يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي، المحرر الضيف في رصيف22 لشهر حزيران/يونيو
كثيراً ما يستلّ الخوف سيفه من غمد الأحلام، فالتاريخ البشري على اختلاف حضاراته تشارك بطرافة في اعترافه، المعلن حيناً والمضمر في أحايين كثيرة، بضعف الكائن البشري، مقارنة بغيره من كائنات الطبيعة، ما جعله يسلك دروباً حياتية أملاها عليه العقل، تختلف عن تلك التي سلكتها الكائنات الأخرى بإملاء الغريزة.
ولأن العقل وحده ما سيّر الإنسان منذ تواجده على وجه البسيطة، فقد جعله يدرك ما خفي عن سواه من كائنات؛ جعله يدرك الزمن، بكل ما يعنيه من قبل وآن وبعد. لكنّ أهمّ ما جعله يدركه هو أنه كائن محدود، ليس بالمكان فحسب، بل بالزمن أيضاً.
صحيح أن التطور البشري جعل الإنسان يتملص من عقدة المحدودية المكانية، لكنّه لم يتخلّص قطّ من محدوديته الزمنية التي لازمته طوال تواجده على الأرض: إنه كائن محشور بين الحياة والموت، بين بداية لا خيار له فيها، ونهاية لا فرار له منها.
الخوف من النهاية، ومعرفة الإنسان بيقينيتها واستحالة التملص منها جسدياً، جعله يستنجد بالعقل مرة أخرى، لكنه استنجادٌ بعيد كلَّ البعد عن المنطق والواقعية التي يحسن العقل استنباطها؛ لقد كان استنجاداً بالخيال الذي يميّز هو الآخر الإنسان عن غيره من كائنات. سيملك هذا الخيال أسماء كثيرة كالوهم والحلم والأسطورة والرؤيا والدين وغيرها، بعضها سيتمّ إضفاء القداسة عليه على خلاف سواه، لكنها أسماء تشترك في مسألة واحدة فقط هي الخوف.
الخوف من الموت الجسدي خلق مفهوم الخلود الروحي، تماماً كما خلق العقل العالم الآخر بعد الموت، في مواجهة حقيقة فناء العالم الذي يعيش فيه الإنسان في الحقيقة. والخوف من الطبيعة وقهرها اليومي لهذا الكائن البشري الضعيف، خلق قوة أكبر منها هي الأرواح أو الآلهة التي بمقدورها تطويع الطبيعة. والخوف من الواقع خلق مفهوم الأمل، تماماً كما خلق الخوف من الحقيقة مفهومَ الوهم.
ماذا يحدث للخوف لو اكتفى الإنسان من الحلم؟ أو: ماذا لو حقق الواحد منا كل أحلامه، هل سيختفي الخوف؟
التأمل في الوجود البشري يجعلنا ننتهي إلى نتيجة مروّعة، هي استحالة تطور الإنسان بعيداً عن مخاوفه؛ فهي الوحيدة التي جعلته طوال آلاف من السنين، يبحث ويطور نفسه، رغبةً في التخلص منها. لكنّ ذلك استلزم بطبيعة الحال أن يترافق الخوف بالعقل المميِّز للكائن البشري، وكل ما يعنيه هذا العقل من منطق وخيال ووهم وحلم. لكن السؤال الملحّ في هذا الشأن هو: هل يستطيع الإنسان العيش بلا خوف؟
هل يستطيع الإنسان التطور بلا حلم؟
أعتقد أنه سؤال يفترض تخيل واقع مختلف عن الواقع البشري، فلم يعرف التاريخ حياة خالية من أي خوف، سواء على مستوى المجتمعات أو على مستوى الأفراد. إنه سؤال شبيه بالذي قد تطرحه البلادة على غرار: هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا هواء يتنفسه؟ هل يستطيع الجنس البشري البقاء دون تكاثر؟ هل يستطيع الإنسان التطور بلا حلم؟
إنها أسئلة تشبه بعضها بعضاً في العدمية واللا جدوى، فالخوف مكون أساسي وعامل ضروري للكائن البشري، فلولا الخوف من الغد لما اجتهد أحد في يومه، ولولا الخوف من الموت لما ظهرت الديانات، ولولا الخوف من المرض واستمراره لما ظهر الطب وما يرتبط به.
لكن الخوف على اختلاف أنواعه وأسبابها، يرتبط بلا شك بالحلم، بالأمل أيضاً، وبارتباطه بهما فهو يرتبط بالحياة، وكأنهما متلازمتان يستحيل التفريق بينهما، لأسباب تتعلق بالطبيعة البشرية، ولربما لهذا السبب يتكرّس اليقين بأن الخوف عادة ما يستلّ سيفه من غمد الأحلام، ولهذا السبب أيضاً نجدنا نطرح السؤال: ماذا يحدث للخوف لو اكتفى الإنسان من الحلم؟ أو: ماذا لو حقق الواحد منا كل أحلامه، هل سيختفي الخوف؟
أي حياة هذه التي يعيشها من لا يملك حلماً ليحققه، وأي حياة هذه التي لا يصحو فيه الإنسان أو يمسي خائفاً من ألا تتحقق أحلامه؟
تبدو فكرة اكتفاء الإنسان من الحلم، فكرة يوتوبية غير قابلة للتحقق، على الأقل في هذا العالم، لأن الكتابات الدينية والأساطير تحدثنا عن عالم آخر بعد الموت، تتحقق فيه جميع أحلام الإنسان بحيث يعيش حياة أبدية يملؤها السرور والسعادة، إلى درجة اختفاء الخوف من صدور البشر. إنها الحياة التي تبشر بها هذه الكتابات وتطلق عليها أسماء عدة، أكثرها وضوحاً هي الجنّة. لكن في المقابل تخبرنا هذه الكتابات نفسها، بعالم آخر أيضاً يتسلطن فيه الخوف على نحو مخيف، غير أنه هذه المرة يكون بعيداً كل البعد عن الحلم، ولا سبيل للخوف المتسلطن فيه أن يلازمه الأمل، وهو عالم الجحيم الذي ينتقل إليه الأشرار بعد موتهم، فالخوف هناك يكون مطلقاً وكاملاً ومبعثاً للذعر.
إلا أن الفكرة الأخرى المتمثلة في أن يحقق الإنسان أحلامه هي التي بمقدورها التحقق. هذا إذا افترضنا أننا بصدد أحلام معدودة ومحدودة، وأيضاً أنها أحلام لا تتولد. في هذه الحالة ستختفي مشاعر الخوف من صدور من يحققون أحلامهم، اختفاءً لا أعتقد أنه سيبعث أي سعادة في الوقت نفسه، فأي حياة هذه التي يعيشها من لا يملك حلماً ليحققه، وأي حياة هذه التي لا يصحو فيه الإنسان أو يمسي خائفاً من ألا تتحقق أحلامه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون