شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
علي ولد زايد… الحكماء الفلاحون في

علي ولد زايد… الحكماء الفلاحون في "ديانة" اليمن السرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 2 أغسطس 202211:00 ص

عرفت الثقافة اليمنية منذ آلاف السنوات قبل الميلاد، ظاهرة الحكيم الفلاح، أو ما يُعرف بالحكماء الزراعيين أو شعراء الأحكام، في جنوب وجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، الذين كانت مكانة نصوصهم تضاهي النصوص الدينية، والمرجعيات المقدسة بالنسبة إلى السكان المحليين في اليمن القديم، الذين تناقلوا تلك النصوص جيلاً عن جيل، كجزء من الهوية الجماعية، وهي ظاهرة أدبية زراعية شفاهية، تنتمي بالأساس إلى أدب العالم القديم، ويحضر هؤلاء الحكماء في هيئة أسطورية أكثر منها تاريخية، بسبب مجهولية شخصياتهم، التي لا يُعرف تحديداً متى عاشت، وأين.

وكان أهالي القرى في أرياف اليمن يحتكمون إلى أقوال هؤلاء الفلاحين الحكماء، حتى بعد نزول الإسلام، وصولاً إلى عشرينيات القرن الماضي، وكانوا كثيراً ما يفضّلونها على نصوص القرآن الكريم، معتبرين الحكيم بمثابة مرجعية موازية للمرجعية الدينية، ونصوصه بمثابة الأحكام التشريعية.

ولا زالت أسماء شعراء الأحكام اليمنيين، مثل: علي ولد زايد، الحميد بن منصور، شرقه بن أحمد، أبو عامر، حزام الشبثي وسعد السويني، حاضرة بقوة في الوجدان الزراعي اليمني، الذي يستدعي أقوالهم المتصلة بأعمال الزراعة وشؤون الحياة المختلفة.

وألبس الأهالي هؤلاء الحكماء الشعراء لباس القدسية؛ إذ ألحقوا باسم الحكيم "علي ولد زايد"، لقب صلى الله عليه وسلم، تشبهاً بنبي الإسلام محمد، وغلّفت تلك الشخصية الأساطير؛ فقد كان السكان المحليون يعتقدون أن ذلك الرجل عاش سبعة أعمار وليس عمراً واحداً كما البشر، زاعمين أن عليّاً كان كلما أصبح عجوزاً مستنداً على عكاز، يعود شاباً من جديد في اليوم التالي، وأنه كانت له كرامات أو قدرات خارقة، كأن يعرف متى يهطل المطر ومتى يهاجم الجراد القرية.

ظلال لشخصيات آلهة

وفي كتابه "ديانة اليمنِ السّريَّة… ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي"، الصادر عن دار أروقة للدراسات والنشر والترجمة ومركز رؤية للدراسات، والذي يقع في 459 صفحة، يكشف الباحث والكاتب اليمني، الدكتور أحمد الطرس العرامي، أننا أمام ظاهرة أدبية شعبية باليمن تعد امتداداً للأدب الزراعي الديني اليمني الذي سبق ظهور الإسلام بوقت طويل، بل سبقت جميع الديانات السماوية، وهي بمثابة أصداء لملاحم دينية زراعية سبق أن تفككت.

ويعتبر الباحث أن شخصيات الحكماء الفلاحين هي بقايا أو ظلال لشخصيات آلهة أو أنبياء أسطوريين زراعيين تنكروا، معتبراً تلك الظاهرة أحد أشكال مقاومة الثقافة الشعبية المغلوبة، ومن صور مقاومة الديانات الزراعية القومية للديانات السماوية، ونموذجاً حياً من نماذج تحولات الأساطير في المكان وعبر الزمن.

ويقارن الكتاب بين أساليب نصوص الحكماء الزراعيين ورمزياتها ودلالاتها الاجتماعية، مقدماً مقاربة ميثولوجية بينها وبين الأدب العربي الجاهلي، ونماذج أدبية من اليمن القديم، وبعض النماذج من النصوص الأدبية لحضارات آشور وبابل والحضارة الإغريقية، مشيراً إلى أن الحكماء الفلاحين اليمنين أشبه ببقايا الملوك اليمنيين الذين فشلوا في التحول إلى أنبياء أو أنصاف آلهة، فتنكروا في ثياب حكماء، مُشكّلين ظاهرة ديانة اليمن السرية.

ويوضح الكتاب أن الشاعر الحكيم أو الحكيم الفلاح في الذاكرة الشفاهية كان أشبه ببطل شعبي جماعي، يخلص في شعره للحكمة ويقدمها للجماعة، وتكمن بطولته في الأقوال لا الأفعال، وتتمثل تلك الأقوال في الأناشيد والأحكام الاجتماعية الزراعية، وكان لا يقول الشعر إلا حكمة، ولا يقول الحكمة إلا شعراً، كما كان يقول شعر الهجاء والرثاء والغزل والمديح، وهي الأشكال التي اشتهر بها الشعر العربي ولا سيما في العصر الجاهلي.

لكل قبيلة إله

ويفترض الباحث في الفصل الأول من كتابه، المعنون بـ"ظاهرة الحكيم الفلاح في الثقافة الشعبية ملاحم تفككت وأنبياء تنكروا"، أن هؤلاء الحكماء الشعراء كانوا في المخيلة الشعبية بمثابة شخصيات إلهية في الديانات اليمنية الزراعية، هبطت إلى مستوى بشري، حيث عبد اليمنيون القدماء آلهة كوكبية فلكية تتصل بالزراعة وأعمالها، فكان القمر هو المعبود الأساسي لهم، ثم جاءت بعده الشمس ثم كوكب الزهرة، كما عرفوا آلهة ثانوية أخرى اختلفت أسماؤها وتعددت وظائفها؛ حيث كان لكل شعب أو قبيلة إله قومي خاص يعتبرونه حامياً لهم، ورابطة تربط بين وحدات المجتمع، وقد تركز كمٌّ كبير من النقوش المسندية التي تركها اليمنيون القدامى في مناجاة الآلهة، لمنحهم الخير والعطاء، ومباركة زراعتهم ومحاصيلهم وجعلها زاخرة بالثمار والغلال، وسقيها بالغيث وحمايتها من الأوبئة والأمراض، فطلبوا منها الشفاء وتقربوا إليها، وربطوا بينها وبين مختلف المناسبات والأحداث، ولقد تميزت هذه الآلهة بالتعدد والكثرة قبل أن ينتهي ذلك إلى التوحيد، في مرحلة متأخرة قبل ظهور الإسلام.

كان السكان المحليون يعتقدون أن ذلك الرجل عاش سبعة أعمار وليس عمراً واحداً كما البشر، زاعمين أن عليّاً كان كلما أصبح عجوزاً مستنداً على عكاز، يعود شاباً من جديد في اليوم التالي، وأنه كانت له كرامات أو قدرات خارقة، كأن يعرف متى يهطل المطر ومتى يهاجم الجراد القرية

ويعتبر الباحث أن الحكيم الفلاح شرقه بن أحمد، الذي اشتهر برفع مياه الآبار في بعض مناطق محافظة البيضاء، هو امتداد أو هبوط لشخصية "عثرت شرقن" أحد آلهة الديانات الزراعية باليمن، والذي يرتبط بالمطر، بينما الشاعر الحكيم سعد السويني، المختص بالسقاية والذي اشتهر في حضرموت، فيعتبره المؤلف هبوطاً لشخصية "سين" الذي كان أحد الآلهة القديمة في ثقافة حضر موت، ويختص بالسقاية، ويربط أيضاً بين اسم هذا الحكيم وبين "ثعد سين" الذي ورد في نقش حضرمي قديم.

ويحاول الكتاب في الفصل الثاني، مستعيناً بقائمة من 97 من المراجع/ الكتب، وعشرات الدراسات والمقالات، بجانب شهادات عدد من الفلاحين والشخصيات المهتمة بهذه المحفوظات الشفاهية في اليمن، أن يربط بين الأدب الزراعي اليمني والأدب الزراعي الإغريقي، مقدماً عشرات الأمثلة الأدبية للتناص بين الظاهرتين، على مستوى البنية والخطاب والمضمون، حيث تشبه نصوصاً وآداباً قديمة، مثل: "ملحمة الأعمال" و"الأيام" للشاعر الإغريقي وأول فيلسوف فلاح هيسيود أو هزيود، الذي عاش في الفترة بين عام 650 إلى 750 قبل الميلاد، وتعد ملحمته واحدة من أقدم النصوص الزراعية في تاريخ الأدب الإنساني، مُحلّلاً الدلالات التي تحملها الحكايات، والأنساق الأسطورية وعلاقاتها التناصية، كما يقارن بين الشعراء الحكماء اليمنيين، وبين أنبياء الفلاحة النبطية الذين ذُكروا في كتاب الزراعة النبطية أو الفلاحة النبطية، لمؤلفه أبي بكر ابن وحشية، وهو واحد من الكتب النادرة في الثقافة العربية.

ويواصل الكاتب تركيزه على شخصيتي الحكيمين، علي ولد زايد والحميد بن منصور، والذي بدأه في الفصل الثاني، مستعرضاً في ثالث فصول الكتاب المعنون بـ"الإله النبي متنكراً: أنساق الألوهية والتخفي"، التشابه الكبير بين نصوص الحكيم اليماني ونصوص هزيود، مركزاً على أسطورة علي ولد زايد المرتبطة بالدولة الحميرية، والنسق الكهاني لتلك الشخصية، ثم ينتقل لأسطورة الحميد بن منصور الذي تجاوزت شهرته حدود اليمن، مشيراً إلى نقوش الحضارات القديمة التي تتشابه مع تلك الأسطورة.

كما يتطرق إلى ثيمة صراع الحميرية - اليهودية في أدبيات الظاهرة، وحضور أسطورة صراع الفلاح - الراعي التي تعددت صورها في آداب العالم القديم، وما يُعرف تاريخياً بـالفلاح القحطاني والراعي العدناني.

ويشرح الباحث كيفية إعادة إنشاء الحكاية الأسطورة، وكيف أصبح الإله بشراً في الديانة الزراعية اليمنية، مستعرضاً أسطورة المرأة الخائنة والإخلال بالطقس الجنسي المقدس، وطقوس الإخفاء والحيلة والإبدال الذباحي.

بقايا أدب ديني زراعي قديم

ويؤكد أحمد الطرس العرامي، مؤلف الكتاب، في حديثه لنا، إن تاريخ اليمن في النقوش المكتشفة يعود إلى حوالي 3000 ق.م، وقد شهدت حضارة زراعية لا تقل أهمية عن باقي حضارات الشرق القديم، ومثّل الموقع الجغرافي لليمن أهمية استراتيجية جعلها حلقة وصل بين الشرق والغرب من خلال طريق البخور، مشيراً إلى وجود نقوش بخط المسند اليمني، عثر عليها في كل من وسط وشمال شبه الجزيرة العربية، مصر، الإمارات، اليونان وأفريقيا، ما يوضح أن اليمن لم يكن في عزلة إلا بعد فقدان طريق البخور أهميته، بعد اكتشاف الرياح الموسمية التي جعلت السفن التجارية القادمة من الهند تسلك البحر الأحمر.

المصادر، خصوصاً الإسلامية، ركزت على الثقافة الرسمية وتجاهلت الثقافة الشعبية الأصلية للمجتمعات، ولكن لا يوجد ثقافة قضي عليها تماماً، وفي اليمن ثمة مقاومة كبيرة، حتى أن كثيراً من ثقافة المجتمع وموروثه ما زالت على علاقة باليمن القديم، كظاهرة الحكماء الفلاحين

ويوضح العرامي أن ظاهرة الحكماء الفلاحين، خصوصاً علي ولد زايد والحميد بن منصور، كانت محيرة، انطلاقاً من مجهوليتها وخصوصيتها في الثقافة الشعبية، مشيراً للتشابه في أقوال علي ولد زايد والحميد بن منصور من جهة، وأحمد بن عروس، الشاعر المعروف في مصر وتونس، وعبد الرحمن المجذوب، المعروف في المغرب وتونس والجزائر، مؤكداً أن الحكماء اليمنيين ظاهرة فريدة في الأدب الشعبي اليمني، أقرب ما تكون إلى أدب ديني زراعي قديم، يشبه الفلاحة النبطية والأدب اليوناني القديم ممثلاً في هزيود الإغريقي، معاصر هوميروس، مضيفاً أن الكتاب استغرق منه حوالي 3 سنوات من الجهد المتواصل واليومي.

