"لماذا، أنا والأشخاص المقرّبون مني، نختار كشركاء عاطفيّين أولئك الذين يُشعروننا بأنّنا لا شيء؟ لأنّنا نقبل بالحبّ الذي نظنّ أنّنا نستحقّ".
مثل هذا السلوك، هو إحدى أبرز ميزات المصابين/ات باضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، كما يبدو على شخصية "تشارلي"، بطل فيلم "مزايا أن تكون خجولاً" 2012، وهو فيلم مستوحىً من رواية تحمل العنوان ذاته، كتبها مخرج الفيلم، ستيفن تشوبسكي.
الشعور بالغضب الشديد أو عدم الثقة، الشعور الدائم بالفراغ أو باليأس أو بانعدام القيمة، هي أعراض أخرى لاضطراب ما بعد الصدمة المعقّد.
قد يكون هذا الاضطراب نتيجة لصدمة نفسيّة متكرّرة في الطفولة، مثل الاعتداء الجنسيّ المتكرّر، الذي كان، "تشارلي" بطل الفلم، ضحيّة له. ولكنّه قد ينجم أيضاً عن إهمال أو إيذاء الطفل جسديّاً أو عاطفيّاً من قبل والديه أو مقدّمي الرعاية له.
عوامل عديدة، ومتداخلة تؤدي إلى هذا الاضطراب، مما دفعني إلى التساؤل:
كم منّا مصاب بهذا الاضطراب؟ في مجتمعات عربية لا تزال ترى أن ضرب الأطفال ضرورة تربوية، وأنّ الآباء والأمّهات يمتلكون/ن أطفالهم/ن وأجسادهم/ن، وبالتالي لهم/ن الحقّ في تعنيفهم، وتحقيرهم.
شعرت أننا في أمسّ الحاجة إلى التعرّف أكثر على هذا النوع من الاضطراب المعقد، من يدري لعله يفسّر حالة الاحتقان والكبت التي تعيشها مجتمعاتنا، إذ ربّما تساهم العائلة بدرجة أولى، وقبل المناخ السياسيّ الفاسد السائد، في مرض واضطراب النفوس.
اضطراب ما بعد الصدمة "المعقّد"
اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، كثر الحديث عنه مؤخراً في مجال التنمية البشرية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنّ الجهات الرسمية لم تعترف به حتى الآن كمرض نفسيّ، رغم تقديم طلب في هذا الاتجاه منذ سنوات، ورغم وجوده في التصنيف الدولي للأمراض.
يعتبره الأطبّاء النفسيون أو مدرّبو الحياة الذين يتداولونه، كشكل من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder أو PTSD. هذا الأخير المعترف به طبّيّاً منذ عقود، ينشأ عادة عن تجربة مخيفة أو عنيفة كحادث طريق أو كارثة طبيعية أو أعمال عنف.
من الشائع بعد مثل هذه التجارب أن يشعر المرء بمشاعر غامرة، مثل الخوف أو الحزن، ويتجنب المواقف التي تذكره بالصدمة، وأن تعاوده الذكريات المؤرقة.
لكن اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، بحسب الطبيبة النفسية الأمريكية، "آريال شوارتز"، هو "شكل آخر من إجهاد ما بعد الصدمة، يحدث نتيجة للتعرض للإجهاد الرضحي على المدى الطويل، وليس كردّة فعل على حادثة واحدة. ينشأ اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد عادةً كنتيجة للإجهاد المستمرّ أو الأحداث المؤلمة المتكرّرة التي تحدث أثناء الطّفولة".
1- "قلب طفل": سامحني أبي ولم أسامحه
قرأتُ في أقصوصة "قلب طفل" (1919) للكاتب الألماني الحائز على نوبل، هرمان هسه، من منشورات "دار نينوى"، وترجمة سعيد زويني، وصفاً شديد الدقّة لما يعيشه طفل صغير من أعراض تتطابق مع ما يوصف باضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، عندما يكون ضحية لترهيب والده.
يسرق طفل صغير بعض التين المجفّف من دولاب والده، فيعتريه شعور بالذنب، يعذّبه طوال النهار، إلى أن يكتشف الأب فعلته، فيعاقبه بالسجن لمدّة يوم في القبو قبل أن يسامحه.
الأب في هذه القصّة، مستوحاة هي الأخرى من حياة كاتبها، متغطرس، يُرهب ابنه، ويعامله بقسوة شديدة، ونرى خلال ذلك اليوم التي تدور فيه الأحداث ولداً صغيراً، تنازعته مشاعر التمرّد والطاعة، فوجد نفسه يسرق حبّات تين ثمّ يعيش جحيماً.
ربّما تساهم العائلة بدرجة أولى، وقبل المناخ السياسيّ الفاسد السائد، في اعتلال واضطراب النفوس
ترتبط كلمة "الأب"، في مخيّلة الطفل، منذ البداية بالعقاب والإحساس بالذنب، وهو يشعر تجاه والده بالضعف والخوف، وبأنّه يسحقه تماماً.
اليأس والعجز مشاعر مألوفة لدى هذا الطفل الصغير، وهو يظنّ أنّ صديقه "أوسكار" يفهم العالم، على عكسه هو، الذي لا يفقه منه شيئاً.
يفكّر الطفل في الانتحار والموت كبديل للحظة التي سيواجهه فيها والده بالسرقة. هكذا نجد في هذه الأقصوصة العديد من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد المذكورة.
ويبدو أنّ مثل هذه الطفولة تخلّف حقداً دفيناً ضدّ الوالد المسيء، فهذا الكاتب الكهل، يختتم الأقصوصة، قائلاً على لسان الولد الصغير: "عندما استلقيت على السرير، تأكّدت من أنه قد سامحني تماماً، أكثر مما كنت قد سامحته"، ونحن نعلم أن هرمان هسه كان قد عانى خلال حياته من أمراض نفسيّة، ومكث في مصحّات عقليّة.
2 - "الخبز الحافي": أبي قتل أخي
قد ينشأ اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد أيضاً نتيجة سوء معاملة الوالدين لأبنائهم، ونجد في الأدب العربيّ والعالميّ أمثلة مميّزة عن هذه العلاقة السببيّة.
يظهر ذلك بوضوح في سلوك الكاتب الفوضويّ، والموسوم باحتقاره لذاته، كما في رواية سيرته الذاتية "الخبز الحافي" للمغربيّ محمّد شكري.
يروي الكاتب حكايات عن قسوة والده العاطل عن العمل، وغطرسته، وإدمانه وسوء معاملته لأمّه، وإقدامه على قتل أخيه خنقاً لأنّه كان لا يكفّ عن الصياح من شدّة الجوع.
ما يُميّز اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، هو الاضطراب العاطفيّ الذي يتمثّل في مشاعر جامحة، لا سيّما الغضب والخوف، تستحوذ على الفرد، وتفقده السيطرة عليها. ويمكن أن تنجرّ عنه انفجارات عاطفية مرعبة لكل من الفرد والحضور.
وهذا الاضطراب العاطفيّ يرجع إلى اضطراب عصبيّ ناتج بدوره عن تجربة مثل تلك التي وصفها هرمان هسه بدقّة شديدة في أقصوصته "قلب طفل".
الطفل، الذي يعاني من الإهمال أو سوء المعاملة على يد من يقدّم له الرعاية، دون توفّر أيّ وسيلة له للهروب ولا وجود أيّ خيار سوى الاعتماد على مقدّم الرعاية في الرعاية العاطفية والطعام والمأوى والاحتياجات الأساسية الأخرى للحياة، يتعلّم مهارة فريدة من نوعها، وهي الانفصال عن الواقع. يتمكّن في الآن ذاته من أن يفصل الصورة البغيضة لمقدّم الرعاية ويضعها جانباً، وأن يرى مقدّم الرعاية بطريقة إيجابية كي يقدر على التواصل معه، بحسب أستاذة علم النفس، فابيانا فرنكو، في جامعة جورج واشنطن الأمريكية.
يحصل هذا الانفصال عن الواقع بسبب دخول دماغ الطفل في حالة تأهّب على المدى الطويل، في حين تقتضي الظروف الطبيعية أن تختفي حالة التأهّب عادة بزوال الحدث الصادم. ولكن دماغ الشخص المصاب باضطراب ما بعد الصدمة المعقّد، يبقى على هذه الحالة حتى عند بلوغه سن الكهولة، حيث تغدو حالة التأهّب حالته العاديّة.
3 - "سلوى في مهبّ الريح": ما الحنان؟
اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد يمكن أن ينشأ بدرجة أقلّ ضرراً، حتّى بسبب إهمال عاطفيّ للطّفل.
تكتب آريال شوارتز في هذا الصدد: "إذا تعرَضّتَ للإهمال أو الإساءة عندما كنت طفلاً، فمن المحتمل أن يكون توجّهك الأساسي نحو العالم هو التهديد والخوف والبقاء على قيد الحياة. من الطبيعي أن تجربة طفولتك مع والدين أو مقدّمي رعاية غير جديرين بالثقة ستجعلك غير واثق أو مرتبكاً بشأن ما يشكل علاقة حبّ".
الضرب أو الإيذاء اللفظي والمعنوي من الأهل له تبعات كارثية، قد لا نكتشفها إلا بعد عقود من الزمن، وتؤثر بشكل كبير على سلوكنا وعلاقتنا بالعالم
في رواية محمود تيمور الشهيرة، "سلوى في مهبّ الريح" مثال حي على ذلك. سلوى، في صغرها وفي بيتها، لا تعرف مشاعر الدفء والحنان من طرف مقدّمي الرعاية؛ والدها ميّت، ولا تدرك شيئاً عن أمّها، وجدّها الذي تعيش في بيته قاسٍ، ومتقلّب المزاج.
تتعرف سلوى على الحنان عبر المعينة المنزلية. وعندما يوافي الأجل الجدّ، تظهر أمّ سلوى لتأوي البنت، لكنّها لا تبدي لها أيّ عاطفة حقيقية، رغم أنّها توفّر لها حاجياتها الأساسية من الطعام، ويظهر فيما بعد أنّها بائعة هوى.
تنشأ سلوى دون أن تعرف معنى الحبّ، وتجد صعوبات عدّة في علاقاتها العاطفية. ترتبط مع رجال غير متاحين، مثل الباشا، والد صديقتها سنية، أو شريف، زوج سنية، وتتزوّج بحمدي، الرجل الذي لا تراه مناسباً لها، فلا تقدر على إنشاء علاقة حقيقية معه.
ما الحل؟
لا يلقى اليوم اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد علاجاً خاصّاً لأنّه لم يتمّ بعد القبول رسميّا بتشخيصه كاضطرابٍ مستقلّ، فهو حتّى في التصنيف الدّولي للأمراض ليس إلّا أخاً توأماً لاضطراب ما بعد الصدمة، فلقد طوّر البعض طرقاً في التّخفيف من أعراضه وربّما علاجه.
صارت الأمريكيّة "أنّا رنكل" مثلاً مشهورة بلقب "ساحرة الطفولة الرديئة"،وهو اسم الموقع الذي طوّرت فيه، بصفتها ناجية سابقة من طفولة عنيفة ومهملة، منهجاً يعتمد الكتابة والتّأمّل في معالجة اضطراب ما بعد الصدمة المعقّد.
ونظرًا إلى الإقبال الكبير على موقعها، يبدو أنّ العنف المستشري في الوسط الأسريّ الأمريكيّ يضاهي ضراوة العنف الأسريّ العربيّ، لكنّ أحد الفوارق بينهما حتماً هو أنّ الثاني لا يزال مسكوتاً عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...