في يوم السبت، 28 أيار/ مايو، عاشت جميع المدن الفلسطينية حالة من الترقب والانتظار لمسيرة الأعلام الإسرائيلية في القدس، وما قد ينتج عنها من تصعيد، لكن في غزة، كان ثمة ترقب من نوع خاص، وسط تكهنات باندلاع عدوان إسرائيلي جديد على المدينة المحاصرة، لكن هذا لم يمنع الغزيين من متابعة دوري أبطال أوروبا، وكحال العديد من دول عربية كثيرة، انقسم المشجعون ما بين نادي ريال مدريد نادي ليفربول، أو كما يعرف باسم "نادي محمد صلاح".
العديد من الصور التي تنتشر من داخل المقاهي والكافيهات في المدينة، تظهر الازدحام في هذه الأماكن قبل بداية المباراة، وهو ليس بأمر غريب لدى محبي كرة القدم، ففي غزة، كغيرها من المدن، لا يمكن إخفاء شغف الناس بكرة القدم، على الرغم من الأوضاع الكارثية التي تمر بها المدينة بفعل الحصار والحروب الإسرائيليّة المتتالية على مرّ السنوات السابقة. هذا الشغف ليس مقتصراً على فرق بعينها، لأن هناك متابعين للدوري الأرجنتيني، ومشجعين لنادي "بوكا جونيور" الذي لعب فيه مارادونا كونه نادي الفقراء، وذلك على الرغم من اختلاف توقيت عرض المباريات، والتي عادة ما تكون في ساعات الصباح الباكر، ومن رأى المقاهي أثناء مباراة ليفربول ومدريد، سيسمع الهتافات والصراخ أمام أي فرصة لهدف ممكن، خاصة مع هجمات محمد صلاح، كلّ ذلك على وقع صوت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية الهادرة في سماء المدينة، لكن صوت الطائرات، لم يكن أعلى من هتافاتهم، فأهل غزة يعرفون تماماً الفرح الذي تقدمه كرة القدم، في مدينة محاصرة منذ أكثر من 15 عاماً.
الكهرباء وكرة القدم... عدوان في غزة
ليست كرة القدم الرياضة الوحيدة التي تأسر الآلاف في غزة، فهناك رياضات أخرى لها متابعون متحمسون، مثل رياضة كرة المضرب وأسطورتها السويسري روجيه فيدرير، أو الإسباني رافايل نادال، والصربي نوفاك ديوكوفيتش.
منذ سنوات طويلة، يواجه الغزيون مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، ولكن هناك عدة طرق مختلفة لمشاهدة المباريات وسط انقطاع التيار، إذ يعتمدون على المولدات والاشتراكات الشهرية لتشغيل الكهرباء، كما يجتمع البعض للاشتراك بباقات القنوات الحصرية، والتجمع في منزل واحد لمشاهدتها، أو عبر القنوات المجانية التي تعرض المباريات، أو عن طريق البث الأرضي…
من رأى المقاهي أثناء مباراة ليفربول ومدريد، سيسمع الهتافات والصراخ أمام أي فرصة لهدف ممكن، خاصة مع هجمات محمد صلاح. كلّ ذلك على وقع صوت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية الهادرة في سماء المدينة
يمكن القول، إن متابعة الرياضة في غزة هي استراحة من صور الدمار والدم المتكررة. يذكر إسلام عطا الله (42 عاماً) لرصيف22 أنه في العدوان الإسرائيلي الأول على القطاع، بين كانون الأول/ ديسمبر و 21 كانون الثاني/ يناير، انقطعت الكهرباء أكثر من 10 أيام عن معظم مناطق القطاع، وبمجرد عودتها، حاول تشغيل الانترنت، وقضى ساعة كاملة في انتظار فتح صفحة "موقع كورة" لمتابعة أخبار نادي برشلونة الإسباني، الذي غاب عن مشاهدة مبارياته بفعل القصف.
في الوقت الذي كانت تسمى فيه شبكة قنوات "بي إن سبورت" بـ"الجزيرة الرياضية"، كان عطا الله يتابع النشرات الرياضية أكثر من النشرات السياسية. يقول عطا الله: "كرة القدم بالنسبة لسكان غزة فرح وحزن، لكن فرحتها أكبر من حزنها، لأنك تشجع فريقاً كبيراً يحاول إسعادك بانتصاره، بالطبع، هناك من يستهزئون بالأمر على طريقة 'يركضون وراء كرة معبأة بالهواء'، لكن مشاهدتك للجمهور والفرح والحزن والمشاعر والهتافات… هذا كله أفضل من متابعة شخصيات سياسية معبأة بالوهم".
ذكريات مؤلمة
كانت أحداث عملية اختطاف الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط في 25 حزيران/ يونيو عام 2006، وقصف محطة الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، بداية الأزمة للغزيين ومنهم محبو الكرة. انقلبت الحياة، وبدأوا مع مرحلة جدول الكهرباء، في انقطاع يصل لأكثر من نصف اليوم. مات الكثير منذ ذلك الوقت، وتغيرت تفاصيل حياتهم للأسوأ. في تلك الفترة، كان المشجعون يجتمعون في "المجمع الإيطالي"، الذي يعتبر من أكبر كافيهات ومطاعم القطاع، وفيه تحضر الجماهير والأعلام والرايات، لكن الاحتلال بدّل هذا المشهد بتدمير البرج وعشرات المقاهي أثناء عدوان 2014، تحت حججه الأمنية المعتادة.
في آب/ أغسطس من السنة ذاتها، دمر الاحتلال مقهى فارس النجار (45 عاماً)، الذي كان مصدر رزقه الوحيد، مما جعله ملاحقاً بسبب عدم قدرته على سداد الديون، وأدخله إلى السجن.
يرى النجار في كرة القدم حياته، فهي التي دفعته للعمل والاستدانة لإنشاء المقهى، في ظل عدم حصوله على أي فرصة عمل بعد تخرجه من تخصص الهندسة المعمارية عام 2003، ويلفت إلى أن هذا المقهى ساعده وحسّن من ظروفه كثيراً، لكن حياته انقلبت رأساً على عقب، ولم يحصل على التعويض إلا بعد ست سنوات بعد سداد جزء من ديونه، وعجزه عن سداد ما تبقى.
يقول النجار لرصيف22: "كرة القدم جعلت للغزيين معرفة في أسماء العواصم والمدن وبعض المعالم السياحية في العالم، وهي مناطق يصعب الوصول لها أو معرفتها، في ظل الحصار الإسرائيلي والعزلة. أهرب من همومي إلى كرة القدم. أحب مانشستر يونايتد وريال مدريد والزمالك المصري. حتى في السجن، كنت أطلب من الشرطي بطاريات لتشغيل الراديو والاستماع للمباريات".
لكن الجريمة الأبشع كانت في العدوان نفسه عام 2014، عندما قتل الاحتلال أربعة أطفال من عائلة بكر في مشهد مأسوي، بعد أن أطلق عليهم النار من مدفعية بارجة بحرية أثناء لعبهم بالقرب من الشاطئ، كما وثقت الكاميرات في حينه، وقالت والدة الشهيد الطفل زكريا بكر (10 أعوام) إن نجلها استشهد وهو يرتدي زي فريق برشلونة الإسباني.
قالت والدة الشهيد الطفل زكريا بكر (10 أعوام) أن نجلها استشهد وهو يرتدي زي فريق برشلونة الإسباني
كانت قناة BBC قد ذكرت في العاشر من تموز/ يوليو استشهاد تسعة وإصابة 10 آخرين في مدينة خانيونس جنوب القطاع في مقهى، بينما كان رواده يشاهدون مباراة نصف نهائي كأس العالم لكرة القدم بين الأرجنتين وهولندا.،وعلى مدار عدوان متكرر خلال 16 عاماً، دمر الاحتلال العديد من الملاعب والمرافق الرياضية، كما استشهد العشرات من الرياضيين من مختلف الرياضات.
روابط مشجعين وحالمين
تحتوي مدينة غزة على روابط مشجّعي الأندية المختلفة، منها الزمالك المصري والأهلي المصري وبرشلونة وريال مدريد وغيرها الكثير، ويرى بهاء المصري (36 عاماً) أن شعب غزة هو أكثر الشعوب التي تبحث عن السعادة من خلال كرة القدم، رغم قلة الإمكانيات المتاحة.
يذكر المصري أنه في مراهقته كان محباً للنادي الأهلي ومنتخب البرازيل ونادي ريال مدريد. كان يشاهد مبارياته المشفرة، التي كانت تعرض على قنوات ART الرياضية، التي كانت تعرض حصرياً مباريات كأس العالم ودوري أبطال أفريقيا أو دوري أبطال العرب. كان يشاهدها في محل بالقرب من ميدان الشهداء في مخيم الشاطئ لصاحبه أبو سرحان.
يقول: "الحزن حتى في كرة القدم جميل، الخسارة هُنا تعوض، الأمر ليس مثل الواقع، حيث الخسارات لا يمكن تعويضها. أتذكر أنني كنتُ نداً لأبي سرحان صاحب المكان، هو زملكاوي متعصب وأنا أهلاوي. كنت أسير مسافة كيلومترات من أقصى حي النصر لمخيم الشاطئ لأدفع شيكلين (نحو دولار أمريكي) لمشاهدة المباراة المشفرة. حتى الآن، ما زلت شغوفاً بكرة القدم، فهي التي علمتنا الحب".
في الثلاثين من أيار/ مايو عام 2014، عاش الشعب الفلسطيني فرحة غير مسبوقة بالإنجاز الرياضي، بعدما تأهل منتخب فلسطين لأول مرة لمنافسات كأس آسيا في أستراليا. هذه الأجواء، كان يتمناها إبراهيم جودة (73 عاماً)، إذ كان يحلم بعيش أجواء فرحة تحقيق منتخب فلسطين لإنجازه، وبالفعل، تحققت أمنيته، وخرج مع أحفاده يجول من مخيم الشاطئ إلى ساحة الجندي المجهول كما يذكر.
ولد جودة عام 1948 مع النكبة، بالقرب من قرية دير سنيد، حيث عايش الإدارة المصرية لشؤون القطاع قبل النكسة عام 1967، ثم مع الاحتلال الإسرائيلي حتى قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994 إلى حكم حماس راهناً، لكنه ما زال يحتفظ بهذه الذاكرة، ذاكرة كرة القدم عند أهالي غزة.
يقول جودة لرصيف22: "غزة مجتمع عاش انغلاقاً إثر الحصار الإسرائيلي بعد النكسة، إذ كان الاحتلال يفرض حظر التجول على المخيمات خاصة. كنا شعباً شغوفاً بالعلم والرياضة. بعضهم كان يشتري تلفزيوناً ملوناً مع نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، لالتقاط الإشارة اللاسلكية للتلفزيون المصري أو غيرها من فضائيات عربية، كانت تعرض مباريات عالمية، خاصة بطولات كأس العالم". كما يعتبر أن المشاهد التي يراها الجميع من حرب ودمار وحب كرة القدم، هي أمر مألوف في هذه المدينة المحاصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين