- هل لفمي رائحة كريهة؟
- أوووه، لا أستطيع تذوّق شيء آخر في فمك، سوى طعم طفولتي.
هذا جزء من حوار دار بيني وبين صديقتي الفلسطينيّة لمياء، في أول قبلة حقيقيّة لنا في بيت جدتي ريما منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، بعد كوب من عصير التوت الذي كانت جدتي معروفة بصنعه، وحتى الآن لا يزال طعم التوت يُعيد أحاسيس غريبة إلي، الدوخة والغرابة الشبيهان بالسُكر، ولا أعلم إن كان هذا بتأثير تركيز السكّر أو التستوستيرون، لكنه يشبه أن تطحن ملاكاً بين أسنانك وتبتلعه بصمت.
التذوّق حاسّة ترتقي لمستوى الفضيلة الربّانيّة، وتبتعد غالباً عن مجالها الفيزيولوجي لتدخل في الحيز السيكولوجي، عندما نرى امرأة جميلة ترتدي ملابس متناسقة نقول عنها ببساطة: حلوة، تتمتّع بذوقٍ جيّد، لنعترف أنه لدينا خصلة التعبير عن الإعجاب باستخدام النكهات والمذاقات المختلفة، حيث تحوّل الطعم إلى شيء أكثر اتساعاً ومعرفة، قبل أن تتحوّل هذه المعرفة إلى ذكريات وعوامل صانعة لشخصيتنا، لكن ماذا عن نكهة فيلم سينمائي تتسلّل من نافذة مفتوحة في ليل، تذوب في الفم وتتحوّل لمعرفة مثيرة.
التذوّق حاسّة ترتقي لمستوى الفضيلة الربّانيّة، وتبتعد غالباً عن مجالها الفيزيولوجي لتدخل في الحيز السيكولوجي
حاسة الذوق، مثل الرائحة، ترتبط بالذكريات، فالدماغ البشري يُعيدها إلى ذكريات معينة، لذلك أغلب الأطفال يستعيدون نكهة الفانيليا ويرغبون بالسكّر، ذلك أنهما يشكّلان، غالباً، جزءاً من أطعمتهم الأوليّة في مرحلة الطفولة إضافة لحليب الأم، فالنكهات الأربع الأساسيّة، ترتبط بشكل مباشر بالخلايا الذوقيّة على اللسان أما بقية النكهات فهي "تجارب حسيّة" ترتبط بذاكرتنا عنها، لذا سيكون علينا أن نكتب كتاباً، كمارسيل بروست، كلّما غمسنا قطعة بسكويت بالشاي، أو كلّما نزلت نقطة زيت على أصابعنا وقمنا بلحسها كما يفعل الطهاة، هذا جزء مما تصنعه ذاكرة المذاقات في الأشخاص، كما تمتلك حاسّة التذوّق ميلاً للتصنيف الطبقي اعتماداً على حساسيتها، الذوق الرفيع للبرجوازيّة وثقافتها والسيء أو المنحط للطبقات الفقيرة، فالبيض لا يُطهى بـ"الضراط" كما يُقال، وتذوّق الأعمال الجيّدة يحتاج مصاريفاً ليست بمتناول الجميع، فيكون الذوق المتطوّر هو علامة التحضّر، حيث يتعلّم المرء أن يقدّر الأعمال الفنيّة، الأطباق الجيدة، الملابس الأنيقة، التراث المعماري، يصبح الذوق ومن خلفه الطبقة الاجتماعّية عندئذ، علامة الانفتاح أو الانغلاق الثقافي، بالرغم مما يشوب هذه التصنيف من انحياز تفرضه ثقافة "القطيع"، فأنا حقّاً لا أفهم الحاجة إلى أمرٍ مثل رقص الصالونات أو الأوبرا.
الطعم الحقيقي والوهمي
إذن، طالما الأمر مرتبط مباشرة بتاريخنا الشخصي وبذكرياتنا، فنحن قد نتوه عن الطعم الحقيقي للأشياء، وربما فكرة "الحقيقي" نفسها فكرة مثاليّة للغاية، لا تلزمنا أصلاً، فعندما تذوّقت أوّل مرّة شاياً سيلانيّاً فاخراً، وجدت فيه اختلافاً عن الشاي الذي عرفته طوال عمري، ربما صنعه المبلغ المدفوع ثمن تلك الأوراق الناعمة التي تنفرد فتصبح بمقدار الكفّ، والذي يبلغ عشرات الأضعاف عما اعتدت دفعه، لكنها كانت شيئاً لم اعتد مذاقه، أيضاً، أشكّ بمعرفتنا طعم الأشياء الأصليّة، فنحن خاضعين لمزاج المسوّقين والشركات الصانعة و"المعايير الصحيّة"، كما لمزاج مزوّري البضائع ومستورديها، لدرجة أننا لن نكون متأكدين تماماً أن هذه هي فعلاً طعمة القهوة البرازيليّة، أم أن ذائقتنا اعتادت طعمة ما وأطلقت عليها هذا الاسم، وينطبق الأمر أيضاً على كلّ شيء آخر: من يجرؤ على القول أن طعم قبلة الحبّ تختلف عن طعم قبلة الكراهية؟ (تذكّروا قبلة مايكل كورليوني لأخيه في فيلم العرّاب) لهما الشغف نفسه والسوائل ذاتها، من يقول إن صحن "تبولة" بائت لا يصنع نفس متعة دجاجة مشوية لجائع؟
كما يمثّل الطعم آليةً دفاعيّة ما، فغالباً طعم السموم مرير وهذا ما يدفعنا لبصقها، لكن ماذا نفعل إذا كان السمّ موضوعاً على طرف حلمةٍ غامقة، غالباً سنموت بسعادة، وهذا يشرح المثل القائل: دسّ السمّ في الدسم.
طعم المفردات المالحة
كما أن البكتيريا مسؤولة عن صناعة الرائحة السيّئة هي أيضاً مسؤولة عن تحويل الطعم لشيء آخر، أحياناً يكون أشهى من الأصلي: اسألوا محبّي البيرة وجبنة روكفور الزرقاء و"الشنكليش"، من يصدّق هذا؟ البكتيريا القذرة مسؤولة عن شيء رائع مثل "الشنكليش"؟ يا لعظمة باستور إذن.
وبنفس الطريقة يستخدم الشعراء والكتّاب بكتيريا المشاعر، يحقنون المفردات بها لتشعّ بالحنين الثمين:
طعم الألم القديم: ليس صعباً أن تتذكّر أمثلة، لكنّك ببساطة، أيهّا القارئ التمساح، قد استسغته، أصبح مرادفاً عندك للاستيقاظ في الصباح، ومشابهاً لطعم القهوة والسكّر والقبلات الحميمة، أصبح طعم الألم غدّة أخرى، قرب غددك اللعابيّة، فيلتر تمرّ خلاله كلّ الأشياء التي تدخل فمك وتعطيه تلك النكهة اللاذعة المقرفة التي لا تستسيغ شيئاً بدونها، طعم كطعم مجارير قديمة تُغرق المنزل وتخنق الأوقات.
طعم الفقر العاري: اسأل عنه سكّان العشوائيّات في أحزمة المدن، اسأل عنه نابشي القمامة ومعفّري حبّات الزيتون، جامعي الخبز اليابس ومجفّفي الخضروات ومتسوّلي آخر الليل، أبناء السرير المقسوم على تسعة والدجاجة التي تصنع ست وجبات مختلفة، دعك من ذلك، تجوّل في القرى المنثورة في الجبال وستراه بعينك، طعم يتدلّى من أشجار الزيتون كثمار صغيرة.
طعم أن تكون سورياً: لن تحتار بتحديد هذا الطعم أبداً، يأتي بنكهة الذلّ وأحياناً بنكهة الرجاء، يأتيك بكلّ الألوان والأمكنة، كأنه بهار سوري يضيفه الرب لكلّ شهيق، يلزمك أن تتجنّبه أمام أبواب المستشفيات أو السجون أو المدارس الكئيبة، أو أمام العلم الذي يرفرف جذلاً وهو مبلّل بالكبرياء الوهمي، قد يترك آثاراً خطيرة في القلب تتخلّص منها فقط حين تموت.
طعم الخذلان المرّ: يُقال له هكذا، لكن أحياناً يكون حامضاً بعض الشيء، يشبه أن ترمي بنفسك على أمل أن تسقط فوق سرير وثير، فتتفاجأ بقبلة البلاط البارد، أن تضيف قطعتي سكّر إلى كأس الشاي، ولا يزداد حلاوة بل انقباضاً، كأنك تضيف دمعاً إلى ماء أو جرحاً إلى ميت، يوجد في المطاعم الشعبيّة لكنه يكثر في العلاقات الإنسانيّة وخصوصاً الزيجات القديمة.
طعم الفاكهة بين ساقيك أيتها المتهتكة الصغيرة: الدوائر الوهميّة التي يصنعها طرف اللسان تحضر بنكهةٍ معدنيّةٍ حامزة، ثمّ الخيط الطويل من سائل لزج يعلق بالأنف ويمتدّ، طعم الاندفاع والرغبة بالدخول أعمق إلى مغارة النكهات الفاتنة، وبين الهمهمات المتلاحقة والرجاءات المفاجئة: "لسّه شوي" ينبعث طعم حلو، ليس حلواً بالضبط إنما محبّب وله هذه الخاصية: مدوّخ، ويستحضر في لحظةٍ واحدة، التاريخ السرّي لنكهات نساء الأرض.
حاسة الذوق، مثل الرائحة، ترتبط بالذكريات، فالدماغ البشري يُعيدها إلى ذكريات معينة، لذلك أغلب الأطفال يستعيدون نكهة الفانيليا ويرغبون بالسكّر، ذلك أنهما يشكّلان، غالباً، جزءاً من أطعمتهم الأوليّة في مرحلة الطفولة إضافة لحليب الأم.
في طفولتي تلقّت والدتي كميةً من الكاري فصارت تضيفه إلى كلّ الوجبات... فصرنا نأكل سلطة خضروات بالكاري أيضاً، ولبنة وزعتر بالكاري، أصبح بيتنا كقنِّ دجاج في نيودلهي، والآن إذا سُئلت ما هي طعمة طفولتي، أقول بدون تردّد: المهاتما غاندي.
مطاف الجائع
يقول نيتشه: طعم القطيع أقدم من ذوق الفرد، بالرغم من أن كلمة ذوق هنا تضمّ كلّ ما يختاره المرء بمحض إرادته من مأكل وملبس وأفكار أيضاً، إلا أننا نستطيع الحديث عن ذوقٍ عام ونكهةٍ عامة، مثل الانتشار المذهل للشاورما في بلدان اغتراب السوريين، وقنبلة "الفلافل" قبل ذلك، بالنسبة لي وجدت دائماً في الشاورما طعماً غريباً، يُشبه أن تضع قططاً حيّة في ساندويتش، مع المخلّلات والبهارات المطلوبة، أما الفلافل فبالتأكيد ثمّة مشاركة تاريخيّة للذباب في طهيها، لكنه ذوق عام يتعلّق بخيارات النزهة والسعر، والرغبة في اكتراء جهد الآخرين أيضاً، إنها مسألة تدريب فحسب، فالأطفال يتعوّدون على مذاقات طبخ الوالدة، وهذا ليس مرتبطاً دوماً بالثقافة الوطنيّة، فقد يكون له علاقة بالمادة الأكثر توافراً في المطبخ لا غير، في طفولتي تلقّت والدتي كميةً ضخمةً من الكاري فصارت تضيفه إلى كلّ الوجبات، وانتشرت نكهة الكاري في المطبخ ثمّ في المنزل وربما في الحيّ، فصرنا نأكل سلطة خضروات بالكاري أيضاً، ولبنة وزعتر بالكاري، أصبح بيتنا كقنِّ دجاج في نيودلهي، والآن إذا سُئلت ما هي طعمة طفولتي، أقول بدون تردّد: المهاتما غاندي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون