هالني، وربما لم يدهشني، سيطرة الذاكرة الخاصة بالاستعمار والإرهاب على المخيلة الروائية فيما اخترت وقرأت، إلى الدرجة التي دفعت أبرز كتابنا إلى استثمارها إبداعياً، بطريقة مكّنتهم من تحقيق مكانة بين نظرائهم العرب.
توج بجائزة "كتارا" للرواية العربية، في فئة "الروايات غير المنشورة" عن رواية "سفر أعمال المنسيين"، الكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي.
سلَّطت الرواية الضوء على حقبتين تاريخيتين متعاقبتين، حرب التحرير الجزائرية، التي اندلعت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954، ومرحلة الدولة المستقلة بأوهامها وأحلامها.
"ذاكرة الجسد"، هو اسم رواية شهيرة للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، حازت هي الأخرى على جائزة "نجيب محفوظ" عام 1997، بعد صدورها عام 1993 في بيروت، وتحقيقها لنجاح لافت في العالم العربي، لتتحول إلى مسلسل تلفزيوني.
نماذج روائية سلكت اتجاهات فنية وتعبيرية مختلفة... روائيون جزائريون عالجوا مرحلة ثورة التحرير والعشرية السوداء بطريقتهم المتميزة
ورغم تنوع المعالجة بين رواية وأخرى، إلا أن المشترك في معظم ما قرأت استحضار ذكريات أليمة عن المحطات البارزة التي مرت بها الجزائر، انطلاقاً من الحقبة الاستعمارية وصولاً إلى الصراع الذي انطلق في ديسمبر/ كانون الأول 1991.
فكرتُ أن بعض الروائيين (هل أقول معظمهم) باتوا أسرى للذكريات القديمة، المرتبطة بأعمال العنف التي شهدتها البلاد أو التجارب السيئة، يصعب عليهم تخطي الماضي والالتفاف على الحاضر، لنتمكّن ربما من المواصلة والمضي قدماً.
تختلف طرق السرد والكتابة، وتتنوع الشخصيات، وتبقى الذكريات/ الأحداث متشابهة حدّ التماثل، إلى الدرجة التي دفعتني إلى التساؤل: أين واقعنا من خيالكم، وشخصياتكم، وسردكم؟
"بماذا تحلم الذئاب"
استحضر ياسمينة خضرا، وهو اسم مستعار لمحمد مولسهول، في رواية: "بماذا تحلم الذئاب؟" ذكريات أليمة حدثت خلال العشرية السوداء (حرب أهلية تسببت في مقتل عشرات الآلاف من الجزائريين)، ومثله كثر من الروائيين الذين أعادوا رسم ذكريات يصعب نسيانها وتخطيها.
وأحيا ياسمينة في روايته ذكريات مشتركة تعود لواقع مؤلم، وزمن قبيح لم ولن ينسى الجزائريون أحداثه. عبر سرده لحياة شاب جزائري في مقتبل العمر، يحلم باعتلاء خشبة المسرح والتمثيل، لكن أحلامه تبعثرت ليجد نفسه بمرور الأيام راكضاً نحو الجحيم، بعد أن احتضنته تيارات الصحوة الإسلامية، وعمل بشكل سري لصالح الإسلاميين بعد انقلاب 12 يناير/ كانون الثاني في الجزائر، بعدما قرر المجلس الأعلى للأمن إلغاء نتائج الانتخابات، ومن ثم نقله إلى الجبال والغابات للقتال.
هناك، تحول الشاب الجزائري إلى أمير في إحدى الجماعات الإرهابية، ومارس كل فنون القتل والتدمير، ومن أبرز الجرائم التي اقترفها تحت لواء هذه الجماعة نحره لطفل رضيع ومريض.
ونقلت الرواية ما كان يحدث خلال تلك الحقبة في الشوارع والأسواق والأماكن المغلقة، حتى في المساجد، حينما كانت دماء الأبرياء تغطي تراب الوطن، ورائحة البارود تنبعث من كل مكان، حقبة كانت كافية لصلب الأحلام، وإبادتها، ورفعها إلى السماء.
وصورت الرواية التي فضل بعض النقاد تسميتها بـ "ملحمة الدم" المرأة الجزائرية خلال تلك الحقبة كـ "عورة" أو شبيهة بـ "السبية" التي تصطادها "الذئاب البشرية"، ثم تمسي ضحية عملية اغتصاب جماعي، ينفذها إرهابيون، ليتم قتلها في نهاية المطاف بمجرد ظهور أعراض الحمل عليها، أو تصبح زوجة لأحد الأمراء والقادة في غياهب الجبال والغابات.
وتجد نفسها بمرور الوقت أمام سيناريوهين أحلاهما مُر، إما أن تتحول إلى "خائنة" تبحث عن الخلاص أو زوجة مخدوعة، حتى لو تربعت على عرش إمبراطورية.
هذا هو نمط شخصية السيدة "راجا"، التي وجدت نفسها تدفع تكلفة مجتمع، فقد توازنه، واختلت مبادؤه، وتحللت قيمه.
"راجا" ومعظم من كنّ معها من "نساء الجبل"، سلمن أنفسهن في السنوات الأخيرة إلى قوات الجيش الجزائري، رفقة أطفالهن.
بسطاء مناجم الفحم
بأسلوب سردي يغويك بالحزن، تناولت الروائية الجزائرية جميلة طلباوي جزءاً آخر من الذاكرة، يحمل وجعاً وألماً لا يمكن نسيانه، عبر مؤلفها "الغار: تغريبة القندوسي"، الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة في محافظة برج بوعريريج (مدينة تقع شرق البلاد).
رواية "الغار…" تُسلط الضوء على مأساة عاشها قاطنو سكان مدينة "القنادسة" (تقع في الجنوب الغربي الجزائري، تبعد عن العاصمة بحوالي 1020 كلم، وتعرف على أنها أول مدينة جزائرية اشتعل فيها أول مصباح في القارة السمراء بفضل الفحم الحجري).
ما الكتابة عن الآني والراهني، فيقول لنا بن تومي إنها "خارج الشرعية، لأننا كجزائريين لا نملك شكلاً واضحاً عن مفهوم ما هو آني، فالآن والراهن لا يوجد هنا، وإنما يستقر هناك في الماضي، ونحن لا زلنا نصارع ماضينا بكل ما حصل فيه للأسف، لذلك نكتب رواية مشوهة ومجروحة زمنياً"
تفاصيل المأساة التي لا زال أهل "القنادسة" يتداولونها إلى اليوم، تتعلق بعمال المنجم الذين ودعوا الحياة بين نيران الألم والقهر والفقر، في ظل الاحتلال الفرنسي، بعد أن نخرت الأمراض الفتاكة أجسادهم، كما هو الوضع بالنسبة لـ "سالم" في الرواية، أمراض مثل سرطان الرئة أو ما يعرف علمياً بـ "السيليكوز" الذي انتشر كثيراً عام 1908 بسبب اكتشاف التراب الأسود اللامع أو الفحم الحجري، وقائع تاريخية يرويها والد الفقيد "سالم"، الذي ما فتئ يستحضر هذه الذكرى السيئة.
الاكتشاف، بالنسبة للمستعمر الفرنسي، كان بمثابة "مشروع حضاري" لأنه سيعود بأرباح طائلة عليه، لكن على حساب أبناء مدينة "القنادسة".
عام 1917، وصفته الكاتبة داخل المتن السردي "الحقبة المظلمة في حياة أبناء مدينة القنادسة البسطاء"، "فهو التاريخ الذي اُستخرجت فيه أول كمية من الفحم، والضريبة التي دفعها العمال البسطاء الذين انهار عليهم المنجم، وقضوا، في يوم لبست فيه القنادسة وشاح الحزن".
"الحركي" يعني الخائن
سلط محمد بن جبار في روايته "الحركي" الضوء على قضية "صامتة ومغيبة" في المتون الروائية الجزائرية، تتعلق بـ "الحركي" والذي يعني "العميل" أو "الخائن" ويطلقها الجزائريون على الذين حاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية الممتدة بين 1954 و1962، كلهم حملوا السلاح ضد أبناء وطنهم، واعتمدوا أسلوب "الوشاية" لكشف مخططات المجاهدين (قدماء المحاربين الجزائريين) للمستعمر الفرنسي.
في هذا العمل، ينقل بن جبار مذكرات أحمد بن شرف، شخصية محورية في الرواية، يتقاعد من الجيش الفرنسي سنة 1988، بعد أن انحاز لخدمة المستعمر.
اكتشفت، وأنا أقرأ الرواية، أسباباً تخص شخص المؤلف بن شرف، دفعته لتوثيق حياته، أبرزها استحالة عودته إلى الوطن الأم، وإصابته بـ "الزهايمر" أو (خرف الشيخوخة) إذ كتب: "أنا في سباق ضد الزهايمر اللعين".
صراع مع الماضي
"الرواية الجزائرية ضعيفة من جهة معالجتها لما نسميه بالآني والراهنية، لأنها تتعلق أساساً بمسألة الشرعية الأدبية، التي تنتمي إلى احترام التقاليد التاريخية، التي تنتمي بدورها إلى ثقل تاريخي يحتفي بالثورة"، يقول الدكتور اليامين بن تومي، الأكاديمي والباحث الجزائري، المتخصص في تحليل الخطاب، والنظرية النقدية، والسيمياء، والآداب العالمية.
أما الكتابة عن الآني والراهني، فيقول لنا بن تومي إنها "خارج الشرعية، لأننا كجزائريين لا نملك شكلاً واضحاً عن مفهوم ما هو آني، فالآن والراهن لا يوجد هنا، وإنما يستقر هناك في الماضي، ونحن لا زلنا نصارع ماضينا بكل ما حصل فيه للأسف، لذلك نكتب رواية مشوهة ومجروحة زمنياً".
"الرواية هي التوثيق للواقع وأحداثه وكتاب التاريخ" بحسب الناقدة والباحثة الجزائرية فوزية بوغنجور، فـ"هي تنبني على الحساسية الفنية، التي تثير انفعال الكاتب بحدث، موقف أو تجربة ما، وبالتالي فالكتابة الروائية هي تعبير انفعالي لكنه يحتاج إلى سياقات ما، ومساحة زمنية كافية حتى لا يقع الكاتب في الاستسهال أو الاستعجال، الذي قد يفقد نصه العميق حين لا يجاوز سطحية الحدث/ الانفعال.
وتضيف فوزية: "كما يحتاج لبيئة فكرية معينة تسمح بمساحة من الحرية، وإلا فإن الكاتب لن يستطيع التطرق لأحداث بعينها في وقت ما بسبب ما قد يقع من تحته من إكراهات تحد من حريته".
العشرية السوداء
"عالج روائيون عديدون مرحلة ثورة التحرير والعشرية السوداء حتى حقبات سياسية معينة، وما تخللها من أحداث، كالحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر في 22 فبراير/ شباط الماضي، ويمكن هنا ذكر نماذج سلكت اتجاهات فنية وتعبيرية مختلفة".
ومن بين هذه الأعمال، تذكر فوزية بوغتنجور، تجربة "طير الليل" للكاتب الجزائري المغترب، عمارة لخوص، الذي كتب عن ثورة التحرير بواقعية وإثارة لقضايا الراهن، إلى الدرجة التي مثلت فيها نصاً إشكالياً منذ بدايته، يعمل على خلخلة مسميات ومسلمات، تعودنا عليها كالعنف أو النضال.
وتعود الناقدة الجزائرية للحديث عن "العشرية السوداء" في الرواية، وتقول إنها "اعتمدت مساحة زمنية كبيرة، غطت مراحل عديدة، ولكن أهم ما فيها هو العمق الذي طرحت وعالجت به قضايا أحداث عاشتها وتعيشها الجزائر"، وتستحضر رواية "وادي الحناء" للكاتبة الجزائرية جميلة طلباوي، فمنذ البداية تتحدث عن العشرية السوداء، ولكنها تتحدث في العمق عن رفضنا القطعي والعنيف للمختلف لوناً، وبالتالي فكراً ومذهباً، إنها تدعونا منذ البداية للتفكير في أسباب ونتائج ما عشناه في التسعينيات ونعيشه اليوم".
"وكتبت نصوص أخرى عن الحراك ولكنها كانت متسرعة واستعجالية، حتى لا أقول أنها اعتمدت الاستسهال في مقاربة حدث مهم وخطير، لعله كان يحتاج مساحة زمنية بما يتناسب مع خطورته وأهميته".
واستدلت الناقدة الجزائرية برواية "الباش كاتب" للروائي الجزائري أمين الزاوي (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف 2020) وهي أحد الأعمال الأخيرة التي ترصد ظاهرة الحراك الشعبي، وكذلك رواية "الحماقة كما لم يروها أحد" للروائي الجزائري سمير قسيمي.
تعلق بوغتنجور: "نصوص بسيطة جداً، حتى لا أقول سطحية، كانت تحتاج إلى الاشتغال الذي لا يمكن أن يستغني عن الوقت لينضج، وإلا ما كان يمكن أن تكون إلا في النهاية كما وجدتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...