شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
المتحف الوطني في دمشق... بوّابات قبور مفتوحة على

المتحف الوطني في دمشق... بوّابات قبور مفتوحة على "حياة أخرى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 27 مايو 202203:02 م

ما أن أدخل من البوابة الخارجية للمتحف الوطني في دمشق، حتى أشعر بأنني أصبحت في زمن آخر، مُتخفِّفاً من زحام السيارات والسرفيس وباصات النقل الداخلي تحت جسر الرئيس، ومنتزعاً ذاتي أيضاً من حُطام البشر السائرين بحلاوة الروح لا أكثر. سينوغرافيا مختلفة في كل شيء، تنتشلني من نفسي، ومن الهلاك الذي يُحاصرني، لأُصبح في فضاء رَحْبٍ مفعمٍ بالأوكسجين والذكريات والجَمال، وكأنني أمام قصيدة من قصائد "ماضي الأيام الآتية" لأنسي الحاج، فالشاعرية والبلاغة هنا تحتاج إلى التقاط كُنْهِها وتثوير معانيها، كي لا يبقى المرء فقط أمام تماثيل مقطوعة الرأس، ونواميس لموتى من عصور قديمة، وبوابات قبور تحرسها أسودٌ مجنحة.

ومن أجل ألا يبقى النسيان حليفي، أمسك الكاميرا وأبدأ بتصوير تيجانٍ حجرية أرفعها على أعمدة خيالي الخصب، وأعيد قراءة الكتابات والأسماء المنحوتة بالصخر لأدرك معنى وجودي هنا في هذه اللحظة بالذات، وكي لا أغصّ بالذكرى، فإني أُرمِّم جراراً منثورةً على حافات أحواض الزهر، وأتخيلني أشرب منها ماءً وخمراً وبقايا حكايات. ولأكفّ عن خلخلة الزمن، أجلس في مقهى المتحف، أرتشف قهوتي مع صوت فيروز وهي تغني "لا تهملني لا تنساني".

حميمية آسرة

هناك حيث مئات المراجع الآثارية والتاريخية، عن كل ما يخطر في البال من آثار سوريا، لكن الكتاب الوحيد الذي يحكي عن مقتنيات المتحف الوطني وتاريخه كان مُعاراً لمديرية الآثار المجاورة

أتفرَّس في شجرة اللبلاب التي تُخيِّم عليّ بأغصانها المتشابكة، مُحاولاً تفكيك لغز هذه الحميمية الآسرة التي تلفحني كلّما جلست قبالة شجرتَي النخيل الباسقتين، أشعر بأن زرقة السماء فوقهما مختلفة، حتى الغربان التي تحط بين الفينة والأخرى على جنبات الحديقة، تتخفَّفُ من قسوتها، وتصبح أكثر هدوءاً وحكمةً، وكي أجمع نثاري علَّني أصير كما لوحات الفسيفساء المنتشرة من حولي، أُنهي سيجارتي العاشرة أو الخامسة عشر، لا أدري، وأتوجه إلى مكتبة المتحف.

هناك حيث مئات المراجع الآثارية والتاريخية، عن كل ما يخطر في البال من آثار سوريا، لكن الكتاب الوحيد الذي يحكي عن مقتنيات المتحف الوطني وتاريخه كان مُعاراً لمديرية الآثار المجاورة ولم يعيدوه منذ شهر تقريباً، ولحسن حظي وجدت نسخةً منه في مكتبة البيع الملاصقة لشباك قطع التذاكر، وهو بعنوان "إضاءات على المتحف الوطني في دمشق". واللافت، بالرغم من الطباعة الفاخرة بورقها المصقول والصور الاحترافية الملونة للمصور "نيكولاس راندال" والنصوص المكثَّفة والمُحكَّمة من قبل أمناء المتحف، أن النسخة منها كانت بخمسة آلاف ليرة سورية (ما يقارب الدولار ونصف)، وبهذا ضربت عصفورين بحجر، إذ عثرت على ما يطفئ شغفي المعرفي وبسعر معقول جداً.

قرأت عن تأسيس المتحف في عام 1936، والتوسعات التي أجريت فيه بتواريخ 1953 و1963 ثم 1974 وآخرها عام 2004، وأنه مقسَّم إلى خمسة أقسام: عصور ما قبل التاريخ (2.5 مليون ق.م وحتى 3100 ق.م)، مروراً بالآثار الشرقية السورية القديمة (3100 ق.م، وحتى 333 ق.م)، إلى الفترة الكلاسيكية المؤلفة من ثلاث فترات الهيلينستية (333 ق.م- 64 ق.م)، والرومانية التي تمتد حتى 395 م، والبيزنطية الممتدة حتى 632 م، وآخر فترة هي الفترة الإسلامية من الأموي إلى العباسي إلى الأيوبي إلى المملوكي إلى العثماني (من 632م وحتى 1923م).

المتحف سينوغرافيا مختلفة في كل شيء، تنتشلني من نفسي، ومن الهلاك الذي يُحاصرني، لأُصبح في فضاء رَحْبٍ مفعمٍ بالأوكسجين والذكريات والجَمال، وكأنني أمام قصيدة من قصائد "ماضي الأيام الآتية" لأنسي الحاج

في المتحف الحديث هناك قسم خاص يضم أعمال رواد الفن السوري. عندما هممت بالدخول إلى تلك الأقسام تفاجأت بأن القسم الوحيد المتاح للزوار هو المتحف الكلاسيكي، كما أن الكتاب لم يتضمن شيئاً عن معروضات الحديقة التي توصف بأنها متحف موازٍ بجدارة، لذا كان لا بد لي من مُرشِدٍ يُغنيني ويجيب عن أسئلتي، فلجأت إلى الدكتورة ريم خوام الأمين، رئيسة المتحف، وعندها بدأت رحلةً ممتعة أشبه بالحكايات التي لا تنتهي، والمليئة بالمعلومات الدقيقة.

أخبرتني خوام بأن "المتحف وحديقته يضمان آثاراً من جميع المحافظات السورية، ومن كل الفترات الزمنية، وبعد إغلاقه لست سنوات بين عامي 2012 و2018، تم افتتاح المتحف الكلاسيكي للزوار، وحالياً يتم العمل على القسم الإسلامي ليكون جاهزاً لاستقبالهم، وقد يطول الزمن قبل افتتاح الأقسام المتبقية، وذلك رهن بأولويات لها علاقة بالميزانية العامة لمديرية الآثار والمتاحف".

الحديقة... متحف موازٍ

المتحف وحديقته يضمان آثاراً من جميع المحافظات السورية، ومن كل الفترات الزمنية، وبعد إغلاقه لست سنوات بين عامي 2012 و2018، تم افتتاح المتحف الكلاسيكي للزوار

بدأنا جولتنا من الحديقة التي قالت عنها خوام، إنها تتضمن نحو 500 قطعة أثرية، أغلبها من الفترة الرومانية، وهناك منحوتات من عصر البرونز في الشرق السوري القديم، وبعض الأعمال من الفترة الإسلامية. وما أن اقتربنا من أحد النواميس، حتى عَلِمْتُ منها أن كل ما له علاقة بالعقائد الجنائزية، والاهتمام الكبير بالحياة ما بعد الموت، كان له خاصية لدى كل الشعوب، فهناك نواميس تعود إلى عصور سحيقة، وصولاً إلى الفترة الإسلامية.

تقول: "الآن لدينا صور من غادرونا، أما في السابق فكان يتم نحت صورهم، حتى الجذع، وأحياناً بشكل كامل، وأخرى وهو مستلقٍ، كما في نواميس تدمر التي تصوّر فيها الأَسِرَّة الجنائزية الشخص بالكامل مع أفراد أسرته". وتضيف: "ضمن الحديقة هناك نماذج مختلفة معظمها يحمل كتابات وأكاليل من الغار وبعض الزخارف الرومانية، وهناك أبواب قبور بازلتية معروفة بسماكتها وأحجامها وفيها عناصر فنية، كالصليب الذي يحيلنا إلى الفترة البيزنطية، وغالباً ما تتضمن مشاهد عن أساطير أو ناتجة عن ميثولوجيا الفترة الرومانية من أرباب وعناصر زخرفية تزيينية وفي بعض الأحيان أسماء المتوفين".

