في ليلة عرسي
يقف العروسان في محراب الحب، يتبادلان نذورهما، قبل أن يقول القس جملته الشهيرة: "بإمكانك تقبيل العروس"، ليتبادل الاثنان قُبلة عميقة وتدمع أعين جمهور المدعوين بتأثر، وربما يصفقون بحرارة. إنه المشهد الرومانسي الأكثر شيوعاً في الأفلام السينمائية الأجنبية، والذي يرتبط دوماً بالنهايات السعيدة، التي تدغدغ عواطف الجمهور وتلعب على وتر المشاعر.
أما في ثقافتنا العربية فتبقى زفة العروسين هي العلامة الأبرز في أفراح الزفاف لدينا باختلاف مستوياتها وأنواعها، فبعض حفلات الزفاف تتخذ طابعاً شعبياً والبعض الآخر يتخذ طابعاً أرستقراطياً، وتختلف تكاليف حفلات الزفاف وفقاً المستوى الاقتصادي للعروسين، وهو ما ينعكس على فستان الزفاف ومكياج العروس والفرق الغنائية والموسيقية التي قد يستغنى عنها بالدي جي، ووجود فقرات للرقص الشرقي أو الغربي وإحضار راقصة من عدمه، بجانب مكان إقامة الزفاف الذي يتراوح بين القاعات المغلقة الفخمة بالفنادق والنوادي أو على البواخر النيلية أو في مكان مفتوح مثل حديقة فيلا أو حتى داخل صوان بالشارع أو الحارة، كما ينعكس على الطعام المقدم للمدعوين الذي يتراوح بين البوفيه المفتوح وتقديم قطعة جاتوه مع الساليزون أو ساندويتشات ومياه غازية أو الشرّبات.
كما تظهر الفوارق الاجتماعية والمعتقدات الدينية في حفلات الزفاف التي يكون بعضها مفصولاً إلى قسمين أحدهما للذكور والأخر للإناث، لمنع الاختلاط، بسبب العادات والتقاليد أو الفكر السلفي، وتكون الموسيقى والأغاني في الأفراح الشعبية والمتعلقة بالطبقات الوسطى أكثر بهجة وحيوية وشرقية مما تكون عليه في معظم أفراح الطبقات العليا التي تميل للأغاني الأجنبية لإظهار التحضر، أما في أفراح ذوي الميول السلفية وأتباع الجماعات الإسلامية فتختفي الموسيقى وتُستبدل بالأناشيد الدينية، وتختفي مظاهر البهجة والرقص.
حفلات زفاف ممنوعة بأمر المشايخ
طيلة سنوات طفولتي كانت حفلات الزفاف شيئاً مبهماً بالنسبة إليّ، فلم أعثر على صورة واحدة لزفاف والديّ، ولا شريط فيديو يُسجّل لقطات الحفل، وعندما سألتهما عن ذلك علمت أن أمي ارتدت النقاب للمرة الأولى في ليلة العُرس، وأنهما تزوجا بعد كتب الكتاب والاحتفال الهادئ البسيط الذي أُقيم في منزل أسرة أمي بمناسبة الزفاف، الذي جاء بعد وقت قصير من وفاة جدي لأبي، ولم يكن ممكناً أن يكون صاخباً لظروف الحداد، في الوقت الذي أصرت فيه جدتي لأمي على إتمام الزواج سريعاً لوضع حد لخُطبة طويلة دامت خمس سنوات.
لم أعثر على صورة واحدة لزفاف والديّ، ولا شريط فيديو يُسجّل لقطات الحفل، وعندما سألتهما عن ذلك علمت أن أمي ارتدت النقاب للمرة الأولى في ليلة العُرس، وأنهما تزوجا بعد كتب الكتاب... مجاز
الغريب في الأمر أنني لم أحضر حفل زفاف قط خلال طفولتي، فدائماً كانت هناك ظروف وأعذار تحول بيننا وبين حضور أفراح أقاربنا من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، حين وصلت إلى مرحلة المراهقة أدركت أن السبب الحقيقي وراء ذلك هو أن والدي لم يكونا يرغبان في حضور تلك الأفراح غير الإسلامية التي حرّمها مشايخ السلفية المحسوبون على الفكر الوهابي، بسبب الاختلاط بين الجنسين والموسيقى والغناء والرقص.
أسوأ حفل زفاف بجدارة
كنت في الثانية عشر من عمري حين حضرت أول حفل زفاف في حياتي، والذي كان الأسوأ عن جدارة: كانت أمي مدعوة لحضور زفاف معلمة صف أختي، على شاب ينتمي لعرب الساحل، وقد أُقيم الزفاف بصيوان في الشارع غير الممهد، بمنطقة أبو تلات الساحلية في الإسكندرية.
وبسبب تقاليد وعادات ذلك المجتمع البدوي المغلق الذي غالباً ما يحرم العروس من رؤية عريسها حتى ليلة الدخلة، وكثيراً ما يمنعها من استكمال تعليمها ويدفعها للزواج قبل السن القانوني، ويُجبر فيه العروسان على إظهار دليل العذرية للأهل والأقارب، كان طبيعياً أن يمنع الاختلاط في حفل الزفاف الأغرب الذي رأيته في حياتي؛ حيث مكثت العروس وحدها على الكوشة وسط النساء والأطفال، بينما العريس الغامض في القسم الآخر من الصيوان وسط الذكور المدعوين، بينما تذيع مكبرات الصوت أسماء الله الحسنى ثم أغانٍ بلهجة عرب الساحل، ويجري توزيع زجاجات المياه الغازية على المدعوين والمدعوات اللواتي تسمرن على كراسي الفِراشة المعدنية غير المريحة، لم تحاول إحداهن الرقص أو الترفيه عن العروس التي اكتفت بتوزيع الابتسامات عليهن، وحين انتهى الزفاف الكئيب خرجت العروس مرتدية برقعاً أبيض اللون، وسط النساء ليتسلمها عريسها ويدخلان إلى بيتهما الجديد.
لا أعرف لماذا شعرت وقتها بانقباض قلبي والشفقة على العروس التي دفعها تأخر سن زواجها ووفاة والدها العائل لأسرتها للموافقة على تلك الزيجة.
رقصة العروسين والزفاف المتخيل
خلال المرحلة الثانوية والجامعية حضرت عدة حفلات زفاف جميلة لأقربائي، ولكوني أنتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى العليا وبقايا البرجوازية، فإن حفلات الزفاف كانت مدعاة للتفاخر بالعائلة؛ حيث تقام غالباً بقاعات فخمة، ويحرص العروسان على إقامة بوفيه مفتوح يقدم أشهى الأطباق للمدعوين، وكغالبية حفلات الزفاف في مصر، تكسوها أجواء احتفالية مبهجة ويرقص كثير من الحضور مع العروسين على الأغاني ذات الإيقاع السريع، وقد يؤدي مطرب شهير فقرة غنائية في الحفل، ونادراً ما يتم إحضار راقصة شعبية، لأن ذلك يعد أمراً مستهجناً في عائلة محافظة، وربما يتم الاستغناء عنها بفقرة استعراضية.
بسبب تقاليد وعادات ذلك المجتمع البدوي المغلق الذي غالباً ما يحرم العروس من رؤية عريسها حتى ليلة الدخلة، وكثيراً ما يمنعها من استكمال تعليمها ويدفعها للزواج قبل السن القانوني، ويُجبر فيه العروسان على إظهار دليل العذرية للأهل والأقارب... مجاز
لكن الجزء الأجمل بالنسبة إليّ كان حين يؤدي العروسان رقصة سلو على ألحان أغنية رومانسية عربية أو غربية، كان ذلك المشهد يداعب مُخيلتي ويداهمني في أحلام اليقظة لسنوات كلما فكرت في زفافي المتخيل، كل شيء يمكن الاستغناء عنه في الحفل عدا رقصة العروسين.
التخلي عن حفل الزفاف لأجل الحب
حين وقعت في الحب، تخليت عن حلمي في رقصة العروسين والزفاف المتخيل لأسباب اقتصادية ولرغبتي في أن أتزوج سريعاً بمن أحب، حيث بدا حفل الزفاف بالنسبة لي وقتها رفاهية يمكن الاستغناء عنها، لكني لم أعرف وقتها أن قراري سيكون له صدى على بعض أقربائي وصديقتين مقربتين لي، ليدفعهم لإخفاء أمر حفل زفافهم عني وعدم دعوتي إليه متعللين بعنصر المفاجأة وضيق الوقت، لكني علمت دوماً أن السبب الحقيقي وراء ذلك كان خوفاً من أن أحسدهم مثلاً على إقامة الزفاف الذي لم أحظ به، أو لعدم اقتناعهم بأنني تخليت عن ليلة العمر ويظنون أنني كذبت عليهم ولم أرغب في حضورهم.
لا أنكر أن تلك المواقف كانت تشعرني بالصدمة والإهانة وجرح يشبه الخيانة، غضبت وقاطعت بعضهم لبعض الوقت، لكني فيما بعد لم أعد أبالي لتلك التفاهات المثيرة للسخرية، تجاوزت غضبي ونضجت ببساطة لأرى الأمور والعلاقات على حقيقتها.
خلال السنوات الأولى لزواجي كانت دموعي تسيل بتأثر خلال حفلات الزفاف التي حضرتها، ولا أدري صدقاً هل كانت دموع فرح وتأثر لسعادة قريبة عزيزة أو صديقة حبيبة؟ أم أن جزءاً بداخلي كان يبكي لأني اضطررت للتخلي عن حلم جميل؟ لعله كان مزيجاً من الأمرين معاً.
بمرور السنوات ومجيء الأطفال الذين ملأوا عليّ حياتي، توقفت عن التأثر بحفلات الزفاف وذرف الدموع، وبات سماعي لزفة عروسين صاخبة بالشارع أمراً مزعجاً يوقظ صغاري من النوم أو يزيد من حدة الصداع النصفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون