يندرج المقال في ملف عن السحر أعدته وأشرفت عليه أحلام الطاهر
تقول الأسطورة الإغريقية، إن الملك ميداس كانت له قدرة خارقة على تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب، صنفها البعض كمعجزة بينما اعتبرها آخرون لعنة، خاصة حين غفل الملك واحتضن ابنته في أحد الأيام، فتحولت هي أيضاً إلى تمثال ذهبي. ومن تلك الحكاية الميثولوجية خرجت مقولة "لمسة ميداس"، التي تُطلق في عصرنا الحالي على رواد الأعمال والمغامرين الذين يحوّلون كل تحركاتهم ومشاريعهم إلى مكاسب مادية وثروات هائلة.
لطالما استحوذت فكرة تحويل المعادن المختلفة إلى ذهب على مخيلة "الخيميائيين" القدامى، من ممارسي "الكيمياء الروحانية" والتي يمكن تصنيفها على أنها المرحلة البدائية العتيقة لعلم الكيمياء. إذ كانت، إلى جانب المعارف المتعلقة بالمواد المختلفة وتفاعلاتها مع بعضها، تحتوي على أبعاد فلسفية وروحانية وسحرية. حتى أن أرسطو نفسه زعم في هذا المبحث أن كل مادة في العالم تسعى للاكتمال، وأن أكثر عناصر الطبيعية اكتمالاً هو الذهب، وذهب أرسطو إلى إمكانية تحويل المعادن الأدنى درجة إلى ذهب، على اعتبار أن المعادن الرخيصة، كالحديد والرصاص، تسعى للاكتمال هي أيضاً، وهو ما يؤمن الخيميائيون القُدامى أنه ممكن، عن طريق عملية إبراء (Transmutation) أي تحويل عنصر إلى آخر.
و "زراعة الذهب"، هو المصطلح الذي استقر عليه الكيميائي العربي القديم أبو القاسم العراقي السيماوي، ليضعه عنواناً لأحد كتبه، وهو كتاب العلم المكتسب في زراعة الذهب (1923)، الذي صنّف فيه بعض العلوم المتعلقة بالكيمياء، و"الخيمياء الروحانية". وهو سبب شهرته إلى يومنا هذا. ويتناول فيه ما سبق لأرسطو أن تناوله قبل مئات قرون من ميلاد أبي القاسم العراقي، أي عملية استنساخ الذهب أو "زراعته".
وصفة لصنع حذاء خارق يمشي في اليوم مسيرة شهر دون تعب، وطريقة تصنيعه بالتفصيل... ملف السحر وتحويل العالم على ما نشتهي
وقد أُطلِق لقب "السيماوي" على أبي القاسم، لاهتمامه بعلوم السيمياء، التي يمكن تلخيصها على أنها "سحر الحروف"، وهو ما يوضح ميل وإيمان هذا العالم العربي القديم إلى إدخال البعد الروحي على العلوم الكيميائية. لدرجة قد تفارق تلك العلوم حقل الكيمياء – وفقاً للتعريف الحديث – ويُدخلها ضمن علوم السحر والشعوذة والماورائيات.
ولأبي القاسم العراقي مصنفات عدة، من بينها عيون الحقائق وإيضاح الطرائق (1858) الذي تناول فيه بعض العلوم السحرية والتعاويذ والشعوذات. ويقول في مقدمته: "إنا لما رأينا أكثر الخلائق قد ظهر منهم الحيل، في كثير من الطريق، ولم يظهروا بشيء من الحقائق، غير الدعوى بغير علم، فاخترنا وضع هذا الكتاب، وهو يشتمل على سائر الحيل من النواميس والمحاريق والدخن والتعافين والمراقد والنارنجات والإخفاء والدك والحيلة وخواص المعدن والنبات والحيوان، وكيفية تركيب الإنسان، وما يختص به في كل وقت وأوان"، وكذلك نقع في التراث العربي على كتاب مهم متخصص في الحيل الحربية بعنوان "الحيل في الحروب وفتح المدائن وحفظ الدروب" لمحمد بن منكلي الناصري، الذي كان نقيباً في الجيش المملوكي في عهد السلطان الأشرف، واشتهر بأنه كان على معرفة وبصيرة تامة بفنون الحرب وحيلها، علماً وعملاً، ولا شك أنه في حيله، ولا سيما المعتمدة على الكيمياء، قد اطلع على أعمال الساحر العراقي.
"طاقية الإخفا" من جلد الضفادع
يذكر أبو القاسم العراقي في كتابه عيون الحقائق وإيضاح الطرائق (1858)، حيلة يتمكن بها المرء من الاختفاء عن عيون الناس، ويورد شرحاً تفصيلياً لتلك الحيلة في باب "الإخفاء". وتفاصيل الوصفة كالتالي: "خذ ضفدعاً بريّاً واجعله على كفك في الشمس من غدوة، فإن رأيت له ظلاً فارمه، وما لم يكن له ظل فخذه، واسلخه وادبغ جلده بملح وقرض وأنت طاهر وصائم، وتعمله في طاقية (قبعة)، بخمس نزوك، وتخيطه بخيط قطن وإبرة نحاس، والقمر متصل بالمشترى في برج ثابت، واكتب بماء عصارتها هذه الأشكال:
وهذه الآيات: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً)، إلى قوله (يبصرون)، ثم تلبسها وأنت طاهر وتخرج وأنت تقرأ (العاديات ضبحاً) إلى قوله (نقعاً)".
وذكر أبو القاسم في هذا الباب أن الحلاج قد استخدم هذه الطريقة ليختفي ويهرب، وأرجح الظن هنا أنه يقصد هروب الحلاج من جنود الوزير ابن الفرات الذي ساند الخليفة المقتدر بالله الذي فقد الملك ثم استعاده، وقرر بعد استعادته التنكيل بكل من سلبه ملكه، وعلى رأسهم الحلاج الذي ساهمت انتقاداته للحاكم في تلك الفترة في أن ينازعه أمراء عباسيون آخرون على الحكم، فانطلق جنود ابن الفرات يبحثون عن الحلاج، الذي استخدم – بحسب البغدادي – الحيلة السحرية أعلاه ليختفي من الجنود الذين يطاردونه.
البيضة والحجر... شفرات ألاعيب الحواة
وفي هاتين الكلمتين "البيضة والحجر" إحالة، لا سيما في الثقافة المصرية، إلى الدجالين والمشعوذين والحواة، خصوصاً وقد كان حواة الشوارع الذي يسرحون في الموالد يقومون بألاعيب وحيل باستخدم البيضة والحجر، وربما لذلك اقتبس منه المخرج علي عبد الخالق والسيناريست محمود أبو زيد عنوان فيلمهما الذي قام ببطولته أحمد زكي في 1990 وظهر فيه بشخصية دجال محترف.
ويقول أبو القاسم البغدادي في كتابه عيون الحقائق وإيضاح الطرائق في باب "اللعب بالبيض": "إذا أردت ذلك، أن البيضة تدخل في القارورة، تأخذ بيضة بنت يومها وساعتها، تضعها في خل خمر قد حل فيه نشادر، واتركها فإنها تلين، فمطها واتركها في القنينة، واسكب عليها الماء فإنها تعود كما كانت عليه أولاً".
حيل حربية: جنود من دخان
وهذه واحدة من أعجب الحيل التي يوردها أبو القاسم العراقي، في "باب الدخن" وتحت عنوان "صفة دخنة أفلاطونية"، فيقول: "إذا أنت دخنت بها، على رأس جبل عالٍ، تبين لمن هو عنها بعيد، أن خيولاً عظيمة وفرساناً وجيوشاً وعساكر كثيرة قد أحاطت بهم، بحيث أن العدو يفزع من ذلك، إذا أردت ذلك، خذ (عاصيتيا) عشرة دراهم، ومثلهم شحم كلب الماء، وخذ من (القنا) و(الصندروس) و(الزفت) و(الزيبق) من كل شيء بعشرة دراهم، ومن الجير كذلك، ووزن مثقال من صمغ (داري)، يدق كل واحد منهم على حدة، ويعجن برطل من زيت البزر، ويُجعل (بنادق)، كل واحدة وزن ثلاثين، ويُبخر بها على عظم الماعز، فإنه يكون منه ما ذكرت، وهذا مما يعانيه التتر وحكماء الفرس إلى يومنا هذا، فاعلم ذلك فإنه من الخواص".
حيلة يتمكن بها المرء من الاختفاء عن عيون الناس، "طاقية الإخفا" من جلد الضفادع التي لا ظل لها... ملف السحر
وفي الكتاب الآخر الحيل في الحروب وفتح المدائن وحفظ الدروب (2000) لابن المنكلي، حيلة حربية لا تقل إثارة عما وصفه أبو القاسم: "اتخِذ -على بركة الله وعونه- تمثالاً من نحاس كهيئة الراجل، مجوفة مقطوعة من أوساطها، ولها فخاخ ومشاقيص (سهام عريضة النصل) ثم مر من يحشوها بالمشاقة المبلولة بالماء المدبر والنفط الأزرق، وتشعل النار فيها، وتسد أثقابها بالنورة والجبسين. ثم تنصب هذه التماثيل أمام الفرسان وتعممها بعمائم سود وتلبسها لباس الحرب، وتنصب أمام كل تمثال منها رمحاً وتجعل المشاقيص فيه. ولتكن الرماح مما يلي العدو، والتماثيل خلف الرماح، والفرسان خلف التماثيل، والرجّالة خلف الفرسان مما يلي عسكرك. وتجعل بين كل عشرة من هذه التماثيل فرجة -بقدر ما يجول الفارس- فيدخل ويخرج ولا يمس التماثيل. ثم مُر فرسانك بمناوشة العدو، فإذا فعلوا ذلك رجعوا رويداً رويداً حتى يطمع العدو في التماثيل، فيحملوا عليها حملة واحدة، فإذا مسوها أفلتت المشاقيص وانفتحت التماثيل عن نار مهلكة مثيرة، فلا يلبث من دنا منها أن يحترق، ويقترب الباقون ويعلمو أنها مكيدة فتنحط قلوبهم ويدهشون".
