وحده يُسأل جمال عبد الناصر عن هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967. وقد أعلن عن تحمّله المسؤولية. الهزيمة زلزال ألزمه بأن يعيد النظر في البنية السياسية للحكم، وأن يحسم ضعفاً شخصياً تجاه صديقه عبد الحكيم عامر وزير الدفاع. وأخيراً تم إبعاد الجيش عن السياسية. هل كانت دكتاتورية عبد الناصر سبباً للهزيمة؟ تبسيط لعله يهين العقل، واختزال يحلو لكسالى من محترفي البكاء في خمس مناسبات تقترن بالرجل طوال العام.
بالمازوخية يستقبلون السنة الجديدة بذكرى ميلاد عبد الناصر، وتتبعها ذكرى الهزيمة، وفي تموز/يوليو يتزامن انقلاب 1952 وتأميم قناة السويس، وتنتهي البكائيات في ذكرى وفاته، استعداداً لجولة شماتة خماسية في العام التالي.
لي أصدقاء يرون الشيطان في ملامح عبد الناصر؛ بعضهم ما كانوا ليتعلموا لولا الإنجازات الاجتماعية للثورة. لي أيضاً أصدقاء اكتسبوا الليبرالية في خريف أعمارهم يتذرعون بالديمقراطية لسبابه. وبحكم تنشئة إخوانية كنت مثلهم كارهاً للرجل، إلى درجة التكفير الديني. ليس مصدر تلك الكراهية خلوّ تراث أسرتي مما يدعوني إلى محبته، فلم يستفد أبي من الإصلاح الزراعي، لنفاد أراضي الخواجة والإقطاعيين في قريتنا، قبل أن يصيب الحظ فلاحاً آخر اسمه سبق اسم أبي، في قائمة انتظار الموعودين بتملّك قطعة أرض. نشأت الكراهية في سن الثالثة عشرة، حين "اهتديتُ" إلى مجلة "الدعوة" لسان تنظيم الإخوان. وفي جامعة القاهرة فوجئت بأن للرجل ـ الذي آمنت بكفره ـ أنصاراً "ضالين" مثله، اسمهم "الناصريون".
تمنيت أن يخسف الله بالناصريين الأرض. كنت ممزقاً بين إيماني بكفر زعيمهم، ونشر قصصي القصيرة في منابر يسارية منها الصفحة الأخيرة في العدد الأسبوعي لصحيفة "الجمهورية" إشراف الشاعر محسن الخياط، ومجلة "أدب ونقد" التي يصدرها حزب التجمع برئاسة تحرير الناقدة فريدة النقاش. وعبر قراءات ومجاهدات، أقرب إلى سحْب السموم من الدماء، أنقذني الخيال، ونقّى قلبي الذي بدأ يسمح بأن تتسلل إليه محبة عقلانية، اختيارية غير موروثة، لرجل رسّخت مجلة "الدعوة" في نفسي أنه "رأس الجاهلية في القرن العشرين". تجربة خاصة جداً، أقرب إلى علاج بالخيال، وخلاص بالعقل.
أدهشني أن تهون على مثقفين ماركسيين سنوات الاعتقال، فيمدحوا عبد الناصر بعد زوال أسباب الخوف؛ فؤاد حداد منحه لقب الشهيد. ويوسف صديق خاطبه: أبا الثوار هل سامحت دمعي/يفيض وصوت نعيك ملء سمعي
في 28 كانون الثاني/يناير 2018 نشرتُ في صحيفة العرب اللندنية مقالاً عنوانه "هل كان ضحايا عبد الناصر مرضى حين مدحوه ميتاً؟". أدهشني أن تهون على مثقفين ماركسيين سنوات الاعتقال، فيمدحوه بعد زوال أسباب الخوف؛ فؤاد حداد منحه لقب الشهيد. ويوسف صديق خاطبه: أبا الثوار هل سامحت دمعي/يفيض وصوت نعيك ملء سمعي.
ثم تناسلت أحزاب وتيارات ناصرية في العالم العربي تؤكد أن الرجل ظاهرة مركبّة؛ من يراه شيطاناً يجد فيه دلائل على الشيطنة، ومن يراه مستبداً عادلاً زاهداً لن يعدم قرائن للقداسة. ناصر يستعصي على اختزال يريح الليبراليين الجدد الزاعمين بأن الدكتاتورية أدت إلى هزيمة 1967. كما يطْمَـئن اليمين الديني بأن نصر إسرائيل استحقاق إلهي، عقاباً لمصر على توجهها الاشتراكي.
سمعت يوسف القرضاوي في محاضرة بجامعة القاهرة، نهاية الثمانينيات، يقول: "انتصرنا على اليهود في حرب رمضان (1973) حين قلنا: الله أكبر. وقد هزمونا في 1967، لأن شعارنا كان: وسيفنا يتحدى القدر". رؤية منغلقة تهين جيشاً وطنياً. لا فرق بين القرضاوي ومحمد الشعراوي. عمى اليمين الديني ينتهي بأن الله نصر إسرائيل، وكافأ المشركين في غزوة أحد، على صيام النهار وقيام الليل. واستشراق الليبراليين يعمي عن حقائق تاريخية لم تكن فيها الدكتاتوريات سبباً للهزائم. هل كان هتلر عقاباً إلهياً أو ديمقراطياً لفرنسا بسبب حكمها الدكتاتوري؟ لماذا انتصر ستالين ويداه أكثر تلوثاً بالدماء؟ ربما كان من التعقل إبعاد الله والديمقراطية عن نتائج الحروب، والنظر إلى النصر والهزيمة في سياقها التاريخي الموضوعي.
في فرنسا لا يقيمون بكائيات سنوية في ذكرى الاحتلال النازي للبلاد، ولا يستعيدون سقوط نابليون بشماتة مصريين يجددون فرحهم بهزيمة 1967 نكاية بعبد الناصر. لم يشارك نابليون في الثورة الفرنسية، ولولاها ما ذكره التاريخ. وقد انتهت الثورة على يديه بحكم ملكي وراثي أشدّ وطأة من حكم لويس السادس عشر. الجنرال الطموح، الذي توّج نفسه إمبراطوراً، مات مهزوماً منفياً. ولا يزال رمزاً أكبر من كارهيه. الهزيمة في إحدى جولات الحرب ليست عاراً. فرق كبير بين الهزيمة والتفريط والخيانة.
المعلم يعقوب
في مصر، استعان الجنرال ديزيه بالمعلم يعقوب. وفرّق بينهما الموت، ورفض نابليون أن يجمعهما قبر. أثار ديزيه الرعب، لإخضاع أهالي الصعيد لسلطة الاحتلال. يرتكب مذبحة في قرية، فيسبقه الفزع إلى غيرها. واستعان بسلاح محلي اسمه الجنرال يعقوب ذي الشخصية الملتبسة. يراه البعض ثائراً ينشد الاستقلال السياسي لمصر، ويستعين على الاضطهاد العثماني والمملوكي بالاحتلال. ولم تغفر له الكنيسة القبطية تعاونه مع الغزاة. ورحل عام 1801 مع الجيش الفرنسي بعد فشل الحملة، وتوفي في الطريق، فأبرقوا إلى نابليون بخدماته للجيش الفرنسي، ووصيته بأن يدفن بجوار صديقه ديزيه، فجاء رد نابليون قاطعاً: ادفنوه في أي مكان؛ ففرنسا لا تدفن الخونة بجوار أبطالها.
ديزيه كما رسمه أندريه أبياني
برقية نابليون وعدتْ بالاطلاع عليها، وتصوير نسخة منها وإرسالها، صديقة مقيمة في باريس، وشغلتنا موجات ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. وانتكست الثورة، وظل عبد الناصر بطلاً لمفارقة جسدها البعض عام 2012، أيام الضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ميدان التحرير، لتسليم السلطة.
في صعود الثورة، كان المشهد الحالم بسلطة مدنية لا يخلو من معاصرين لعبد الناصر، يحملون صورته ويهتفون بسقوط "حكم العسكر". مشهد لو رأته عين استشراقية لاتهمت أصحابه بالتناقض. لكن حاملي الصور متسقون مع أنفسهم، يعنيهم أنه وطني، نظيف اليد، حكم في ظروف عاصفة، وأنصف عموم الشعب، وبقيت له في ميزان التاريخ كفة راجحة، تؤكدها صورته الصامدة في الشارع بعد نصف قرن من التشويه الساداتي والإخواني، ومن قبره يغذّي عقدة نفسية لغيره.
وكما يواصل الإخوان سبابهم للشعب منذ اختار التخلي عنهم عام 2013، لا يراجع ليبراليون جدد ثوابت تكاد تصبح من السلفيات. يكفي شيء من القلق الداعي إلى التساؤل عن حلم قطاع كبير من الشعب باستعادة تجربة عبد الناصر، مخصوماً منها الاستبداد. افتراض يتحدى المغرمين بمازوخية لا تخطئها عينا القارئ لأغلب فصول كتاب "في تشريح الهزيمة... حرب يونيو 1967 بعد خمسين عاماً"، تحرير: خالد منصور (دار المرايا للإنتاج الثقافي، القاهرة).
كأنكم تقرأون هذا "الكلام" في سبعينيات القرن العشرين. نصف قرن ولا يملّون تكرار الاتهامات نفسها. من دون إغلاق خليج العقبة، وحرب اليمن، والاستبداد السياسي، كانت الهزيمة مخططاً لها. وإذا كان عبد الناصر نجا عام 1956 من مصير الدكتور محمد مصدق في إيران، فإن التواطؤ الصهيوغربي قائم، والصيد هو عبد الناصر، لولا أن فاجأهم رفض الشارع المصري والعربي عام 1967.
في حزيران/يونيو 2001 نشر الدكتور رؤوف عباس في مجلة الهلال مقالاً عنوانه "حلف الأطلنطي وراء ضرب عبد الناصر في يونيو"، وتضمن وثيقة تسجل محضر الجلسة الأولى من محاضر اجتماع حلف شمال الأطلسي في شتاء 1964، لمناقشة ورقة عمل تركية عنوانها تصفية عبد الناصر، أعدها وزير الخارجية التركي، لإنهاء ما يمثله عبد الناصر من عقبات أمام الأحلاف العسكرية.
إذا كان عبد الناصر نجا عام 1956 من مصير الدكتور محمد مصدق في إيران، فإن التواطؤ الصهيوغربي قائم، والصيد هو عبد الناصر
وفي السعودية كان العرش مهدداً. تتضمن وثيقة رقمها 342، لمجلس الوزراء السعودي في 27 كانون الأول/ديسمبر 1966، رسالة من الملك فيصل يخاطب الرئيس الأمريكي ليندون جونسون:
"يتبين لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً، وأن هذا العدو إن ترك يحرّض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، فلن يأتي عام 1970 ـ كما قال الخبير في إدارتكم السيد كيرميت روزفلت ـ وعرشنا ومصالحنا في الوجود. لذلك فإنني أبارك، ما سبق للخبراء الأمريكان في مملكتنا أن اقترحوه، لأتقدم بالاقتراحات التالية:
ـ أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولي به على أهم الأماكن حيوية في مصر، لتضطرها بذلك، لا إلى سحب جيشها صاغرة من اليمن فقط، بل لإشغال مصر بإسرائيل عنا مدة طويلة لن يرفع بعدها أي مصري رأسه خلف القناة، ليحاول إعادة مطامع محمد علي وعبد الناصر في وحدة عربية، بذلك نعطي لأنفسنا مهلة طويلة لتصفية أجساد المبادئ الهدامة، لا في مملكتنا فحسب، بل في البلاد العربية ومن ثم بعدها...
ـ سوريا هي الثانية التي لا يجب ألا تسلم من هذا الهجوم، مع اقتطاع جزء من أراضيها، كيلا تتفرغ هي الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر.
ـ لا بدّ أيضاً من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة، كيلا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك، وحتى لا تستغلهم أية دولة عربية بحجة تحرير فلسطين، وحينها ينقطع أمل الخارجين منهم بالعودة، كما يسهل توطين الباقي في الدول العربية.
ـ نرى ضرورة تقوية الملا مصطفى البارزاني شمال العراق، بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال أي حكم في بغداد يريد أن ينادي بالوحدة العربية شمال مملكتنا في أرض العراق، سواء في الحاضر أو المستقبل، علماً بأننا بدأنا منذ العام الماضي (1965) بإمداد البارزاني بالمال والسلاح من داخل العراق، أو عن طريق تركيا وإيران.
يا فخامة الرئيس
إنكم ونحن متضامين جميعاً سنضمن لمصالحنا المشتركة ولمصيرنا المعلق، بتنفيذ هذه المقترحات أو عدم تنفيذها، دوام البقاء أو عدمه".
وفي كتاب محمد حسنين هيكل "سنوات الغليان" وثيقة، تقدير موقف لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن إمكانات الاستقرار في مصر، وتؤكد بقاء نظام عبد الناصر "إلا إذا واجه أحد احتمالين: اغتيال أو هزيمة عسكرية أمام إسرائيل".
وفي كتابه "بين الصحافة والسياسة" يورد هيكل صورة من مذكرة مقدمة إلى عبد الناصر، في 3 حزيران/يونيو 1970، كتبها سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات، عن تحركات تستهدف الأوضاع في مصر. وقد طمس هيكل بعض السطور لاعتبارات أمنية وقت صدور الكتاب (دار الشروق، القاهرة 2003). وكتب عبد الناصر بخطه أعلى المذكرة: "سامي لقد تقابل علي أمين في روما مع أحد المصريين المقيمين في ليبيا وقال له إن الوضع في مصر سينتهي آخر سنة 70. جمال".
لي أصدقاء يرون الشيطان في ملامح عبد الناصر؛ بعضهم ما كانوا ليتعلموا لولا الإنجازات الاجتماعية للثورة. لي أيضاً أصدقاء اكتسبوا الليبرالية في خريف أعمارهم يتذرعون بالديمقراطية لسبابه. وبحكم تنشئة إخوانية كنت مثلهم كارهاً للرجل، إلى درجة التكفير الديني
وبالعودة إلى عام 1967، يسجل خالد منصور في كتاب "في تشريح الهزيمة" ابتهاج السعودية بهزيمة عبد الناصر، حتى أن الملك فيصل قال للسفير البريطاني: "لو كنت في مكان اليهود لقمت بما فعلوه بالضبط، ناصر متآمر ضليع وزعيم مزيف". برقية السفير البريطاني محفوظة في الأرشيف البريطاني، بتاريخ 26 حزيران/يونيو 1967.
كتاب "في تشريح الهزيمة" تأليف جماعي مصري. ولا يعدم لبنان مستأسدين، بأنصبة متفاوتة، على عبد الناصر وهواري بومدين والحبيب بورقية. يحمّلون عبد الناصر مسؤولية كوارث سابقة عليه وتالية له، من النكبة، إلى الحرب الأهلية اللبنانية، واحتلال الكويت، وجنون القذافي. ولو داس قدمَهم أحدٌ في الزحام للعنوا عبد الناصر.
أكتفي بالأستاذ حازم صاغية. احتفى بكتاب "في تشريح الهزيمة" في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2017، وكتب عنه صفحة في صحيفة الحياة التي كان يمولها بعض من أولاد عبد العزيز آل سعود. انطلق من الكتاب ليقول إن حزيران/يونيو 1967 "لم تكن حرباً خطط لها أن تهزم الناصرية لأن الناصرية كانت مهزومة". برافو. ولنا أن نتأمل جملة يبدأ بها فقرة عنوانها "...عدوان؟": "قد يكون صحيحاً أن إسرائيل عدوانية وتوسعية، لكن، وهذه هي الكذبة الكبرى والأكبر، ليس هناك من برهان صلب واحد على أنها كانت تمتلك خطة عدوانية وتوسعية في 1967". هكذا حرفياً، والله على ما أقول شهيد.
ألتمس العذر دائماً، لأن أكل العيش مرّ. ربما اقتضت الأمانة، أو بعض منها، إشارة إلى ما جاء في صفحة 70. قال الملك فيصل للسفير البريطاني: "لو كنت في مكان اليهود لقمت بما فعلوه بالضبط، ناصر متآمر ضليع وزعيم مزيف". حتى نقل الاقتباس موثّق تلزمه شجاعة.
لا أدخلنا الله في تجربة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 11 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت