جزائريون، وعرب، وأجانب؛ كلهم حين يدخلون مدينة بسكرة (في الجهة الشمالية الشرقية من البلاد، وتبعد عن العاصمة بحوالي 400 كلم) أو مدينة المسيلة (شرق البلاد)، من غير أن تكون أفكارهم مشحونة بحكايات تدفعهم إلى أن يكشفوا الشخشوخة التي تحتكر هاتين المدينتين العريقتين بتاريخهما الضارب في أعماق عصور قديمة، رغم وجود مدن أخرى تعرف بها مثل مدينة عنابة (أقصى الشمال الشرقي من الجزائر، قرب الحدود مع تونس، وتبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 600 كلم) والمعروفة بطبق شخشوخة "الموس".
فمثلما تشتهر مدينة وهران، ثاني أكبر مدن الجزائر والملقبة بـ"الباهية"، بأكلة "الكارنتيتا"، وتعرف تلمسان بأكلة "الحريرة"، ومدينة بوسعادة (بلد السعادة ومدينة العظماء) ترتبط بطبق "الزفيطي"، فالمسيلة وبسكرة لهما حكاية خاصة مع طبق "الشخشوخة" التقليدي؛ في كل زاوية من زوايا الجزائر قصص طويلة وكثيرة عن أكلات وأطباق وحتى حلويات تقليدية، لا ترمز لأصالة المطبخ وحسب، بل لموروثات تقليدية ضاربة في جذور التاريخ.
يصنّف طبق الشخشوخة التقليدي في خانة الأطباق التي يُسهل كثيراً إعدادها، فهو عبارة عن عجينة أو رقائق من العجين يتم تحضيرها من القمح اللين والماء والملح والزيت
يصنّف طبق الشخشوخة التقليدي في خانة الأطباق التي يُسهل كثيراً إعدادها، فهو عبارة عن عجينة أو رقائق من العجين يتم تحضيرها من القمح اللين والماء والملح والزيت، ثم تعجن جيداً، وتشكل على شكل كريات صغيرة لتفتح بعدها براحة اليدين، ثم تطهى على نار قليلة فوق "طاجين" خاص وهو عبارة عن قطعة معدنية دائرية، ويرفق هذا الطبق بمرق أحمر يطهى باللحم أو الدجاج والخضار.
طبق الأغنياء والفقراء
تقول لنا الخالة خيرة وهي في العقد السادس من عمرها، وأصلها من مدينة سور الغزلان، وهي من المدن الجزائرية ذات التاريخ العريق، إن هذا الطبق كان طعام الفقراء فقط، لكنه تطور في الوقت الحالي بشكل واضح وأصبح حاضراً بقوة على موائد الأغنياء وكبار المسؤولين في الدولة الجزائرية.
ويعتبر هذا الطبق من بين "الرشاوى الانتخابية" التي استخدمت في الانتخابات التي نظمت في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، واستخدمت حتى في الانتخابات النيابية والبلدية الماضية، وخلال ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة، تعهد مدير حملته الدعائية رئيس الوزراء السابق عبد المالك سلال بتوزيع هذا الطبق على الجزائريين في حال فوزه.
هذه التفاصيل أكدها الكاتب والروائي الجزائري عيسى شريط في روايته "الجيفة"، وقال إن هذه الأكلة التقليدية كانت وليدة صراع "طبقي بين فقراء الجزائر وأغنيائها"، وبطل هذا النزاع كان طبق "الشخشوخة" و"المصور" أو كما يفضل البعض تسميته بـ"المشوي".
فقبل عقود كثيرة من الزمن، كان أباطرة المال في الجزائر يتفاخرون بـ"شوي" اللحم أو الخروف بأكمله خارج المنزل أمام أعين الجميع ومنهم الناس الفقراء، وكان هذا الطبق "الثري" يرفق بخبز مصنوع بطريقة مختلفة عن الخبز العادي، ومن أبرز مميزاته كثافة دسمه وسمكاته الخفيفة.
وفي قراءة عميقة أجراها الناقد الصحافي الجزائري شبوب أبو طالب على هذه الرواية، يقول: "هل يتجسد صراع الطبقات في كتب الزعيم السياسي والمفكر الشيوعي الروسي، مؤسس الدولة السوفياتية، فلاديمير لينين وحتى ماركس فقط، وهل لا بد من إراقة الدم كي يحدث هذا الصراع؟".
وهنا يضيف شبوب أبو طالب قائلاً: "في الجزائر هناك صراع طبقي آخر، لكن ساحة القتال هي المائدة، وأبطال هذا النزاع هما (المصور) و(الشخشوخة)".
ويعتبر الناقد الجزائري هذا الطبق بأنه "إرث جزائري خالص، يترجم وجهاً آخر من أوجه صراع الطبقات في البلاد، ولو على حافة المطبخ". ويتابع قائلاً: "وتترجم حاجة الطبقات الدنيا إلى واجهة (مطبخية) ترفع الرأس في الصراع مع الطبقات الأعلى".
"لا يمكن أن يتذوق آكلوها طعمها الحقيقي إلا إذا كان معدها أو معدتها من مدينة بسكرة"
ويذكر أن العربي القديم يكرم ضيفه بـأن يذبح له، والجزائري الفقير يكرم ضيفه بأن "يشخشخ" (يفتت) له؛ "هكذا طور الفقير أداة أخرى للصراع الطبقي، لم تكن على هذا القدر من الأهمية سابقاً".
الطعم والهوية
تروي الخالة خيرة بحنين عن هذا الطبق الذي توارثته الأجيال قائلة: "لا يمكن أن يتذوق آكلوها طعمها الحقيقي إلا إذا كان معدها أو معدتها من مدينة بسكرة كونها منسوبة إلى هذه المنطقة بالتحديد، لكنها تطورت بمرور الزمن وأصبح لها العديد من الأصناف والأشكال والألوان، رغم أنها تتقاسم نفس المكونات: ماء وملح وقمح لين".
وتستدل الخالة خيرة بشخشوخة سيدي عيسى التي تختلف قليلاً عن شخشوخة المسيلة رغم المسافة القليلة التي تفصل بين المحافظتين. الوضع ذاته ينطبق على شخشوخة تسمى بالقنطرة والدوسن، فهي تختلف كثيراً عن الشخشوخة الأصلية في المنطقة.
"حتى وإن التزم كبارة الطهاة بالوصفة الأصلية فلن يحصلوا على نفس النتيجة في الذوق الذي تتفنن فيه أنامل النسوة في مدينة بسكرة". وتعتقد الخالة أن "الشخشوخة ليست مجرد أكلة بسيطة بل هي تعبر عن هوية وأصالة أبناء المنطقة".
ولا يقتصر التعلق بهذا الطبق التقليدي على أبناء المدينة الملقبة بـ"عروس الزيبان" بل يشمل أيضاً أبناء المناطق الشمالية أيضاً، ففي ساحة الشهداء الواقعة في القصبة السفلة بالعاصمة الجزائرية، طرحنا على فئة من الجزائريين من مختلف الأعمار السؤال التالي: "أيُهما تختار/ين طاجين الشواء الجزائري أم طبق الشخشوخة التقليدي؟"، فقسم كبير منهم اختاروا طبق الشخشوخة البسكرية الحارة بقطع الدجاج المحمر.
يقول الشاب محمد (في العقد الثاني من عمره)، إنه لا يستطيع الاستغناء عن طبق الشخشوخة، بالأخص في المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف وعيد الأضحى وعيد الفطر، وخاصة عندما تكون الأجواء باردة وممطرة؛ فمن أهم مميزات هذا الطبق أنه يطهى بالكثير من البهارات الخاصة التي تصنعها النساء في مدينة بسكرة، والفلفل الحار الذي يساعد على تدفئة الجسم في البرد القارص.
والملفت للانتباه أن هذا الطبق تحول في السنوات الأخيرة إلى مصدر رزق للكثير من العائلات، فمحلات بيع المأكولات التقليدية هي في ارتفاع ملحوظ في المدن الوسطى.
يعتبر هذا الطبق من بين "الرشاوى الانتخابية" التي استخدمت في الانتخابات التي نظمت في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة
وحتى وقت قريب لم تكن الأكلات التقليدية مثل "الشخشوخة" و"الكسكسي" و"البركوكس" القادمة من مناطق القبائل، و"الدوبارة" الآتية من بسكرة ووادي سوف، وطبق الزفيطي، و"الحريرة" التي تشتهر بها محافظة تلمسان، موجودة في المطاعم، لكنها اليوم باتت منافساً قوياً لأرقى الأطباق العالمية في مختلف أنحاء البلد، وبرزت المطاعم الشعبية التي تعرف محلياً بـ"الخيمة" بقوة، والتي تختص بتقديم الأكلات الشعبية التقليدية.
وتنتشر هذه المطاعم بكثرة في كل من منطقة برج الكيفان الساحلية وباب الزوار والرغاية (الضاحية الشرقية) وفي كل من الدرارية وأولاد فايت والعاشور والشراقة وبني مسوس وبوزريعة (الضاحية الغربية) للعاصمة الجزائرية، وأهم ما يميز هذه المطاعم شكل الخيم الذي تأخذه من الداخل، وكل ما له علاقة بحياة البدو الرحل، فنلمح جرة الماء الفخارية المصنوعة باليد والكراسي والطاولات المصنوعة من قصب الخيزران.
روى لنا محمد، صاحب خيمة تقليدية صغيرة في مدينة الرغاية (الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية)، تجربته في هذا المجال قائلاً: "كنت أشتغل في مطعم خاص بهذه الأكلات بمسقط رأسي، أولاد جلال (جنوب الجزائر)، وبمرور الوقت قررت أن أنقل هذه التجربة إلى العاصمة الجزائرية بعد تأكدي من تعلق سكان المدن الشمالية بطبق الشخشوخة".
واختتم محمد: "مشروع الخيمة وطبق الشخشوخة البسكرية الذي يعتبر الأكثر طلباً من سكان المدن الشمالية أنقذاني من براثن البطالة وأصبحت مستثمراً صغيراً أفكره في نقله إلى مدن أخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم