يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي، المحرر الضيف في رصيف22 لشهر حزيران/يونيو
لا نزال حتى الآن، لا نعرف ماهية المشاعر تمام المعرفة. حاول علماء الأحياء، كعادتهم، زنق المشاعر كغيرها من المواد محل الدراسة في أنبوب اختبار للوقوف على ماهيتها والتعامل معها حصراً ضمن نطاق المحسوس. لكن مقاربتهم التي تميل إلى اعتبار المشاعر تفاعلاً بيولوجياً ينتج عنه ما يمكن أن نراه من احمرار وجنتين أو رعشة أو ما سواها لم تلقَ، لحسن الحظ، هذا القبول.
احتجّ علماء الاجتماع على هذا التعريف أو المقاربة لفهم الشعور، فاقترحوا أن الشعور هو خلاصة المخزون الثقافي للفرد، يمتثل فيه للنظام الاجتماعي، الذي يقوم بما يشبه البرمجة لأفراده، بحيث يحرّك فيهم استجاباتٍ معينة لمواقفَ معينة. هذه المقاربة أيضاً تبعها تملمَلٌ من علماء النفس وبعض علماء الاجتماع الذين رأوا المشاعر كتجربة وعي. والوعي هذا، يأتي من تجربة الفرد ومن مخزونه الثقافي على السواء.
وقد كان أن سلّط الله الساسةَ على مشاعرِنا، إذا هم وعوا بمنفعة المشاعر، فضُخّ المزيد من الأموال في الأبحاث المتعلّقة بفهم المشاعر وتكوينها. ونما اتجاهٌ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ينشغل بالمشاعر وصلتها بديناميكية القرار السياسيّ من أعلى إلى أسفل، والعكس.
وكان من تجليّات هذا الوعي، التحول الحاصل في منصّات التواصل الاجتماعي، التي انتبهت هي الأخرى إلى سوق المشاعر، فسعى الفيسبوك على سبيل المثال، إلى تنويع تفاعلاتنا على المنشورات من "أعجبني" وحسب، إلى تفاعلات أكثر دقة وتعبيراً عما يجول في خواطرنا. صنّف فيسبوك هذه المشاعر وأرشفها، ثم عرضها للبيع!
وعلى عكس ما نظن، من خصوصية في المشاعر والشعور فإنها ليست كذلك تماماً، فالمشاعر خاصة، وجمعيّة في آن. ذلك أن مشاعر معينة يحملها أحدهم تجاه حادثة معينة تعكس وتخبر إلى حد بعيد من هو، وبمَ يؤمن، وإلى أي مجموعة من الناس ينتمي.
ولكي أمضي إلى هذا بتفصيل أكبر سآخذ من المشاعر "الخوف" مادة هذا الملف، وأتتبعه في تجليّاته. والخوف، لحسن الحظ أيضاً، من بين أكثر المشاعر التي استُهدِفنا كجماهير من خلالها عبر عقود. أي أنه، إن شئنا وضع تعميم ما، إحدى نقاط ضعف الجماهير التي يسهل عبرها اختراق إجماعهم، مواقفهم، وقناعاتهم.
الخوف كتجربة انتماء قومي/وطني
في أولى صفحات مذكراتها، تذكر غولدا مائير، وهي من بناة دولة الاحتلال الإسرائيلية ورئيسة وزرائها الرابعة، أن شعورها بالخوف هو أوضح ما يمكنها استدعاؤه من ذاكرتها كطفلة. وأيّاً كان ما يعتقد القراء حيال عبارة مائير هذه، إلا أن الخوف والصدمة بالفعل مكونان أساسيان في تركيبة الشخصية الإسرائيلية. لقد قامت هذه الدولة على إرث السردية المرعبة لما تعرض اليهود في أوروبا. فكان الخوف أحد محرّكات حشد سكّانها والمتعاطفين معها.
تذكر غولدا مائير في مذكراتها، وهي من بناة دولة الاحتلال الإسرائيلية ورئيسة وزرائها الرابعة، أن شعورها بالخوف هو أوضح ما يمكنها استدعاؤه من ذاكرتها كطفلة. وأياً كان ما يعتقد القراء حيال عبارة مائير هذه، إلا أن الخوف والصدمة بالفعل مكونان أساسيان في تركيبة الشخصية الإسرائيلية
ولم يكفِ قيام الدولة ليصبح الخوف أمراً من الماضي. إذ كُرّست تجربة يهود أوروبا لتصبح تاريخ اليهود أجمعين، بينما هي ليست كذلك. لكن الخوف صار وطناً. وصار بقاؤه سبباً لبقاء الوطن/الفكرة، فشُيّد له متحف، إذ بنت إسرائيل للمحرقة/الهولوكوست متحفاً هائلاً باعتبارها الذاكرة الوطنية لسكّان البلاد ومبرراً "شرعيّا" لقيام الدولة.
وعُظّمت ذكراه وصار التشكيك في وقوعه أو في حجم المأساة وأرقامها جريمة يمكن أن تقضي على مستقبل صاحبها. وبذلك، فإن جزءاً من انتماء الإسرائيلي لبلاده، حتى وإن كان يهودياً شرقياً أو إفريقياً من الفلاشا، يعدُّ ناقصاً إن لم يتبنَّ المأساة والخوف الباقي على إثرها كتاريخ شخصي. وهو تماماً ما يخبرنا الباحث والمؤرخ ويليام ريدي في كتابه (2001) The navigation of feelings من أن المشاعر، إلى حد بعيد، تشكَّلُ جماعياً. أي أن انتماءنا لمجموعة ما أو لثقافة ما يؤثر في شكل استجابتنا لأحداث بعينها.
وبالعكس فإن التجربة المشتركة تخلقُ هويةً وانتماء. بمعنى، أن المرور بتجربة شعورية بشكل جماعي يسهم في تكريس ما يسمى بالذاكرة الجمعيّة، التي تُعرّف بأنها عملية تقوم ليس فقط على استدعاء الماضي، وإنما إعادة إنتاجِه حسب متطلبات الحاضر واحتياجاته. وهكذا فإن ذاكرة الخوف لا تُستدعى فحسب، وإنما يعاد إنتاجها بشكل دائم ليبقى المجتمع مشدوداً إلى خيط ما، يُرسل ويُجذب حسب احتياجات اللحظة.
صناعة الخوف
وهذه صناعة مربحة. سنقاربها أولاً من جهة الإرهاب، فالإرهاب يعرّف عموماً بأنه الاستخدام "غير المشروع" للعنف، بغرض التأثير على فئة مستهدفة، عبر إيقاع الخوف والرهبة في نفوسها. وبذلك فإن العنف بذاته ليس غاية الإرهابي، وإنما الأثر الواقع في النفوس؛ الهشاشة التي نشعر بها ونحن نرى ناطحتي سحاب "مبنى التجارة العالمي" وهما تهويان كرَماد ينفرط من عقب سيجارة؛ الفزع الذي تتفقد به بقايا شارع ضربته سيّارة مفخخة؛ العبثية حيال رؤية جسد، كان للتو مليئاَ بالحياة، يهوي إثر رصاصة مفاجئة وينطفئ بأسرع من كبسة ريموت كونترول، أو غيرها من تجليّات للخوف في مشاعر أكثر تركيباً وتحت مسميات أخرى.
الخوف يأتي دائماً مصحوباً بالأمل. الخوف من وقوع الشيء هو أمل في النجاة منه
ولأن الأثر هو الأهم، يكون على صانع الخوف أن يوصل بضاعته إلينا توصيلاً. فيأتينا به ونحن جالسون على أريكاتنا أو ونحن نحرك أصابع إبهامنا على شاشة هواتفنا المحمولة. لذلك فإن تصوير الحدث ونشره عبر الإعلام والمنصّات الأخرى أهمّ من الحدث نفسه. وإلا فلماذا تقوم "داعش" وسواها بتصوير عمليات قطع الرؤوس وحرق الأجساد وبثّها؟ إلا لأن القتل بذاته ليس الغاية؟ الغاية أن نُرهَب وتَرهَب فيقع في نفسك الأثر المنشود من قتل سواك.
وسيكون من المؤسف قول التالي، لكنني سأقوله: عدا استخدام العنف "غير المشروع" -والمشروعيّة كثيراً ما تكون محلّ نقاش- فإن استراتيجياتٍ شبيهةً تمارَسُ من قبل الدول على مواطنيها. سياسةُ الخوف أو ما يسمى politics of fear هي استراتيجيات تصنع الخوف، أو على الأقل تستثمر فيه بغرض تمرير أهداف وأجندات معيّنة ما كان ليقبل بها المواطنون لو كانوا أقلّ خوفاً. السلطات، إن لم تصنع الخوف صناعة، فإنها تحاول الاستثمار في الهلع المترتب على الإرهاب لصالحها. الغزو الأمريكي للعراق وحشد الشعب لأجله مثال لذلك.
مثال آخر لسياسة الخوف وهو غير ذي صلة بالإرهاب، يتمثل في صورة قريبة للذاكرة لنا ونحن نعقّم أيادينا مئات المرات، نلثّم وجوهنا، نخاف احتضان أحبابنا، ونقبل طواعية بتحميل تطبيقات التعقّب الحكومية على جوّالاتنا. والحق، إنه ما كان لهذا الامتثال والانضباط أن يحدث دون آلاف الصور لجثث لا تجد مدافن، ومشافٍ تغلق أبوابها في وجه مرضاها وأطباء ينهارون باكين من التعب وحجم "المأساة". ما كنا، لسنتين، ننقاد هكذا دون الخوف.
"خَوْفاً وطَمَعاً"
في رواية انقطاعات الموت (2005) يحدث أن يتوقف الناس عن الموت فجأة ويتكدّس الأحياء في الأنحاء. يخبرنا جوزيه ساراماغو كيف أن النظام الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي يدخل في حالة ارتباك من جرّاء انقطاع الموت. ومن بين من يُسقط في أيديهم رجال الدين، إذ يُفرِد لهم صفحات وهم في حيص بيص يحاولون إعادة تدوير الحكاية الخاصة بالآخرة والعقاب، إذ كيف يؤمن الناس من دون أن يخافوا؟
يخبرنا ويليام ريدي في كتابه السابق ذكره، أن الخوف يأتي دائماً مصحوباً بالأمل. الخوف من وقوع الشيء، هو أمل في النجاة منه. ويقول القرآن "يعبدون الله خوفاً وطمعاً". لذلك فإنه إضافة إلى الأمل، أو ما أسماه النصّ القرآنيّ "الطمع" -بمعنى الأمل في الرحمة وحسن الجزاء-، الخوف إذاً مكوّن أساس في فكرة الدين القائمة على ثنائية الثواب والعقاب.
هكذا، فإن الخوف الذي يستفرد بنا في الظلام، الكوابيس أو حتى مع صوت فيروز وهي تكرّر "خايف" مرات قبل أن تكمل "أقول اللي في قلبي"، ينال منا جماعاتٍ أيضاً. وهو، بيد من يملك بثّه في أنفسنا، عصاة سحرّية. الخوف وطن وقبيلة، والخوف ذاكرة جمعية، الخوف موقف، والخوف معتقد، والخوف أمل ألا يحدث ما نخاف..
والخوف رغم هذا، ليس بذلك السوء إن شئت. إذ أنك لو نزعته من كل النواحي السابق ذكرها، سيكون عليك إيجاد طريقة ما لتدبّر أمر الامتثال والانضباط الذي تستوجبه الأنظمة، أي أنظمة، اجتماعية، سياسية، ودينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين