بعد نجاحها في السيطرة على القسم الشمالي من الجزائر في عام 1830. تحمس الفرنسيون لبسط نفوذهم على الداخل الصحراوي للجزائر. ولكن بسبب المقاومة الشعبية تأخرت هذه السيطرة حتى نهاية القرن التاسع عشر. الأمر الذي حدا بفرنسا إلى إتباع طريقة أكثر أمناً ونعومة لدراسة طبيعة المنطقة وطبائعها عبر مجموعة من الرحالة.
هذه العملية التي أسماها الفرنسيون بـ "الاستكشاف"، والتي ساهمت في تحقيق الربط بين مستعمراتها في شمال أفريقيا وغربها، والتعرف على الطرق التجارية كمقدمة للتوغل عميقاً في أفريقيا، فإن نجحت فرنسا في تحقيق مرادها في استعمار المنطقة، فما دور الرحالة؟ وما هي مضامين ما أوردوه في كتاباتهم وتقاريرهم من معلومات حول تلك البقعة الإستراتيجية المترامية الأطراف ما مهد ليتجول الفرنسيون فيها كمن يتجول على باطن يده؟
الصحراء الخلابة
بالإضافة إلى الرغبة في ضرب معاقل المقاومة الجزائرية في مهدها، سعى الفرنسيون من خلال توجههم إلى الصحراء، ضمن بنك أهدافهم للتوسع فيها، إلى توفير الأمن للمعمرين وللمناطق التي ينتشرون فيها في الشمال، لا سيما بعد تحول الواحات الصحراوية في الجنوب إلى ملاذ آمن يفر إليه الثوار للاعتصام والاستعداد.
وهنا شعر الفرنسيون بضرورة الوصول إلى عمق الصحراء والسيطرة عليها، خاصة بعد ثورة سكان واحة الزعاطشة في منطقة بسكرة عام 1849، وثورة الشريف محمد بن عبد الله بالأغواط ورقلة وتوقرت، وثورة أولاد سيدي الشيخ بالجنوب الوهراني عام 1864 وفقاً لإبراهيم مياسي في المرجع السابق.
بالإضافة إلى الرغبة في ضرب معاقل المقاومة الجزائرية في مهدها، سعى الفرنسيون من خلال توجههم إلى الصحراء، ضمن بنك أهدافهم للتوسع فيها، إلى توفير الأمن للمعمرين وللمناطق التي ينتشرون فيها في الشمال
وفي ذلك يقول الرحالة الألماني-الفرنسي جيرهارد روهلفس (Gerhard Rohlfs) الذي زار إقليم توات سنة 1864: "قبل كل شيء على الفرنسيين أن ينقلوا حدودهم إلى نهاية وادي الساورة، فمن هناك بالضبط تبدأ كل المصاعب وكل الفوضى، وما دام الفرنسيون لم يستولوا على تلك الحدود الطبيعية، فلن يكون هناك أي هدوء في جنوب مقاطعة وهران". كما يذكر إبراهيم مياسي في كتابه "توسع الاستعمار الفرنسي في الجنوب الغربي الجزائري".
هذا السبب المباشر، كان يخفي وراءه نوايا فرنسا من خلال رغبتها بالتوسع وبالتعرف على إمكانات الصحراء، ودراسة المجموعات السكانية فيها، والتعرف على أوضاعها وعاداتها وتقاليدها، وتاريخها السياسي والثقافي. عدة أهداف اقتصادية وتجارية يعبر عنها التقرير الذي رفعه الماريشال سولت – وزير الحربية- إلى الملك فيليب والذي يقول فيه: "يجب أن تؤلف الصحراء صنفاً ثالثاً من الجهات الإدارية، ففي هذه الجهات لا أثر للمعمرين، ولا تطأها الجيوش إلا عرضاً لقمع الفوضى، أو لإعداد ظروف ملائمة لإقامة العلاقات التجارية أو لتوسيعها، وهي مناطق هامة في الحركة التجارية المؤمنة". كما يذكر أندري برينان وآخرون في كتابه " الجزائر بين الماضي والحاضر"، ترجمة: رابح اسطنبولي وآخرون.
وبالتالي إتمام دراسة المظاهر التضاريسية والطبوغرافية لوضع شبكات من الطرق والمواصلات الحديدية والمعبدة وأسلاك الهاتف، لتسهيل تنقلات القوات العسكرية والقوافل التجارية والعمل على ربط مستعمرات فرنسا في شمال أفريقيا بغربيها بخاصة السنغال التي سيطرت عليها فرنسا في سنة 1856-1857، ومالي سنة 1880.
قدمت الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس عام 1855 مبلغ 6000 فرنك فرنسي لكل من يقوم برحلة من الجزائر إلى السنغال أو بالاتجاه المعاكس شرط أن يمر بمدينة تمبوكتو، ويأتي بمعلومات دقيقة وجديدة حول القوافل التي تعبر هذه القفار
ووفقاً لإسماعيل الغربي في كتابه" الصحراء الكبرى وشواطئها"، قدمت الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس عام 1855 مبلغ 6000 فرنك فرنسي لكل من يقوم برحلة من الجزائر إلى السنغال أو بالاتجاه المعاكس شرط أن يمر بمدينة تمبوكتو، ويأتي بمعلومات دقيقة وجديدة حول القوافل التي تعبر هذه القفار.
إيجان دوماس (Eugene Doumas)
ولد في عام 1803، وتم تجنيده في الجزائر سنة 1835، تحديداً، في منطقة معسكر ثم في تلمسان حيث تمت ترقيته لرتبة جنرال، كان له اهتمام بالغ في التأليف، فكان عسكرياً وكاتباً، وله العديد من المؤلفات حول الجزائر، توفى سنة 1871. وفقاً لما يذكره مصطفى بن واز في كتابه "المنظور الفرنسي للصحراء الجزائرية (إيجان دوماس) نموذجاً".
ويتابع واز: " كانت رحلته الأولى سنة 1843 من مدينة الجزائر إلى ورقلة عبر البليدة، المدية، البرواقية، ثم سهل تاغية، بغية استكشاف منطقة الأغواط. وقد تم له ذلك بعد 15 يوماً من انطلاقة الرحلة، ثم توجه إلى غرداية التي وصلها بعد خمسة أيام، وقبل مغادرتها عمل على استكشاف منطقة مزاب، وفي اليوم الرابع والعشرين وصل إلى ورقلة واسكتشف مناطقها".
تلك كانت رحلته الأولى التي سعى من خلالها لاستكشاف الجزء الشرقي من الصحراء، والتي وصل فيها إلى وادي سوف ودخل الأراضي التونسية. أما الجزء الغربي، فكان محطته الأولى عين صالح واستكشاف منطقة العمور، ووصل إلى توات، وقورارة، وتدكاليت، حيث وصف تلك المناطق أثناء رحلته وصفاً دقيقاً واستغرقت تلك الرحلة 48 يوماً. والكلام دائماً لواز في المرجع السابق.
ثم عبر الصحراء انطلاقاً من قدامت، واستيبان، والغاسول، وصل خلالها إلى وادي مية، وجبل باتن، واستكشف طريق البيوض إلى تيميون، وكذلك طريق متليلي إلى تيميون، مروراً بالشعانية و(برقلة، متليلي، القليعة).
وقد تمكن دوماس بتشجيع من الجنرال بيجو في عام 1845 من تأليف كتاب عن الصحراء الجزائرية، هو عبارة عن دراسة أحصائية وجغرافية وتاريخية متعلقة بالجنوب القسنطيني ما سهل لفرنسا عبور الصحراء الشاسعة بين بسكرة وورقلة وغرادية والأغواط، والسيطرة العسكرية عليها فيما بعد.
وبفضل دوماس تمكنت فرنسا من وضع خريطة للجزائر موصوفة لتضاريس الصحراء، ما سهل حركة قواتها من جهة، وتوظيفها بأحسن السبل في التوسع العسكري والمدني وكذلك التحكم الإداري والاجتماعي في الصحراء، من جهة أخرى. وفقاً لواز دائماً.
هنري دوفيري (Henry Duveyrier)
ولد عام 1840 في باريس، وعاش شطراً من عمره في ألمانيا حيث درس التجارة إلا أن اهتمامه كان منصباً في الارتحال نحو أفريقيا، وهذا ما نمى عنده روح المغامرة متأثراً بالرحلات التي قام بها الرحالة الإنجليزي هنري بارث (Henry Barth)، الأمر الذي دفعه لتعلم العربية على يد المستشرق الألماني فلايشر.
بدأ أولى رحلاته عام 1857 في سن السابعة عشرة، وكانت عبارة عن زيارة استطلاعية إلى مدينة الجزائر ومناطق أخرى كالهضاب العليا والأغواط، التي تعرف فيها على أحد رجال الطوارق، إضافة إلى الجانب الصحراوي من جبال الأوراس، فانبهر بسحر الصحراء. وفقاً لإسماعيل الغربي في المرجع السابق.
وقام بنفس السنة بنشر دراسة في مجلة الجمعية المشرقية في برلين ضمن القبائل البربرية وترجمة لبعض مفردات اللغة البربرية. وفقاً لعديدة مبارك في كتابها "مجالات اهتمام الكتاب الغربيين بمناطق أهل الجنوب الجزائري (هنري دوفيري أنموذجاً)". والتي تذكر أن رحلته الثانية في سنة 1958، كانت نتيجة دراسة مكثفة، زار فيها غرداية ثم القليعة ويعتبر أول أوروبي يطأ أرضها. حيث قام ببعض العمليات الفلكية رغم تلقيه بعض الصعوبات من قبل السكان الذين لم يمدوه بالمؤونة والزاد.
وفي عام 1860 وصل وادي سوف في الجنوب التونسي، ثم أسندت له من قبل الحاكم العام للجزائر بيجو ليقوم برحلة لبلاد الطوارق بغية أقامة علاقة تجارية معهم، فتوجه نحو غدامس من مدينة الوادي بمساعدة أحد أعيان الطوارق ويدعى (الشيخ عثمان)، ومنه حصل على مساعدة كبيرة وحماية من قبل الطوارق بعد أن وطد علاقة متينة معهم. كما يذكر أسماعيل الغربي في المرجع السابق.
بعد ذلك، في عام 1861، كلفه الإمبراطور نابليون الثالث بجمع معلومات ووثائق لتأليف كتابه عن وصف الصحراء أيام الرومان، ورغم ضائقته المادية واعتلال صحته قبل بتنفيذها بعد أن منحته الحكومة الفرنسية مبلغ 2000 فرنك، كما تذكر عديدة مبارك في المرجع السابق.
يذكر رينان في المرجع السابق أن عمليات المسح الواسعة التي قام بها دوفيري، والمعلومات الدقيقة والمفصلة في وصفه المناطق والأسماء المتداولة لدى سكان المناطق الأصليين ساعدت فرنسا في القيام بعمليات الحصار الناجحة، وتطويق المناطق، والوصول إليها بأيسر الطرق نحو الواحات الموجودة في الصحراء.
ويتابع: " قام دوفيري بدراسة شاملة للمجتمع الطوارقي وكان يعتمد في ذلك على بعض أعيان أزجر وبعض التجار الذين كانوا يجوبون تلك البقاع، وبالتالي توصلت فرنسا إلى أقامة علاقة اقتصادية مع طوارق أزجر، تمثلت في معاهدة غدامس 1862، ومن ثم أصبحت فرنسا طرفاً في التجارة الصحراوية".
أما عديدة مبارك فتقول: "أنجز دوفيري دراسة حول المجتمع الطوارقي، خاصة طوارق الشمال، فدرس مناطقهم بتضاريسها، ومصادر المياه، وإنتاجهم الفلاحي، وتنظيمهم العسكري، وأسلحتهم، وكل تفاصيل حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ما سهل مهمة فرنسا في السيطرة عليهم والتحكم بهم، ومعرفة الطرق التجارية المتعلقة بالطوارق، والوقت الذي تمر فيه هذه القوافل". ما أدى إلى تكريمه من قبل الجمعية الجغرافية في باريس ومنحه ميدالية ذهبية.
بول فلاترز (Poul Flatters)
ولد في 16 سبتمبر/أيلول 1832، وتخرج من مدرسة سانت سير للعلوم العسكرية، قضى معظم حياته في الشؤون العربية للجزائر، وتقلد العديد من المناصب نتيجة لمقدراته وخبرته، إضافة لإتقانه العربية التي ساعدته في تسيير مهامه.
كانت فرنسا تسعى لتجسيد مشروعها في بناء سكة حديد تعبر الصحراء، وذلك لتنشيط حركة التجارة، وفتح سوق أفريقية لتصريف منتجاتها، وهنا، جندت فلاترز في سنة 1875 لوضع تصميم للسكة في جنوب قسنطينة يمتد من ورقلة إلى بلاد الطوارق (أجار)، وعلى الرغم من الطبيعة العسكرية للمهمة، فقام بعدة جولات ووضع خطة لرحلة صوب تمبكتو وفقاً لإسماعيل الغربي في المرجع السابق.
وعليه، تم اختياره للمهمة، وقد طلب منه وزير الأشغال أن يغير أسلوبه الخشن في التعامل مع الصحراويين، وإلا فسيتعرض لهجماتهم. وبالفعل، بدأت الرحلة في فبراير/شباط 1880 من بسكرة وعند وصوله إلى ورقلة قام بجمع الحرس من قبائل الشعانية المعادين للطوارق. وفقاً لإبراهيم مياسي في المرجع السابق.
وهنا بدأت المحادثات مع الطوارق، ولكن لبعد الزعيم الطوارقي (إيخنونن) الذي كان في منطقة (غات) تعذر عقد الاجتماع، فطلب فلاترز الاتفاق بشأن عقد اجتماع آخر، يضمن للسلطة الاستعمارية دعم الطوارق لها في مشروعها، وهذا ما لم ينجح. والكلام دائماً لمياسي في المرجع السابق.
ويقول رضوان شافو في كتابه "الاحتلال الفرنسي لمنطقة ورقلة وضواحيها الدوافع والمراحل" أنه " وصل فلاترز Flatters إلى ورقلة في 1879 في رحلة أخرى، وكان برفقته 100 رجل وصحفي أمريكي، واتخذت هذه النقطة كنقطة بداية للخوض في الصحراء، وانقسمت إلى قسمين الأولى توجهت نحو الأغواط، وانطلقت في 21 مايو 1880".
ويتابع شافو أن "المجموعة الثانية انطلقت نحو منطقة الطوارق بقيادة فلاترز في ديسمبر من نفس العام وكان فيها 11 رجلاً فرنسياً، و47 جندياً من الأهالي، 32 سائق جمال، و8 رجال من الشعانية، و4 من الطوارق يعملون كأدلاء". وتعرضت الحماة الثانية لصعوبات جمة، إذ قام الطوارق بالهجوم عليها، وسقط خلال هذه الهجمات فلاتزر قتيلاً في منطقة (أوهاوان)".
كنتيجة لهذه الرحلة، فقد تمكنت البعثة بقيادة فلاترز من مسح ما يقارب 1200 كيلومتر من الأرض الصحراوية لإنشاء السكة الحديدية، إضافة لإجراء دراسة جغرافية وجيولوجية وملاحظات حول الطقس والحيوانات والنباتات الموجودة فيها. وكان للتقارير والمعلومات الغنية التي قدمها الكولونيل فلاترز الدور الكبير في إنشاء أول سكة حديد عابرة للصحراء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون