شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كيف تحررت من علاقتي المتوترة مع لغات وثقافة أخرى غير عربية؟

كيف تحررت من علاقتي المتوترة مع لغات وثقافة أخرى غير عربية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 15 يونيو 202212:58 م

"رنا، تعالي نشوف الفيلم ده سوا". كنتُ أسمع هذه الجملة كثيراً من إخوتي قبل أن أنتقل للعيش في القاهرة وحدي. وكنت دائماً أرفض مشاهدة الأفلام معهم. أتعلمون لمَ؟ لأنهم، في الغالب، يختارون فيلماً أجنبياً، لا عربياً. فهم مهتمون بمشاهدة أفلام السينما الأمريكية. ورغم محبتي للسينما، كنت أفضل الأفلام العربية فقط  إذ أشعر أنها الوحيدة القادرة على التعبير عني، وحدها فقط يمكنها تقديم ما يُهمني كفتاة مصرية. 

أتذكر جملة ساذجة قلتها لصديقاتي في صغرنا عندما كن يحاولن إقناعي بمشاهدة الأفلام الأجنبية. كنت أقول لهن: "لا أستطيع أن أشعر بهم وهم يمثلون، كما أنّ الممثل العربي يشعر أكثر بكثير". لكن، كيف لي أن أحكم على الممثلين الأجانب بأنهم لا يشعرون، وأنا أصلاً لم أتمعن فيما يقدمون؟  

القلق من تعلم لغات جديدة  

منذ صغري، كنت أكره تعلم اللغات. وكنت أكره حصة اللغة الإنجليزية في المدرسة، في حين أن الحصة الأقرب إليَّ كانت حصة اللغة العربية. وعندما وصلت إلى المرحلة الثانوية، كان عليَّ أن أدرس لغة أخرى إلى جانب الإنجليزية، فاخترت الفرنسية، مثل أخي وصديقاتي، ولكني كذلك لم أحبها قط. ولأنّ الحياة لا تنظر إلى ما نحب، وما نكره، اختار لي مكتب التنسيق كلية لدراسة اللغات لألتحق بها بعد انتهاء المرحلة الثانوية. فاخترت اللغتين العبرية والإيطالية. وبذلك، أكون قد درست، خلال مراحل تعليمي المختلفة، أربع لغات، ولم أتقن أية واحدة منها. 

منذ صغري، كنت أكره تعلم اللغات. وكنت أكره حصة اللغة الإنجليزية في المدرسة، في حين أن الحصة الأقرب إليَّ كانت حصة اللغة العربية.

ظلت علاقتي متوترة بتعلم اللغات وبكل ما يخص أي ثقافة أخرى حتى قبل سنتين أو ثلاث. فكنت أكره أن يتفوه أصدقائي بكلمات إنجليزية في سياق حديثهم. وأكره الأغاني الإنجليزية التي يستمعون إليها، ولا أفهمها جيداً. وكذلك أكره مشاهدة الأفلام الأجنبية حتى ولو كانت حواراتها منقولة إلى العربية. ولا أفهم كيف أن أصدقائي وإخوتي وجميع من أعرفهم لا يحبون اللغة العربية مثلي، ولا يحبون تذوق الفن العربي مثلي. بل لا أفهم كيف أنّ بعضهم يعربون عن رغبتهم في السفر ومغادرة بلدهم وأهلهم ليعيشوا في بلاد يشعرون فيها بالغربة، بلاد تختلف ثقافتها عن ثقافتنا، ويتحدث أهلها لغة مختلفة عن لغتنا. فكيف لا يشعرون بالانتماء والتمسك الذي أشعر به؟ وظلت التساؤلات تعبث بداخلي. 

التحرر من الشرنقة 

عندما التحقت بدبلوم النقد السينمائي، وسألنا أحدُ الأساتذة عن سبب التحاقنا بالدبلوم، كانت إجابتي: "لكي أتعلم مشاهدة الأفلام الأجنبية وأتفاعل معها بقدر مشاهداتي وتفاعلي مع الأفلام العربية". أردت أن أصبح ناقدة فنية مثقفة بما يكفي، خاصة أن بعض أصدقائي الممثلين والنقاد كانوا يرون أنّ لدي القدرة والمقومات لأنْ أصبح ناقدة فنية. وكان لا بدّ أنْ أتغلب على توتري من اللغات الجديدة كي أصبح ناقدة فنية. 

عندما التحقت بدبلوم النقد السينمائي، وسألنا أحدُ الأساتذة عن سبب التحاقنا بالدبلوم، كانت إجابتي: "لكي أتعلم مشاهدة الأفلام الأجنبية وأتفاعل معها بقدر مشاهداتي وتفاعلي مع الأفلام العربية". أردت أن أصبح ناقدة فنية مثقفة بما يكفي

كانت أزمتي الأساسية مع الأفلام الأجنبية هي أنّني لا أستطيع التفاعل معها. وذلك لأنهم يتفوهون بلغة مختلفة عن لغتي الأم، حتى وإن كنت أفهم ما يقولون، وحتى لو أنّ هناك ترجمة عربية. ولكني دائماً أشعر بحاجز بيني وبين مشاعر الأبطال لعدم سماعي حوارهم باللغة العربية.  

أتذكر في إحدى مشاهداتي لحلقات برنامج خواطر في صغري، سمعت الإعلامي السعودي ومقدم البرنامج أحمد الشقيري يقول إنك إذا أردت أن توصل معلومة أو مشاعر معينة لشخص، فيجب أن تخاطبه بلغته الأم وليس بأية لغة أخرى، حتى لو كان يفهمها. عندما سمعت هذه الكلمات لأول مرة، شعرت بأنها موجهة لي، فقد استطاع أنْ يشرح شعوري. 

كانت أزمتي الأساسية مع الأفلام الأجنبية هي أنّني لا أستطيع التفاعل معها

وقبل مدة قصيرة، أدركت أن هذه الجملة ليست حقيقية، أو يمكن القول إنها حقيقية بنسبة ما. أستحضر الآن موقف حدث أمامي عندما فازت صديقتي بسمة بالجائزة الأولى في مهرجان للسينما، وكنا جميعاً سعداء من أجلها. كان من أصدقائها، صديق فرنسي يتحدث الإنجليزية. احتضنها ليلتذاك قائلاً لها: "I'm so happy for you". أطالت النظر إليه وأنا ابتسم، وشعرت بصدق مشاعره تجاهها، فمشاعره وصلت لها ولنا دون أن يتحدث بلغتنا الأصلية.  

تزامن وقت كتابتي هذا النص مع قراءتي كتاب "امرأة في برلين... مذكرات امرأة مجهولة"، للكاتبة مارتا هيلرز. وهو صدر عام 2003، نقلته ميادة خليل من اللغة الهولندية إلى العربية، ثم نقل المترجم يان هـ. يونكر الكتاب إلى اللغة الألمانية. 

في مقدمة الكتاب، حكت المترجمة كيف عثرت على الكتاب مصادفة، ثم قرأته. وحكت عن مشاعرها تجاهه وعن تأثرها الشديد به. لذا، قررت ترجمة الكتاب قائلةً: "بدأ تأثير هذا الكتاب منذ اللحظة التي قرأت فيها آخر صفحة، وبقي حتى كتابة هذه الكلمات"، فكيف للمترجمة أن تشعر بمشاعر الكاتبة وهي تقرأ مذاكراتها ولو كانت اللغة الوسيطة التي أتاحت فرصة التواصل بينهما تُمثل عائقاً فعلياً في إيصال المشاعر؟  

مؤخراً، أصبح لدي وسيط بديل لمشاهدة الأفلام الأجنبية وهو شاشة السينما بدلاً من شاشة التلفزيون أو جهاز الكمبيوتر. وحقيقةً، أصبحت من أسعد لحظاتي هي مشاهدة الأفلام - الأجنبية خاصة - في السينما. فأستطيع الانفراد مع شخصيات الأفلام، وهي العادة التي أَلِفتُها من خلال المواظبة على مشاهدة الأفلام في مهرجان القاهرة السينمائي منذ عامين. فهل تغيّرُ الوسيط هو ما ساعدني على تغيير فكرتي أم أنا التي تغيرت واستطعت الخروج من شرنقتي الصغيرة التي صنعتها لنفسي؟  

مؤخراً، أصبح لدي وسيط بديل لمشاهدة الأفلام الأجنبية وهو شاشة السينما بدلاً من شاشة التلفزيون أو جهاز الكمبيوتر. وحقيقةً، أصبحت من أسعد لحظاتي هي مشاهدة الأفلام - الأجنبية خاصة - في السينما

منذ سنوات أيضاً، ما كنت أتخيل أن تكون لدي رغبة في أن أسافر وأعمل وأعيش في بلد آخر غير مصر. وأتذكر أن هذه كانت نقطة خلاف بيني وبين حبيب قديم كان يرغب في السفر للخارج. وكنت رافضة تماماً للفكرة. أما الآن، فأبحث عن فرصة سفر مناسبة لي ولمهاراتي، مهاراتي المبتورة بسبب تمسكي بكل ما هو محلي، ورفضي تعلم اللغات التي لو كانت لدي الآن، لزادت من فرص سفري للخارج. 

فجأة، اكتشفت أن الأمور مختلفة عما كنت أراها. فذكرني هذا بمونولوغ للممثل المصري محمود حميدة في فيلم "ملك وكتابة" – أنتجته الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي عام 2006 – يقول فيه: "المشكلة أنى اكتشفت أن كل حاجة عملتها في حياتي بدافع الخوف سميتها حاجة تانية، رعبي من التمثيل سميته رسالة التدريس المقدسة، فشلي في التعامل مع الدنيا اللي بتتغير نظام، المشاعر المزيفة اللي بيني وبين مراتي سميتها حب، فشلت في كل حاجة في حياتي عشان خايف". 

الآن، أصبحت أكثر إطلاعاً على العالم من خلال قراءتي للكتب، وبخاصة المترجمة منها. فصرتُ أفضل قراءة الأعمال المترجمة أكثر من قراءة الكتب الصادرة باللغة العربية. أُزيحتُ الغمامة فوق عيني، وأدركت أن المشكلة دائماً في الخوف، وفي الوسيط، بمعني أنني مثلاً لو اطلعت على هذه القراءات بلغتها الأصلية ولم تكن هناك ترجمات لها، لنفرتُ بسبب جهلي اللغة. 

والآن، ما زلت أحب مشاهدة الأفلام العربية أكثر، وما زالت لدي مشكلة تعلم اللغات نفسها. ولكن ما تغير بداخلي هو الإلمام بمختلف جوانب الموضوع، وفتح باب صغير أستطيع أن أتّخذ من خلاله خطوات لتعويض ما فاتني.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image