قبل سنوات عدة، كانت شوارع محافظة سوهاج جنوب صعيد مصر، تستغيث من مخلّفات الموز المنتشرة في كل أرجائها، والتي تسببت في أحد الأيام في خلاف كبير نشأ بين عائلتين في قرية القرامطة (شرق) التابعة لمركز "ساقلته". ظن أفراد كل عائلة أن الآخرين حاولوا التخلص من مخلّفات الموز الخاصة بهم أمام منزل العائلة الأخرى، واحتد الخلاف حتى سقط فرد من إحدى العائلتين قتيلاً، وتدخلت قوات الأمن لفض الخلاف، وألقي القبض على أفراد من العائلتين.
هذه الواقعة المؤلمة دفعت محمد يسري (35 عاماً)، لإطلاق مبادرة مجتمعية مع اثنين من أصدقائه من قرى مجاورة لقريته، للتخلص من مخلفات الموز وضمان عدم تكرار الخلافات بين المزارعين وقت التخلص منها، وانطلقت المبادرة قبل ثلاثة أعوام تقريباً.
للمواد التي تُصنع من مخلّفات الموز مميزات عديدة أغلبها بيئية.
يقول يسري في حديث إلى رصيف22: "بدأنا مشروعنا كمبادرة مجتمعية غير هادفة للربح لإعادة تدوير مخلفات الموز، وانطلقنا بعيّنات بسيطة أجرينا عليها تجارب لاستخراج ألياف وخيوط من المخلفات، وكانت لدينا خبرة سابقة في التعامل مع المخلفات الزراعية من خلال عملنا في مبادرة مجتمعية أخرى لإعادة التدوير"، ويوضح: "من سيقان الموز استخرجنا أليافاً هي عبارة عن خيوط نصنع منها حقائب أو أكسسوارات وأطقم مكاتب، بالإضافة إلى أثاث منزلي مثل الكراسي والكنب".
منتجات متينة وصديقة للبيئة
يتابع يسري الحاصل على بكالوريوس خدمة اجتماعية وماجستير في العلوم السياسية وتقييم المشروعات التنموية من جامعة سوهاج: "عندما نجحنا في تحويل مخلفات الموز إلى ألياف وخيوط، بدأ الفلاحون في التعاون معنا، ونسقنا معهم لإرسال المخلفات إلينا، وكانت فرصةً كبيرةً للفلاحين الذين يواجهون صعوبةً في التخلص من هذه المخلفات، وكانوا يضطرون إما إلى حرقها أو إلى رميها في الشوارع وقرب المصارف وبجانب الأراضي".
محمد يسري
تحول مشروع يسري في غضون أربع سنوات، من مبادرة مجتمعية غير هادفة للربح إلى مصنع تعمل فيه 23 فتاةً من سكان القرى الأكثر فقراً في صعيد مصر، بعد أن درّبهن يسري وزملاؤه على كيفية تحويل المخلفات إلى منتجات، ويعقب: "هدف من أهدافنا كان مساعدة الأسر الفقيرة والسيدات المهمشات على توفير مصدر دخل لهن، وتركنا لهن خيار العمل من المنزل مفتوحاً تماشياً مع عادات المجتمع في منطقتنا".
يعمل يسري على تطوير مشروعه من خلال التعاون مع جامعة سوهاج لتحويل مخلفات تدوير الموز إلى عجينة يُصنع منها الورق، بحيث لا تتبقى أي مخلفات من دون الاستفادة منها.
وحسب يسري فإن للمواد التي تُصنع من مخلّفات الموز مميزات عديدة أغلبها بيئية، فعند رغبتنا في التخلص منها ستتحلل كاملةً في التربة، ولن يتبقّى منها أي مواد أو أجزاء تضرّ بالبيئة، كما أنها تقدّم متانةً تماثل المنتجات المصنوعة من مواد أخرى.
بدأنا مشروعنا كمبادرة مجتمعية غير هادفة للربح لإعادة تدوير مخلفات الموز، وانطلقنا بعيّنات بسيطة أجرينا عليها تجارب لاستخراج ألياف وخيوط من المخلفات، وكانت لدينا خبرة سابقة في التعامل مع المخلفات الزراعية من خلال عملنا في مبادرة مجتمعية أخرى لإعادة التدوير
وقد خلصت ورقة للباحثة هناء أبو زید خليل، المحاضرة في قسم الغزل والنسيج في كلية الفنون التطبيقية في جامعة دمياط، إلى أن الخواص الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية لألياف الموز المستخرجة من أشجار الموز المصرية متميزة مقارنةً بألياف طبيعية أخرى، ويمكن استخدامها في مجالات هندسية عالية الأداء، كما يمكن غزل ألياف الموز والحصول على خيوط مخلوطة أو غير مخلوطة مع ألياف أخرى، كما أنها أرخص وأخف وزناً من ألياف أخرى.
ويبلغ معدل مخلفات الموز التي تخرج من محافظة سوهاج وحدها، 56 ألف طن سنوياً، وفقاً ليسري. وحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادر العام الجاري، بلغت المساحة المثمرة لمحصول الموز عام 2019/ 2020، قرابة 73 ألف فدان، وبلغت كمية الإنتاج 1.35 مليون طن، بإجمالي كمية مخلفات زراعية تُقدر بنحو مليوني طن، يتم التخلص منها بطرق غير آمنة عموماً.
مصنع لتدوير المخلفات
تدير المهندسة هبة نايل، وهي في العقد الخامس من عمرها، مصنع شركة "بابيرس إيجيبت"، لتصنيع ألياف الموز في المنطقة الصناعية في شرق سوهاج، وهو أول مصنع متخصص في إعادة تدوير مخلفات الموز في إفريقيا.
تقول في لقاء مع رصيف22: "عانت بعض قرى مصر، وخاصةً الصعيد، من مخلّفات الموز التي كان يتم التخلص منها إما بالحرق أو بإلقائها في الشوارع، فكان لا بد من أن نستغل هذا الكم في صناعة تعود بالنفع على البيئة وتوفر فرص عمل للشباب، ومن هنا جاءت فكرة المصنع".
منتجات من مخلفات الموز
تهتم نايل، وهي عضوة المجلس الاقتصادي لمحافظة سوهاج وعضوة مجلس إدارة المناطق الصناعية، بالبيئة منذ سنوات بالرغم من دراستها للهندسة المعمارية في جامعة القاهرة، وينصبّ اهتمامها على كيفية استغلال الموارد المتاحة لتأسيس مشروع بيئي تنموي، فكانت الشريك المصري لشركة أسترالية في بناء هذا المصنع.
وتوضح: "تتميز مخلفات الموز عن غيرها بتوافرها طوال العام، لأن الموز زراعة غير موسمية. وبعد تنفيذ دراسة علمية ودراسة جدوى، توصلنا إلى أن مخلفات الموز بالتحديد فرصة لإقامة صناعة مستدامة لها عائد اقتصادي متنامٍ".
افتتح المصنع في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بتقنيات جديدة، وخلال أشهر عمله هذه، لم تخرج منه أي مخلفات، بل استُغلت كل الموارد المتاحة في الصناعة حتى أصبحت مخلفات المصنع صفراً، حسب حديث نايل.
وتابعت: "تدخل إلى المصنع يومياً أطنان من مخلفات الموز، التي تمر عبر خطوط إنتاج ومعدات، تفصل ألياف شجر الموز إلى أجزاء سائلة تُحوَّل إلى أسمدة عضوية مغذية للتربة الزراعية، وألياف صلبة تدخل في صناعة الخشب والكرتون"، مشيرةً إلى أن إنتاج المصنع يوزَّع محلياً ويصدَّر إلى بعض دول أوروبا أيضاً، فتستورد ثلاث دول أوروبية القشرة الخشبية التي ينتجها المصنع وهي فرنسا والدنمارك وموناكو.
عانت بعض قرى مصر، وخاصةً الصعيد، من مخلّفات الموز التي كان يتم التخلص منها إما بالحرق أو بإلقائها في الشوارع، فكان لا بد من أن نستغل هذا الكم في صناعة تعود بالنفع على البيئة وتوفر فرص عمل للشباب
وتسعى مصر إلى توسيع أفق هذا النوع من إعادة التدوير، إذ وقّعت وزارة الدولة للإنتاج الحربي في نيسان/ أبريل الفائت، بروتوكول تعاون مع شركة أسترالية لإنشاء مصانع تحويل مخلفات الموز إلى ورق وأسمدة ومنتجات.
حماية للبيئة وتوفير لفرص عمل
يرى مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، أن مشروعات إعادة التدوير وخاصةً للمخلفات الزراعية، هي من أنجح المشروعات الاستثمارية التي لا بد أن تتجه إليها مصر، بعد سنوات من المعاناة من التلوث الناتج عن حرق المخلفات الزراعية، موضحاً أن نسبة المخلفات الزراعية في مصر تصل إلى 42 مليون طن في السنة، يمكن تحويلها إلى سماد عضوي يُستغَل في الزراعة.
وأكد لرصيف22، أن هذه المشروعات الاستثمارية ستوفر آلاف فرص العمل للشباب في مصانع إعادة التدوير.
وفي هذا السياق، يضيف الباحث البيئي عبد المولى إسماعيل، أن تدوير المخلفات النباتية ومنها مخلفات الموز ستحقق نجاحاً أكبر إذا كانت تنفَّذ وفق إدارة متكاملة وإستراتيجية محددة لإعادة التدوير، لأن العشوائية في إقامة مصانع إعادة التدوير ستقلل الاستفادة منها.
ويوضح لرصيف22، أن إعادة تدوير مخلفات الموز ليست لها أي آثار سلبية على البيئة، بل هي كفيلة بإنهاء التخلص منها عن طريق الحرق، كما يحدث عادةً، وهي طريقة تتسبب في ضرر كبير على المناخ، وتساهم في حدوث موجات احترار تصيب المناطق التي يتم فيها الحرق، ويختم بأنه من الممكن استغلال كل أجزاء مخلفات الموز لصناعة الأسمدة الزراعية والأخشاب وأيضاً الورق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...