طعاماً. أسوأ اللحظات كانت عندما طلبوا مني النهوض من الفراش للاستحمام، ولم تكن قد انقضت ثلاث ساعات على خروجي من غرفة العمليات، شعرت بأن بطني يُذبح من جديد في كل مرة تجبرني الممرضات على الحركة ثم مغادرة المستشفى في المساء، ولا سيما حين كانت السيارة تتحرك بنا، فأقل حركة كانت تسبب ألماً لا يحتمل. كانت الليلة الأولى هي الأصعب على الإطلاق، ورحلة الوصول إلى دورة المياه كأنها سفر لأبعد نقطة على وجه الأرض، وبدا النوم حلماً بعيد المنال رغم كل العقاقير المسكنة، لم أتمكن من حمل طفلي أو إرضاعه حتى اليوم الثاني. 

مولد طفل يحتضر اختناقاً  

بعد عام وشهر من ولادة طفلي الأول، صُدمت بكوني حبلى من جديد، وابني لم يزل رضيعاً وجسدي وهناً، وجرح القيصرية يؤلمني من حين لآخر، لا سيما في الليالي الباردة، وهو الألم الذي ظللت أشعر به لأكثر من ثلاث سنوات. هذه المرة، ظننت أني مستعدة لكل شيء. حددت مع الطبيبة موعد الولادة وأحضرت كل لوازم المولود. وكانت أمي بجانبي طوال الوقت، ومعنا زوجي وطفلي. اتفقت مع الطبيبة أن تجنبني الآلام المبرحة التي شعرت بها بعد خروجي من غرفة العمليات في المرة السابقة، وكان هذا ما أوفت به بالفعل. أراد طبيب التخدير غرس إبرة البنج النصفي في منتصف ظهري، ولكني خفت فخدعني ودس مخدراً داخل الكانيولا المعلقة بمعصمي لأغرق في الظلام، وأكتشف لاحقاً أنه فعل ما أراده في البداية وأنا مخدرة كلياً. 

بعد عام وشهر من ولادة طفلي الأول، صُدمت بكوني حبلى من جديد، وابني لم يزل رضيعاً وجسدي وهناً، وجرح القيصرية يؤلمني من حين لآخر، لا سيما في الليالي الباردة، وهو الألم الذي ظللت أشعر به لأكثر من ثلاث سنوات

أفقت لأجد نفسي ممددة على سرير العمليات ولا أستطيع الحراك. أسمع أصوات الطبيبة وطاقم التمريض والتخدير يثرثرون حول أبنائهم بينما يداهمني شعور فظيع بالاختناق ونقص الأكسجين. شكيت للطبيبة فلم تهتم وقالت إنهم تقريباً انتهوا. نُقلتُ لغرفتي ولم أشعر بالألم هذه المرة ولم أشعر بالجزء السفلي من جسمي لثلاث ساعات، لكن ما لم أحسب له حساباً أن مولودي كان يحتضر اختناقاً بسبب خطأ الطبيبة، ثم خطأ المستشفى الذي ظن أنه ينقذه فزاد الطين بلة. ولم أفكر بأني لن أعود به للبيت، وبأني بالكاد سألمحه لثانيتين قبل أن يؤخذ مني ليوضع في حضانات مستشفى آخر ويقضي به قرابة الشهر. وذلك حتى تنقذه معجزة إلهية من الموت. كل تلك الذكريات والمخاوف والكوابيس تداهمني وأنا حبلى من جديد، كلما دنا الموعد المرتقب. وأجدني أتساءل: لماذا تحتل بلدي مصر المرتبة الرابعة في معدلات الولادة القيصرية، بنسبة 51.8٪ بعد الدومنيكان والبرازيل وقبرص، بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ ولماذا يلجأ إليها الأطباء رغم التحذيرات الطبية من مخاطرها ومضاعفاتها كالعدوى والنزيف وزيادة احتمالات جلطات الساقين وتلوث الجروح؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image