ثقافة حية

ويرى العرامي أن المصادر، خصوصاً الإسلامية، ركزت على الثقافة الرسمية وتجاهلت الثقافة الشعبية الأصلية للمجتمعات، ولكن لا يوجد ثقافة قضي عليها تماماً، وفي اليمن ثمة مقاومة كبيرة، حتى أن كثيراً من ثقافة المجتمع وموروثه ما زالت على علاقة باليمن القديم، كظاهرة الحكماء الفلاحين، موضحاً أن ما يميز ظاهرة الحكماء الفلاحين هو الترميز والطابع السري، بالإضافة إلى التهذيب والتنقيح الذي يبعد عنها كل أنساق وثنية، مُرجّحاً أن يكون الطابع السري جزءاً من طبيعة الظاهرة نفسها، نظراً لعلاقتها بالهرمسية، ولكن كان في الفترة الإسلامية، ترميز تتضمنه الحكايات الشعبية التي تقود المتلقي لسماع أقوال الحكيم واتباعها بطريقة غير مباشرة، بأنساق تحاول جعله فاعلاً يؤدي وظيفته، كما نجد شواهد من عشرينيات القرن الماضي، حين كانت الزيدية تسعى لمذهبة الثقافة الشعبية وتغييرها.

ويُبيّن الباحث أن الحكيم الفلاح لم يتحول إلى إله، ولكن الفرضية تقوم على أساس أننا أمام آلهة أو أنصاف أنبياء حكماء فلاحين (نمط من الشخصيات النبوية في المجتمعات الزراعية)، لهم ملاحمهم، أي نصوصهم المنسوبة إليهم، والتي تعالج الرؤية الأسطورية ذات الهوية الفلاحية، والمعرفة الفلاحية العملية والاجتماعية، وقد بقيت هذه الشخصيات والنصوص في الثقافة الشعبية، متداولة عبر الزمن، ولكنها هبطت بفعل المتغيرات والتحولات إلى شخصيات كما لو كانت حقيقية أو تاريخية، أي دنيوية، ونصوصهم تهذبت وتحولت إلى حكمة شعبية.

الموروث الشفاهي في اليمن

يُعلّق الباحث والناقد اليمني، محمد علي، على ظاهرة الحكيم الفلاح، قائلاً لنا: "إننا أمام جماعة لم يمس الإسلام تصوراتها العميقة، لذلك ذُهل فقهاء الزيدية إذ وجدوا أنفسهم أمام مجتمع مضى على دخوله الإسلام حوالي 14 قرناً، ومع ذلك عليهم أن يحاربوا فيه ما كان الإسلام يحاربه في قرونه الأولى".

ويعتبر محمد أن الكتاب قد فتح الباب على حقل خصيب للدراسات والإمكانات التي يوفرها الموروث الشفاهي في اليمن، وقلّ من يهتم به، فإنه يستمر بطرح مسائل أخرى لعلها أكثر تعقيداً، مثل رمزيات قصة الملكة بلقيس ولقائها بسليمان، والعلاقات المفترضة بينها وبين قصة مشابهة في التراث الشفاهي اليمني ومعتقداته القديمة، وقضية الصراع القديم بين شمال الجزيرة وجنوبها، وتنافسها على النبوة والمركزية الدينية، وإذا ما كانت نبوة الأسود العنسي آخر ارتعاشات هذا الحلم.

وينهي محمد علي حديثه مشدداً: "حكماء الفلاحة في اليمن ليسوا أقل من بقايا أولئك الملوك اليمنيين الذين فشلوا في التحول إلى أنبياء أو أنصاف آلهة، فتنكروا في ثياب حكماء، مكونين لنا ظاهرة شفاهية مثيرة هي ظاهرة ديانة اليمن السرية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image