لا أزال أتذكر جارنا العجوز. أتذكر صوت الموسيقى الكلاسيكية وصوت أم كلثوم اللذين كانا يملآن أرجاء منزله. أتذكره وهو يتكىء بيده الضعيفة على عصاه، حاملاً العديد من الأغراض حتى لا يضطر لمغادرة المنزل كثيراً. أتذكر أيضاً وقفته في شرفة منزله ليراقب غروب الشمس بشغف شديد.
كنت أتساءل دائماً: لماذا يحيا رجل تخطى الستين من عمره بمفرده؟ وأين هم زوجته وأبناؤه؟ توجهت نحو جدتي، وطرحت عليها هذين السؤالين. فأجابت بأن هذا الرجل لم يتزوج. لذا، ليس لديه أبناء أو أحفاد. ثمّ سألتها بفضول وبكلّ براءة: "ليه متجوزش؟". فأجابت: "سمعت من كذا حد إنه مريض. عنده عجز".كنت أتساءل دائماً: لماذا يحيا رجل تخطى الستين من عمره بمفرده؟ وأين هم زوجته وأبناؤه؟
لم أفهم وقتذاك كثيراً سوى أنّه يعاني من مرض مزمن "يمنعه" من الزواج والإنجاب.
مرت الأيام ووجدت ذلك الرجل يطرق باب منزلنا، فقد كان معتاداً أن يزور والدي باستمرار ليلعبا الطاولة. وكعادتي، كنت أجلس معهما، فقد كنت أحب مجالسة كبار السن لأستقي من خبراتهم الحياتية. وخلال حديثهما، قال الجار العجوز لوالدي عن أسباب عدم زواجه بكلمات ما زلت أتذكرها جيداً حتى الآن. قال لوالدي: "أنا كنت ظابط بحرية ومتعود على الحرية والسفر مقدرتش أتخيل نفسي زوج وأب. حسيت إني مش هكون أد المسؤولية دي ومحبتش أظلم معايا ست وأطفال". ورغم مرور أكثر من عشرين عاماً على ذلك الموقف، تذكرته بكل تفاصيله حين قرأت تصريحاً للإعلامي المصري شريف مدكور، الذي أوضح من خلاله أنه لم يتزوج حتى الآن بسبب عدم رغبته في تحمل مسؤولية زوجة وتربية أطفال "رُضع". وقد لقي ذلك التصريح انتقادات من قِبل روّاد السوشال ميديا وصلت إلى شتمه واتهامه بأبشع التهم، منها أنه غير قادر على إقامة علاقة مع امرأة. حين قرأت نموذجاً من تلك التعليقات، لم ينتبني أي ذهول، فهي نتاج لموروث مجتمعي يرسخ فكرة أن الرجل الذي "يتأخر" في الزواج يعاني أزمة جنسية تعيقه عن الزواج بشكل عام.إنّ الحديث عن عدم الرغبة في الزواج أو الإنجاب - سواء من قِبل الرجال أو النساء - أمر غير مقبول على الإطلاق. بل يعتبره المجتمع خطأ فادحاً وجريمة يجب أن يُجلد عليها الشخص العازب ويتم نبذه والحكم عليه، إما بأنه عاجز جنسياً أو بأنها "امرأة لعوب"
والأمر لم يقتصر على الرجال فحسب بل يشمل النساء أيضاً. وهو ما يتضح من خلال التصريحات التي أدلت بها العديد من الفنانات حول عدم زواجهن حتى الآن، وعلى رأسهن الفنانة المصرية منة شلبي. وللأسف، رواد السوشال ميديا قابلوا تلك التصريحات بأسلوب غير لائق على الإطلاق. واتهموا الكثير من الفنانات أو الفتيات "المتأخرات" في سن الزواج بشكل عام بأنهن لسن بحاجة إلى زواج شرعي. وذلك كتلميح واتهام من البعض "بسوء الأخلاق".
وبرغم مرّ العصور واختلاف الثقافات، فإن الحديث عن عدم الرغبة في الزواج أو الإنجاب - سواء من قِبل الرجال أو النساء - أمر غير مقبول على الإطلاق. بل يعتبره المجتمع خطأ فادحاً وجريمة يجب أن يُجلد عليها الشخص العازب ويتم نبذه والحكم عليه، إما بأنه عاجز جنسياً أو بأنها "امرأة لعوب" ترغب في السير على "حل شعرها" دون وجود رجل يقيد حريتها أو يعترض على تصرفاتها المشينة.أكاد أجزم قبل نشر المقال بأنني سوف أتلقى تعليقات من قبيل أنني أخالف الفطرة التي خلقنا عليها الله. وكأنني أرتكب جرماً حين أنادي باحترام خصوصيات الغير وآرائهم الشخصية
وكأن خانة الحالة الاجتماعية في الرقم القومي هي الأداة التي يدافع بها الشخص عن نفسه وعن سمعته وشرفه في وجه مجتمعات لا ترحم ولا تعترف بمفهوم الحرية الشخصية في اختيار نمط الحياة.
ولن أخفي أنني أخشى أن يتهمني البعض بأنني أروّج لفكرة عدم الزواج والإنجاب. وأكاد أجزم قبل نشر المقال بأنني سوف أتلقى تعليقات من قبيل أنني أخالف الفطرة التي خلقنا عليها الله. وكأنني أرتكب جرماً حين أنادي باحترام خصوصيات الغير وآرائهم/ ن الشخصية التي تمس حياتهم/ ن فقط دون غيرهم/ ن، أو حتى احترام رغبات من يريد الزواج أو لا يريده. ففي النهاية، كل إنسان لديه عقل يستطيع أن يميز به رغباته واحتياجاته، ويستطيع أن يختار الحياة التي تناسبه سواء في اتخاذ قرار الزواج أو عدم الزواج. ويجب أن نعترف أيضاً بأن هناك قدراً ونصيباً مقدرين لكل إنسان. ولا داعي لأن نحكم على غيرنا بأحكام شنيعة، أو أن نقوم بتشويه سمعته واغتياله معنوياً لمجرد أنه يخالفنا الرأي. وأعترف بأنني أكنّ كل التقدير والاحترام لأي شخص يعلم قدرته البشرية على عدم فعل شيء ما. فما فائدة الزواج حين يكون الإنسان غير قادر على تحمل المسؤولية وعلى بناء أسرة وإنجاب أبناء بصحة نفسية جيدة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...