الخوف
يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي، المحرر الضيف في رصيف22 لشهر حزيران/يونيو
(1)
الخوف هو أن أنجب طفلاً وأعجز عن حبه
في الحلم وقبل سنوات، حملتُ بين يديّ فتاة تبكي اتضح أنني أمها، وفكرتُ بأنه ربما يتوجّب عليّ إرضاعها كي تتوقف عن البكاء. استيقظتُ سعيدة كما لو أنني عبرت مرحلة أو تجاوزت خوفاً شائكاً. حدّثتُ من كان حبيبي في ذلك الوقت عن المنام فتجاهله ولم يُعلق. شعرتُ بأن الفتاة التي ولدت في الحلم ماتت في الحقيقة. منذ ذلك اليوم وإلى الآن لم أحلم ليلةً بإنجاب طفل.
أنظر أحياناً إلى صديقاتي وأشعر بأن لديهنّ ميلاً غريزياً للأمومة، وأشعر بأن هذا الميل يحركهنّ ويضغط عليهنّ، لكنّي لم أختبر ضغطاً مشابهاً. أودُّ لو أعرف إن كنت في أعماق نفسي لا أريد حقاً إنجاب الأطفال، أم أنني فقط مذعورةٌ من فكرة مثل هذه.
يشبه الخوف من الإنجاب لعبة "البينياتا" المكسيكية؛ ذاك المجسم المصنوع من الورق المقوى والمحشو بالحلويات، والذي يُحطّمه الطفل كي تتساقط السكاكر، وتنفلتَ فوق رأسه. بصورة مشابهة، يحرر الخوف من الإنجاب، دفعة واحدة، كتلةً من المخاوف المتشابكة التي ستتساقط فوق رأسي: ماذا سيحدث لجسدي؟ كيف سأستعدُّ لحقيقة أنّ حياتي لن تصبح ملكي؟ كيف أستطيع إنقاذ هذا الطفل من عالمٍ موحش وأنا أساساً لا أعتبر نفسي ناجية؟
أعتقد أن خوفي الأول يتجسّدُ في ألا أحب طفلي، وأحياناً أشعر أنني أختبرُ اكتئابَ ما بعد الولادة بمجرّد التّفكير باحتمالية إنجاب طفل. أخاف أن أعلّق على هذا الطفل كل الخسارات التي حصدتها، أو أثقل كاهله بمهمّة جعلي سعيدة. وهي مهمة ما زلت أعارك لتحقيقها.
يقول نيتشه: "ينشأ الأبوان دائماً على أيدي أطفالهم"، ويقول إميل سيوران في المقابل: "أن أكون قد ارتكبتُ كل الجرائم عدا أن أكون أباً". وأنا أشعرُ بنفسي عالقة تماماً بين هذين التوجُّهيّن؛ بين خوف من خسارة فرصة إعادة بعثي من قبل أطفالي إن لم أنجبهم، وخوفي من ارتكاب جريمة بإنجابهم.
ماذا سيحدث لجسدي؟ كيف سأستعدُّ لحقيقة أنّ حياتي لن تصبح ملكي؟ كيف أستطيع إنقاذ هذا الطفل من عالمٍ موحش وأنا أساساً لا أعتبر نفسي ناجية؟
(2)
الخوف هو هذا النّتوء القاسي تحت الجلد
تحركت أطراف أصابعي على جلد مألوف الملمس والقوام، حتى اصطدمت بنتوءٍ قاسٍ، ظهر دون سابق إنذار. الخوف بالنسبة لي هو لحظة إدراك وجود هذا النتوء، هذا التغيير الذي لا يمكن تجاهله. بعد لمسه، فحصه، تصويره شعاعياً استبدلت قائمة مخاوفي السابقة بخوفٍ واحدٍ طاغٍ: السرطان المحتمل.
اتضح أن الإنذار كان كاذباً. الكتلة سليمة تستأصل بعملٍ جراحي، وينتهي الأمر، مبدئياً على كل حال. منذ ذلك الوقت بت أدرك ملمس السرطان وأدرك السهولة التي يكشف فيها عن حضوره في الجسد.
بعد أشهر من العملية، كنت أجلس على متن طائرة وأشغل نفسي بالاستعداد للرحلة، أثبّت حزام الأمان، أفعّل وضعيَّة الطيران على هاتفي. لم أظن سابقاً بأنني أخاف الطيران، لكن بما أن قلبي لا يتوقف عن الخفقان بتسارع، وأشعر به يهبط كلما نظرت من الشباك لأرى نفسي معلقة في الهواء، يبدو أنني أخافه بعد كل اعتبار، قليلاً على أي حال.
أعتقد أن خوفي الأول من الإنجاب يتجسّدُ في ألا أحب طفلي، وأحياناً أشعر أنني أختبرُ اكتئابَ ما بعد الولادة بمجرّد التّفكير باحتمالية إنجاب طفل. أخاف أن أعلّق على هذا الطفل كل الخسارات التي حصدتها، أو أثقل كاهله بمهمّة جعلي سعيدة. وهي مهمة ما زلت أعارك لتحقيقها
"الفوبيات" تظهر لدي وتختفي، لدرجة أنني أشعر أحياناً أن دماغي يبتدعها كي يسلي نفسه. متى مثلاً بدأت أشعر بالخوف من الطّيور؟ أيًعقل أنني استعرت هذا النوع من الهلع متأثرة برواية الحمامة (2019) لباترك زوسكيند؟ حينما عمل أحد أصدقائي على تحويلها إلى عرض أدائيّ، أم أن الأمر كان محض مصادفة؟ فالحمامة لا تظهر سوى دقائق معدودة في حياة "جوناثان نويل" حارس البنك الخمسيني الذي يعيش حياة رتيبة في باريس، لكنها دقائق كافية لكشف هشاشته وزعزعة إحساسه بالأمن، كأن الحمامة هنا مفتاحٌ لخزانة مخاوفه المكدسة. فظهور هذا الطائر الأحمق عند باب شقة الحارس يمسي مجرد ذريعة لفتح باب اللاشعور أمام سيلٍ من المخاوف؛ مخاوف عن قيمة الوجود وصورة الذات، مخاوف عن إدراك الزمن ومواجهة الشيخوخة، مخاوف عن الهجران والوحدة.
والحقيقة هي أننا فعلاً نحتاج ذريعة كي نخاف، أو كي نطلق مخاوفنا التي لا يمكن الإفصاح عنها عبر ربطها بخوف محدّدٍ واضح. فمنذ أشهر مثلاً فطنت إلى أنني بتُّ أخاف من الركوب في سيارة مسرعة. كيف بدأ هذا وكيف تطور لا أعرف. لكنّ ما أعرفه أن جسدي يتشنج وأشعر بضرورة التشبث بالكرسي حينما يسرع السائق أو يطلق العنان لسيارته في طريقٍ منحدر؛ أتخشّبُ في مكاني، أغمض عينيّ لأكتشف أن الإحساس بالسرعة مخيف أكثر حين أحسه ولا أراه، فأفتح عينيّ وأركزهما على تفصيل ما لحين انتهاء الرحلة.
لكنني الآن لست في سيارة، أنا في طائرة، كان لا بدّ من شغل دماغي عن التفكير بكل السيناريوهات المحتملة لطائرة قد تسقط وتعجن داخلها عشرات الأجساد، بما في ذلك جسدي. فكرت في قراءة كتاب كنت قد حملّت نسخة إلكترونية منه على هاتفي. اتضحَ أن الكتاب يحكي قصة ناجية من مرض سرطان الثدي، أو ناجية حتى إشعار آخر. بدأ نبض قلبي يتسارع أكثر فأكثر، أغلقتُ هاتفي ودفنتُه في حقيبتي، وعدتُ فوراً للتحديق عبر شباك الطيّارة، أردت إلهاء نفسي عن التفكير بالخوف من السرطان عبر التركيز على الخوف من الطيران.
(3)
الخوف هو صوت عصا جدي التي ظلت تنقر الأرض بعد موته
واكبتُ الأشهر الأخيرة من حياة جدّي، أنامُ في غرفةٍ في الطابق الأرضي لمنزل والديّ توازي غرفة نومه وجدتي في الطابق الأعلى. طق طق طق تحفر عصاه/ها بلاط الأرض فوق رأسي في رحلتهما الليلية إلى الحمام. مع الوقت تحوّل الصوت إلى مؤشر لما يحصل في الطابق الأعلى؛ منبّهٌ من نوع خاص قادرٌ على اختراق نومي مهما عَمُق. كانت الفواصل بين "الطق" و"الطق" ثابتة وموحدة بما يتواءم مع سعة خطواتهما المتأنية، لكن حدث مرة أن اختلف النَّظم، ليأتي بعد الـ"الطق" صوت ارتطام جسدٍ على الأرض، وقعت جدتي على الأرض وكسرت عظم فخذها.
توالى بعد ذلك صوت العظام التي تتهاوى على الأرض، وتحوّل صوت العصا إلى شيفرة بمعانٍ محددةٍ بيننا وبين سكان الطابق العلوي. فإذا شعرنا بجلبة غير مفهومةٍ تَبِعَتها طرقات محتدة متسارعة، فذلك يعني أن هناك من يطلب عوننا لأن القرع على البلاط بالعصا بات أسرع وسيلة للاتصال.
مرّت أشهر شعرت فيها أن العصا تنخرُ رأسي أينما كنت، داخلَ البيت أو خارجَه. سافرتُ وتركتُ البلاد، توفّي جدّي في ذات الصباح الذي وطأت فيه قدماي أرضاً جديدة. وفي الشقة الجديدة، الهادئة في الطابق الثالث، يُسمع صوتٌ رتيبٌ متكرّر يَشُقّ الصمتَ من حولي. يتساءل صديقي عن مصدر الصوت ومعناه. أيعقل أن الجيران في الطابق الرابع مدمنون على تكسير الجوز، حتى بعد انتهاء موسمه؟ يسأل. أجيبه ذاهلة من المصادفة: "لا، هناك عجوز يشق طريقه فوقنا، وتلك عصاه التي تقرع الأرض بإيقاع ثابت".
أعيش في الشقة الجديدة، وأُدمِن الإنصات إلى وقعِ ارتطامِ العصا بالأرضية الخشبية. العجوزُ سريعٌ اليوم، أو ربما مريض، ربما سقط الآن، لكنه يداوم النهوض، وأنا في سرّي أتتبع يوميّاته من الطابق الثالث. ورغم أنني لا أعرف هويّته قررت بأنه رجلٌ عجوز، لأن جدّي اختفى كي يظهر في مكانٍ آخر.
صوتُ العصا التي تحفرُ الأرض، باتَ صوتَ المشي المتمهّل نحو الموت، بات ساعتي التي لا تكف عن التكتكة، تماماً كساعة "كوينتن" في رواية ويليام فوكنر الصخب والعنف (1929)؛ تلك الساعة التي قال له أبوه وهو يعطيه إياها: "إنّي أعطيك الساعة لا لكي تتذكر الزمن بل لتنساه بين حينٍ وآخر". لكنّ كوينتن لا يستطيع أن يغفل عن الزمن، وساعةُ جدّه تظل تُتكتِكُ وهي معطلة؛ تكتكتْ بعد أن حطّمها صاحبها ألف قطعة، وتبقى تتكتكُ أيضاً حتى بعد موته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون