آن الآوان لصوت أمومتي أن يتحدث حتى لو لم يكن عالياً بما فيه الكفاية.
من غير العادل أن تأسر حرية الغير وتنشئ عداوة فقط لأنه لا يشبهك ولا يوافق أفكارك.
كلنا مختلفون والاختلاف ما يميزنا ويصنع منا عوالم مختلفة ملونة وجميلة.
كم تمنيت أن أقول للجميع لديكم أولاد مثلهم ولكنهم يخافون منكم
والأكثر إجحافاً وغير العادل أن أرى كل يوم وأسمع وأقرأ كلمات الكراهية والقرف في مجموعات التواصل الاجتماعي ضد مجتمع الميم وأقف عاجزة.
كم توقفت عند تعليقات جارحة ومؤذية وتمنيت أن أكتب وأنتقد هذا الكلام، أو لو كنت أستطيع أن ألزمهم بالصمت والاحترام.
لكنني لم أستطع.
أردت أن أصرخ بأعلى صوتي: "كفاكم كرهاً، ابتعدوا عنهم". تخذلني يداي وأصبح جبانة.
وأردد وأغني ( شو حلو حبيبي شو حلو ) ويعلو صوتي ويصدح (اسكتوا ما بقى تجرحوا حبيبي راسه يوجعه).
هذا أقصى ما أستطيع أن أفعله.
أنا التي لم أسكت عن حق أبنائي ودافعت عنهم حتى من أقرب الناس.
أنا الذئبة التي تنهش من يقترب من أولادي، كنت وما زلت أقف عاجزة عن التصدي لهذه القئة من الناس.
أقف مكتوفة اليدين أمام الكره الأعمى والعبارات المستفزة والمواقف غير الإنسانية.
كم تمنيت أن أقول للجميع لديكم أولاد مثلهم ولكنهم يخافون منكم.
لأن المثلية ليست خياراً، لا أحد يستيقظ صباحاً ويقول: "أنا أريد أن أكون مثلياً".
ستخسرون يوماً أولادكم وأحفادكم وإخوتكم لأنكم لم تفهموا.
ولكنني أكتفي بغضب لا يتجاوز روحي وبضع كلمات على دفاتري.
المثلية ليست خياراً، لا أحد يستيقظ صباحاً ويقول: "أنا أريد أن أكون مثلياً" .
وأجبن مرات ومرات
وأردد نفس الأغنية مرات ومرات
(اسكتوا ما بقى تجرحوا)
منذ ولادته كان مختلف الطباع ، هادئاً لدرجة القلق عندما كان يسرد مع ألعابه لا أسمع له صوتاً.
لم يقتنِ يوماً أي لعبة من أنواع السلاح ولا دبابة حربية ولا طائرة. حتى السيارات لم يلعب بها كثيراً
كان وما زال جميلاً جداً
جميل الشكل والروح، مفكر ومثقف، ومختلف عن كل جنسه.
لم أنتبه كثيراً لهذا الاختلاف، بل أحببته لأنني أكره الذكورية السامة المتحكمة بحياتنا.
لم يحب الألعاب التي تتضمن العنف وقد كنت فخورة بذلك، لم أفكر يوماً أن أشتري له بارودة في العيد أو حتى مسدساً يرش الماء.
اختار يوماً ما غطاء لسريره بألوان مزهرة، فرحت بذلك لأني كنت أكره هذا التمييز اللوني بين الصبيان والبنات.
ألبسته كل الألوان.
في إحدى المرات كنت أنظر الى صور قديمة وهو طفل صغير، وجدت ملابسه تحمل ألوان الطيف كلها.
قوس قزح له إذاً.
ضحكت صديقتي وقالت: "كنت تلبيسه هذه الألوان وكأنك تتكهنين بمستقبله".
أضحك وأجيب: "لم أفعل أي شيء من أجل أي سبب، سوى أن يكون محباً، يحترم الإنسانية، ويعيش حراً كما يحب ويرغب، ولتكن السكينة رفيقة أيامه".
هذا كل ما فعلته.
أحببتُ أن يكون مثل الورد في النسيم، لمعة شمس دافئة في يوم بارد.
أحببتُ أن يكون ملاذاً آمناً لكل من يعرفه.
أحببتُ أن أربي شاباً يفهم مشاعر النساء ويحترمها.
أحببت أن أزرع فيه كل شيء مختلف عما تربى عليه الرجال في مجتمعاتنا، ولم أفرق بينه وبين أخته.
في سن المراهقة بدأت تراودني بعض الأفكار عن ميوله الجنسية فأمحوها من رأسي. لأنني لم أكن متقبلة لاختلاف ابني ولشعوري بالنفور من هذه الفكرة.
لم أعرف أن اختلاف طباعه هو نفسه اختلاف ميوله وخياراته.
في سن المراهقة بدأت تراودني بعض الأفكار فأمحوها من رأسي.
لأنني لم أكن متقبلة لهذا الاختلاف ولا أريد أن أصدقه لشعوري بالنفور من هذه الفكرة.
عشنا وتربينا على الكره والشتائم لهذه الفئة من الأشخاص.
ولم أكن متاكدة من أي شي بكل الأحوال، كانت كل أفكاري وهواجسي رمادية. ومضت سنو المراهقة بصفاء السماء مرات وغيوم رمادية مرات.
إلى أن بدأت تتضح الصورة أكثر وأصبحتُ أشعر بأنوثة واضحة لا تخفى إلا على من يريد أن يسدل ستاراً سميكاً على أفكاره. ويصم أذنيه ولا يسمع سوى أصوات العادات والدين والتقاليد والرهاب المرافقة لمعظم حرياتنا الشخصية.
حاولت البوح بكلمات هنا وهناك ورمي قصة ما، وشوشة صغيرة لأكون أقرب منه، ولأدخل لقلبه الطمأنينة.
قرأت، سألت، استشرت، اجتمعت مع أصدقاء لي يشبهونه للاستفادة من تجاربهم أكثر وأكثر.
ثم تصارحنا يوماً.
لا أنسى جلستنا في الصالون الذي أمقته في بيتنا الذي لا أحبه ولا أنتمي له بأي شيء سوى هدوئه.
يومها تكلمت مع إنسانٍ مختلف عن الذي أعيش معه تفاصيل الحياة اليومية
وكأنه حضر العبارات والكلمات لأيام وأيام ليكون جاهزاً لهذه اللحظة.
لم أبكِ، لم أنفعل، ولم أنصدم، سمعته فقط.
طلب مني بحرارة أن أسأله وأتحدث عن مخاوفي.
لم يجُل في خاطري سوى أسئلة تقليدية سخيفة عششت بأدمغتنا.
تمنيتُ مع مرور الأيام أن أنساها.
أنهيت الحديث بقولي إنني معه وأحميه كل يوم وفي كل ساعة.
قال لي: "فضلت الصمت لأحميكِ من أبي وجدي وجدتي، وجميع الأهل والأقارب وتكونين بمعزل عن هذه المعرفة".
اعتذر لأنه لم يخبرني باكراً، فقد كانت مرحلة صعبة وجائرة عليه ومرحلة اكتشاف تفاصيل اختلافه.
قال لي: "فضلت الصمت لأحميكِ من أبي وجدي وجدتي، وجميع الأهل والأقارب وتكونين بمعزل عن هذه المعرفة".
ضممته وأويت إلى فراشي مبكرة وحيدة وأطلقت آهاتي ودموعي تحت الوسادة كي لا يسمعني.
بكيت عذابه ووحدته ووجعه، بكيت عجزي ووحدتي.
وبكيت لأنني لم أكن معه بكل تلك المراحل والمشاعر، لم أكن الأم والأخت والصديقة والحضن الآمن في أصعب مراحل شخصيته.
لم أكن من يعوضه عن كل الأوجاع التي مرت به.
صرخت ظلماً وقهراً من كل ما في الدنيا.
بكيت جبني لأنني لا أستطيع أن أواجه الناس والمجتمع والعادات.
لا أستطيع أن أقف وأصارح أباه، عاجزة عن فتح حديث مثل هذا مع أمي التي تحبه وتأمل أن ترى أولاده بأقرب وقت، ولكنني أخذت عهداً على نفسي أن أسعى لإخراجه من هذا المكان ليكون آمناً لا يشعر بالوحدة، ليعود كل مساء الى منزل دافئ ويجد الحب والقبول، ولأكون له حضناً رؤوفاً بعيداً عن رهاب المجتمع.
وعندما حان وقت هجرتنا من دمشق، بكل ما في الكلمة من قسوة ووجع وفقد، كانت روحي سعيدة لأجله.
هجرنا وطننا الذي لا يحمل اختلافنا، هجرنا أهالينا وعاداتنا.
هجرت بيتي الذي لا أحبه على أمل أن يكون لي بيت أحبه وأنتمي إليه.
حينها بدأت أتنفس الحرية وبدأت أسأله وأعيش معه تفاصيل أكثر وأفهم مشاعره وأفهم مجتمع الميم.
وتعلمت المصطلحات والفروق (رغم أنني لليوم أخطىء في مصطلحات، ويضحك تلك الضحكة التي تغزو قلبي).
وتعرفت على اصدقاء له يشبهونه في كل شي، وكانت فرحتي تزداد لأنه يعيش كما يحب ومحاط بمجتمع لا يكرهه ولا يشعره بالقرف.
وحين توفت سارة حجازي اجتاحت روحي عاصفة غضب قوية وقهر كبير وحزن عليها وعلى كل من يشبهها وخوف على ابني بدأ يفتك بقلبي.
ماذا لو لم أستطع حمايته؟ ماذا لو عششت بروحه فكرة الإنكار وعدم التقبل وماذا وماذا؟
كرهت الظلم الذي أطاح بها وبمن هم مثلها.
سامحني.
أنا فخورة بك ومعك، ولن أكتفي بترديد هذه الجملة: "أحبك كما أنت".
هرعت لأحضنه وتشاركنا الحزن والألم والغضب.
أمسكت وجهه بين كفي وقلت له الكثير من كلمات الحب والقبول والفخر.
تمنيت كالأطفال الصغار أن أحمل سلاحي لأحارب الجميع.
ما يهمني أن يتركوا ابني ومن يشبهه بسلام، لهم حياتهم، لم يقتربوا من أحد.
ألا يحق لنا الاعتراف بهم وقبولهم بيننا؟ ألا يحق لنا أن نفتخر بهم في هذا الشهر وفي كل شهر؟
ما زلت في ليالٍ كثيرة لا أنام بسبب دموعي لأنني أشعر بجبني ولا أستطيع أن أصرخ على الملأ بدلاً من ابني.
لا أستطيع ان أجيب على سؤال والدتي متى سنفرح به وبأولاده؟
وها أنا اليوم أكتب لك ودفاعاً عنك وفخراً بك.
والجبن يرغمني على عدم وضع اسمي.
سامحني.
نحن وُجدنا في مجتمع بائس لا يرحم.
عقائده لا تحمل معنى للرحمة.
سامحني.
أنا فخورة بك ومعك وإذا أحببت يوماً الزواج، فسأكون أول الحاضرين في عرسك وسأرقص فرحاً وأغني سعادة.
وإذا أحببت واحتجت يوماً لحضن لأولادك فسأكون سعيدة بذلك مهما بلغ عمري، حينها سأقاتل جبني بكل ما أوتيت من قوة.
وسيكون صوتي عالياً ليسمع الجميع.
ولن أكتفي بترديد هذه الجملة: "أحبك كما أنت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...