وخلال تجوالنا في الحديقة لاحظت أن أغلب التماثيل المعروضة مقطوعة الرأس، وكأنه لا يكفينا ما حل بنا من تقطيع أوصال البلاد والعباد، وحتى يتجاوز الزوار هذه الغرابة في المنحوتة، فإن بعضهم يقفون خلفها، ويلتقطون صوراً تذكاريةً لرؤوسهم على جسد من البازلت، لتخبرنا الأمين بأن "ذلك يعود أحياناً إلى قدم المنحوتة، وطريقة اكتشافها، لذا لا يمكن التكهن بكيف تم الكسر، كما أن الجزء المتمثل بالرأس سهل التَّحطُّم، وهو أضعف مكان في المنحوتة، لكن في المقابل هناك تماثيل كاملة كتمثال أثينا الموجود في المتحف، وهو مهم جداً لكونه محتفظاً بكامل ألقه منذ ألفي عام، ومعظم تلك التماثيل البازلتية ينتمي إلى المنطقة الجنوبية (شهبا والسويداء وبصرى وجبل العرب)".

نواميس وأسود وفسيفساء

ومن القطع المنتشرة في حديقة المتحف، هناك الأسد المجنَّح الذي تم اكتشافه في منطقة الشيخ سعد في حوران، وهو آرامي، وهناك أسد اللات الذي اكتُشف في تدمر، ويبلغ ارتفاعه أكثر من ثلاثة أمتار، ووزنه نحو ثمانية أطنان، وتقول عنه خوام: "عُثِرَ عليه عام 1975، في القسم الغربي من مدينة تدمر القديمة، وبات رمزاً مُعاصراً بعدما تم جلبه من تدمر عام 2015، بعد أن دمّرته "داعش"، عندما كان على بوابة مدخل متحف تدمر، وهو الآن في حالة مرمَّمة للمرة الثانية والثالثة على أقل تقدير، وتُجسِّد هذه المنحوتة قوة الربة العربية اللات (أثينا)، وإرادتها وانتصاراتها، وهي عبارة عن أسد يحتضن بين يديه غزالةً تحيل إلى أهل تدمر، وبالتدقيق نرى إحدى عينيه مفتوحةً والثانية مغلقةً، وفي تحليل ذلك أن أسد اللات يقول لأهل تدمر أنتم بحمايتي وإن أغمضت عيناً فستبقى الأخرى مفتوحةً لحراستكم، أما على اليد اليسرى فمكتوب باللغة التدمرية القديمة "تُبارك اللات كل من لا يسفك دماً"، أي يُمنَع مِن دخول المعبد مَن تلطخت يداه بالدماء".

أما عن لوحات الفسيفساء الكثيرة في الحديقة، فتشير إلى أن "ذاك الفن كان متداولاً في الفترتين الرومانية والبيزنطية، يكسي البيوت والكنائس والكاتدريائيات، ويمثل مشاهد من الأساطير والميثولوجيا، ومليء بالرسومات الهندسية أو الحيوانية، ونادراً ما يمثّل مشاهد بشريةً، بسبب خصوصيتها ولصعوبة تمثيلها من خلال هذا الفن".

واجهة قصر الحير

عمر المتحف الوطني ستة وثمانون عاماً، إذ تم تأسيسه عام 1936، ولم يكن في هذا المكان، ففي عام 1919 كان مقر التحف الأثرية ضمن المدرسة العادلية قرب الجامع الأموي

ومن المشاهد التي لا تُنسى على بوابة المتحف الداخلية، واجهة قصر الحير الغربي، وهو من آثار الفترة الأموية، ويعود للقرن الثامن الميلادي، أي بداية الفن المعماري الإسلامي، الذي تطوّر وكان تحت تأثير تيارات فنية عدة، منها الفترة الكلاسيكية وتأثيرات من الرومانية وفن بلاد الرافدين، إلى جانب تأثيرات أخرى فارسية وأيضاً مصرية، وأهميتها، كما تلفت خوام أنها تتمثل في العناصر الزخرفية النباتية والهندسية والإنسانية، والزخارف البشرية التي انقطعت بعد الفترة الأموية، مبيّنةً أن الواجهة ليست فيها قطع أثرية أصلية سوى العناصر الزخرفية فقط، وكانت الفكرة إنشاء مدخل جميل على مستوى المتحف الوطني، أما الآن فبات جزءاً لا يتجزأ منه، كما أن تصميم بهو المتحف قائم على بهو قصر الحير نفسه، وهو عبارة عن مدخل ورواق مرفوعين على أعمدة وتيجان.

العناصر الأثرية والزخرفية كالقناطر وأجزاء من التنقيبات في قصر الحير الغربي، معروضة ضمن المتحف، علماً أن عمر المتحف الوطني ستة وثمانون عاماً، إذ تم تأسيسه عام 1936، ولم يكن في هذا المكان، ففي عام 1919 كان مقر التحف الأثرية ضمن المدرسة العادلية قرب الجامع الأموي، ولضخامة المكتشفات الأثرية بين الحربين العالمتين وأهميتها، فإنها باتت بحاجة إلى مبنى أكبر، وفي فترة الانتداب قام الفرنسيون ببناء المتحف الوطني وهو من تصميم المهندس ميشيل إيكوشار، وفي تلك الفترة، أي بداية ثلاثينيات القرن الماضي، تم اكتشاف صرحين أثريين مهمين للغاية هما: "مدفن يراحاي" في تدمر، وتم نقله إلى دمشق وإعادة بنائه بالشكل الأصلي ذاته، والكنيس اليهودي "كنيس دورا أوروبوس" وتم بناؤه بعد التنقيب والرفع.

وليس بعيداً عن المتحف، وبالقرب من مكتبته، هناك القاعة الشامية التي تمت إضافتها ضمن التوسع الذي أجري للمتحف عام 1963، وكُسِيَتْ على نمط القاعات الدمشقية القديمة العائدة إلى القرن التاسع عشر، إذ إن عائلة مردم بك تبرعت بالقاعة للمتحف، لذا فإن بعض أجزائها أصلية، والبقية أعيد بناؤها على نمط القاعات ذاته، سواء الحجر الأبلق، أو رخام الأرضيات والعجمي في الجدران وعلى السقف.

الزّوّار والحرب 

بالقرب من مكتبته، هناك القاعة الشامية التي تمت إضافتها ضمن التوسع الذي أجري للمتحف عام 1963، وكُسِيَتْ على نمط القاعات الدمشقية القديمة

تقول خوام: "افتُتح المتحف للزوار عام 2018، وذلك كان ضرورياً لإعادة الربط مع المجتمع المحلي، بعد قطيعة طويلة. كانت فترةً صعبةً جداً، وكان لدينا خوف كبير على القطع الأثرية المحفوظة ضمن المستودعات، خاصةً بعد أن بات المتحف الوطني مستودعاً لثمانية متاحف من المحافظات السورية، والآن القسم الكلاسيكي هو المفتوح للزوار فقط، ونستطيع عن طريقه التعرف على الأباطرة السوريين، والأرباب المعروفين في تلك الفترة التي تقدَّم لها الأضاحي، وتقدم فكرة عن الحياة الاجتماعية المعيشة من خلال المنحوتات، مثل الربة أثينا وفينوس وفيكتوريا، وهناك إله الطب، ومجموعة من الآلهة المحلية كآلهة القمر والشمس، وإله السماء والرعد بعل".

وبالعودة إلى سجلات الزوار، شهد عام 2010 نشاطاً سياحياً مُذهلاً، إذ زار المتحف في ربع السنة الثالث 124،697 زائراً، وخلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر وحده، زاره 28،651 زائراً، وتراجع عدد الزوار بعد الحرب على سوريا بنسب كبيرة، إذ في عام 2011 بأكمله اقتصر العدد على 62،392 زائراً، وفي عام 2012 بلغ 24،505 زائراً، وفي عام 2013 بلغ 22،359 زائراً. أما مؤخراً، ولا ننسى ما فعلته جائحة كورونا على مدى عامين، فإن عدد زوار المتحف في عام 2021، عاد للارتفاع، إذ وصل إلى 55،658 زائراً، ومنهم أعضاء بعثات دبلوماسية للسفارات التي أُعيد افتتاحها مؤخراً، إلى جانب عودة الرحلات المدرسية والزوار التقليديين، ومُحبي حديقة المتحف ومقهاه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image