خداع بصري
ويبدو مفعول هذه الوصفة مقارباً لمفعول بعض العقاقير والمخدرات المهلوسة، من حيث رؤية أشياء لا وجود لها، لكن الغريب فيها هو تحديد صفة الخيالات التي سيتعرض لها مستخدم تلك الوصفة: "صفة دخنة أخرى، إذا أنت دخنت بها رأيت في السماء نجوماً وطيوراً عظيمة. خذ حشيشة يقال لها بكلام أهل مصر اليوحستينا، وأما أهل الشام يسمونها القطرب، خذ منها ما شئت، دقها ناعماً واعجنها بمخ إبل و(مرادة) ثور واجعلهم كالحمص وجففهم في الظل، وبخر به على نار زبل (بني الشتا) فإنك ترى عجباً من كثرة الطيور واختلاف ألوانها".
حرائق مزيّفة
ويواصل الكيميائي العربي القديم سرد الحيل المختارة التي جمعها في كتابه، والتي تراوح بين الطلاسم والتعاويذ السحرية، وبين ألاعيب الكيمياء، ويذكر في "باب المحاريق" حيلة لإبهار الناس، وهي كالآتي: "إذا رأيته توهمته ناراً تتقد، وإذا أشرقت عليه الشمس تتأجج ناراً حتى يتوهم من حضر أنه يحترق، فاعلم ذلك واكتمه إنه من الأسرار، وهو أن تأخذة (نورة) ثم تسحقها ناعماً، ثم خذ مثل نصفها صمغ، ومثل ربع الصمغ حبة خضراء فتسحقهما وتخلطهما مع النورة، وخذ كبريت أسود ثم اوزن النورة واسحقها واخلطهما، واعجنهما بدهن الزبد، ثم اطلِ بها الحيطان والخشب، وجففهما ساعة، ثم خذ دهن بلسان خالص وامسح عليها قليلاً فإن النار تشتعل لساعتها".
كما يورد ابن المنكلي في "الحيل في الحروب وفتح المدائن وحفظ الدروب" حيلة أخرى للّعب بالنار: "إذا أردت أن تتوضأ بالنار، فاطل يدك بخلِّ خمر صرف، واتقِ أن يكون فيه ماء أو يصيب يدك الماء- ثم خذ خِرقاً فاجعلها مثل الفتائل، وبلّها بالزيت ثم قدها، وادفعها إلى من يضع الفتيلة في يدك، فإن النار تتقطر منها على يدك ولا تضرّك-إن شاء الله".
عناقٌ مع شجرة
وفي حيلة أخرى، إن صحت فهي أشبه بالمعجزة، يشرح أبو القاسم العراقي حيلة دخانية تجعل الأشجار تنحني نحو مُنفّذ تلك الحيلة، وهي كما يرد في النص: "إذا أنت دخنت بها تحت الأشجار فإنها تنحني إليك حتى تصير فروعها عند أصولها من تلك الناحية التي أنت بها، وهو أن تأخذ دماغ نسر وعظم آدمي ميت، وعظم جبة (سودي أو سوري)، واجمع الثلاثة وادفنهم في الزبل الرطب أربعين يوماً، ثم أخرجه وخذ منه جزءاً، ودقه ناعماً وبخّر به تحت الأشجار فإنها تنحني إليك ويكون ما ذكرنا".
حذاء سحري لصاحب الخطوة
أما في باب "النعل الناموسي" فقد أورد أبو القاسم وصفة لصنع حذاء خارق يمشي في اليوم مسيرة شهر دون تعب، وطريقة تصنيعه كالآتي: "هو مذكور في كتاب سر الأسرار عن الحكيم لادن، قال الحكيم لادن: من أراد ذلك فليأخذ من جلد ثعبان ومن جلدة أوزة بيضاء، ومن جلد رقبة ديك أزرق أفرق، وجلد وجه ضبع، وجلد ورل وجلد غزال وجلد فرس، ويكونوا الكل ذبيحة، يعمل منهم نعلاً، ويكون جلد الفرس تحت الكل، ويكون عطارد مستقيم السير مسعود، والقمر متصل بأحد السعود، واحرص أن يكون الكل ذبيحة ومدبوغين، فإذا أردت أن تمشي إلى مكان بعيد في يوم واحد بلا تعب فالبسه وأنت طاهر البدن صائم، واقصد الموقع الذي أردت، فإنك تصل إليه بسرعة، ويقال إنك من الصالحين وأصحاب الخطوة، وإن الأرض تطوى لك بلا خلاف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه