يبدأ الصباح كلّ يومٍ، بصوت فيروز وهي ترتل أكثر مما تغنّي. فصوت فيروز في الصباح صلاة أكثر منه غناءً، تشعرُ وكأن فيروز تتسلل إلى منزلك من النافذة المطلة على الضوء الذي ننتظره في آخر النفق. توقظك بضحكتها هي وريما فرحتَين بعثورهما على شادي، تُعدُّ معكَ القهوة وتتركك لتصارع الحياة بطاقة إيجابية مستمدة من ملائكية صوتها. تشعرُ وكأن فيروز كالأديان صالحة لكلّ زمانٍ ومكان. في نهاية الصيف، تنشد لكَ آخر أيام الصيفية، وتأتيك بعدها بورق أيلول الأصفر في الخريف، ثم تعطيك النتيجة "من الآخر" من دون مجاملة: "تحت الشتي تركوا بعضن". تركب معك الحافلة على هدير البوسطة، وتأخذك في رحلة إلى الطاحونة "على كتف المي"، وتبيعكَ محبساً في موسم الخواتم لتصبح صحيحةً الخبرية، وتعاتب العالم معك قائلةً: "يا خسارة الحب يا خجلة الأمل". وفي النهاية، تعصر قلبك حزناً على "الدكانة" التي "انهدت وتعمّر بيت جديد".
لتجد نفسك في النهاية متورطاً في التعاطف مع حنّا، مع أنه سكران، وذلك لأنه رجل طيب، لتأتي مطربة من هذا الزمن و"تلطخ سمعته" قائلةً: "يبقى حنّا السكران على حيطان النسيان عم يزبط بنت الجيران"
لتجد نفسك في النهاية متورطاً في التعاطف مع حنّا، مع أنه سكران، وذلك لأنه رجل طيب، لتأتي مطربة من هذا الزمن و"تلطخ سمعته" قائلةً: "يبقى حنّا السكران على حيطان النسيان عم يزبط بنت الجيران"، بدلاً من "يغنّي وتحزن بنت الجيران".
فكيف لها أن تستهر بالأغنية إلى درجة تصل بها إلى أن تصعد إلى المسرح لتغنّي أغنيةً لقامة فوق التصنيف، من دون أن تجري ألف بروفا وتدريب قبل ذلك؟ أو تثقل الحمل على نفسها وتحفظ كلمات الأغنية كأضعف الإيمان؟
وكيف لنا أن نغفر جريمةً تشوّه صباحاتنا الهادئة؟
ولمن يظن أنها مجرد أغنية، عليكَ أن تعلم أنها تاريخ، وربما يمكننا أن نطلق عليها "تأريخ"، لأن معظم أغاني فيروز التي كتبها ولحنها الرحابنة، كانت من واقع حياتنا اليومية، وهذا السبب الذي يجعلها تلامس القلوب قبل الآذان.
وعن قصة حنّا السكران، يُحكى أنه في عام 1959، في لبنان، كان رجلٌ يعمل حلاقاً رجالياً، معروف باسم حنا، مجهول الكنية، ودائم السكر، يأتي من أنطلياس إلى طرابلس ليزاول مهنة الحلاقة الرجالية، ثم ينهي عمله ويشتري مشروباً كحولياً ويجلس في محله وهو يحتسيه حتى الثمالة، وأحياناً ينام في المحل، إلا أنه ولسبب ما تمّ هدم هذا المحل واستُبدل ببناء سكني جديد، فظل حنا يأتي إلى المكان نفسه، ويقوم بقصّ شعر الرجال في تلك المنطقة في الشارع من دون محل يعمل فيه، ثم ينهي عمله ويشتري مشروباً كحولياً ويستمر في الشرب حتى الثمالة، ويجوب الشارع زاويةً تلوى أخرى حتى يفقد الوعي وينام في الشارع أحياناً.
إلا أن حنا لم يحتمل أن يأتي إلى المكان من دون أن يجد محلّهُ الذي اعتاد أن يعمل فيه، فهاجر هو وعائلته إلى كندا، وفي النهاية توفيّ هناك.
كيف لها أن تستهر بالأغنية إلى درجة تصل بها إلى أن تصعد إلى المسرح لتغنّي أغنيةً لقامة فوق التصنيف، من دون أن تجري ألف بروفا وتدريب قبل ذلك؟ أو تثقل الحمل على نفسها وتحفظ كلمات الأغنية كأضعف الإيمان؟
وفي روايةٍ أخرى، سألت إحدى المذيعات زياد الرحباني خلال لقائ معه: هل تظن أن والدك كان يقصد بأغنية حنا السكران جدّك الذي يحمل الاسم نفسه، والذي كان في حالة سُكرٍ دائم، كمحاولة لذكره في أغانيه، فأجاب زياد: ربما. أي لم ينفِ، ولم يؤكد.
ولكن أياً كان حنا السكران، لا يجوز لأحدٍ مهما كان أن يعبث بأغاني السيدة فيروز، وأن يشوّه كلمات شمس الصباح. فلتتركوا لنا فيروز التي ترافقنا في طريقنا إلى الجامعة، ثم تكبر معنا وترافقنا إلى العمل، فيروز التي تخففُ عنا عناء المواصلات العامة، وتكلل قصص الحبّ الهاربة من وحش الحياة. لا تطلوا علينا بفساتينكم المبتذلة التي تنشز على أغانيها أكثر من طبقات الصوت، فأغانيها لا تتناسب إلا مع فستانها الذي أطلت به في أول فيلم غنائي عربي "بياع الخواتم"، عام 1964، وغنّت: "يا بياع الخواتم بالموسم اللي جايي جبلي معك شي خاتم". بدت أنيقةً، وناعمةً، بفستانٍ أزرق بسيط، وأكمامٍ من الموسلين.
وعن هذا التشويه، وجّهت ريما الرحباني، ابنة الفنانة فيروز، انتقاداً شديداً إلى حفل "ليلة أمل"، الذي نظمه ابن عمها الفنان أسامة الرحباني، وشارك فيه عدد من الفنانين والفنانات. شهد الحفل إطلالةً مشتركةً للفنانتين هبة طوجي، وإليسا، ولكن إطلالة إليسا لاقت انتقادات واسعةً على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدّ البعض أن مشاركتها لا ترقى إلى مستوى "مسرح الرحابنة"، والبعض الآخر رأوا أن غناءها لفيروز كان دون المستوى.
نحن المستمعين البسطاء، الذين لا نفرّق بين "الدو" و"الري"، ولا نعلم شيئاً عن صراعات الجيل الرحباني الجديد، نتمنى ألا تُمسّ أغاني الصباح التي نُحبّ، وألا تشوَّه ذاكرتنا البصرية، تلكَ التي تتولد في مخيلتنا مع كلّ قصة ترويها فيروز بكلماتها، معلنةً بدء مسرحية جديدة في خيال كلّ واحدٍ منا
ريما نشرت على صفحتها مقطعاً لإليسا وهي تغنّي أغنية "حنا السكران"، وهاجمت ريما الحفل بقساوة، مشيرة إلى أنه مليء بالنشاز، ومنتقدةً غناء إليسا، لكنها عدّتها ضحيةً وليست مجرمةً، مشيرةً إلى أن المسؤولية تقع على منتج الحفل، وأنه لا يحق لأحد أن يشوّه إرث آل الرحباني، ويأذن للفنانين أن يغنّوا أغاني فيروز.
وختمت ريما قائلةً: "هاي ما كانت تحيّة... هاي كانت إهانة لأعمال عاصي ومنصور والياس... في عاصي الرحباني واحد ما في غيره، ولبعد ألف سنة ما بيجي غيره!".
ونحن المستمعين البسطاء، الذين لا نفرّق بين "الدو" و"الري"، ولا نعلم شيئاً عن صراعات الجيل الرحباني الجديد، نتمنى ألا تُمسّ أغاني الصباح التي نُحبّ، وألا تشوَّه ذاكرتنا البصرية، تلكَ التي تتولد في مخيلتنا مع كلّ قصة ترويها فيروز بكلماتها، معلنةً بدء مسرحية جديدة في خيال كلّ واحدٍ منا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع