شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ماذا علّمني سمير صبري؟

ماذا علّمني سمير صبري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 30 مايو 202211:40 ص

ماذا يُمكن أن أقدم لهذا العالم الذي سأخرج إليه بعد أشهر قليلة؟ تلك الجملة دوّنتها في يومياتي قبل التخرّج من الجامعة بأشهر قليلة. وقتذاك، كانت أحلامي كبيرة وجهلي أكبر. وبالطبع، لم أرد سوى النجاح الذي لم يعنِ لي سوى تحقيق إنجازات مادية. لذلك، أجبتُ دوماً من يسألني: "من هم الناجحون؟" بأنهم أمثال عادل إمام في الفن، ومحمد حسنين في الصحافة، وكل من سار في النهج ذاته. 

لازمتني تلك النظرة في العشرين من عمري، وإن طرأ عليها بعض التغيرات بفعل تغيّر الفهم والنضج. ولكن، أحد أسباب تغيير هذا الرأي هو الفنان المصري الراحل سمير صبري، الذي تعلّمت منه ما أظنه أهم ما وصلت إليه في حياتي حتى الآن.  

قبل الحديث عمّا أقصد، أود أنْ أوضح أولاً أنّ سمير صبري لم يكن يعنِ لي منذ سنوات، سوى كونه فناناً صاحب طلّة مبهجة على الشاشة، ولديه مواهب في الغناء والرقص إلى جانب عمله الإعلامي. لكنه في النهاية، لم يسهم كثيراً في المجال الفنّي. وبالطبع، هو ليس نجماً بـ "المعيار التقليدي" للنجومية.  

ورغم اقتناعي بأنه، من الناحية الفنية، لم يتعدَ ذلك، نظرت له من منظور آخر بعيد عن إسهامه الفني. حدث ذلك حين شاهدت مقطع فيديو يتحدث فيه نور الشريف عن سمير صبري، وكيف أنّ الأخير هو الوحيد الذي ساند الشريف بشكل يفوق الوصف أثناء أزمة فيلم "ناجي العلي". وهو فيلم مصري فلسطيني تمّ إنتاجه عام 1992. ولم يكن الشريف استثناءً، فالمواقف التي حكاها أصدقاء صبري قبل رحيله عن أنه صديق مبادر لإنقاذ أصدقائه ودوماً يُستغاث به في المصائب، هي مواقف يُمكن أنْ تُجمع في كتاب عنوانه: "الإنسان أولاً". 

المواقف التي حكاها أصدقاء صبري قبل رحيله عن أنه صديق مبادر لإنقاذ أصدقائه ودوماً يُستغاث به في المصائب، هي مواقف يُمكن أنْ تُجمع في كتاب عنوانه: "الإنسان أولاً"

تلك الصفة لم تكن حِكراً على أهل الفن والأصدقاء، فجميع من تعامل معه روى قصصاً كهذه، بل إنّ صديقاً صحافياً فوجئ بسمير صبري يتكئ عليه بعد إحدى التعزيات. وحين فرح صديقي بقرب صبري منه، تحدث معه صبري بحميمية شديدة كأنه يعرفه من زمن. بهذه البساطة كان الرجل. ولذلك، لم أتعجب كثيراً من حالة الحزن العارمة التي انتابت الجميع لدى رحيله، ودعوات الترّحم التي انهالت عليه بُعيد إذاعة خبر الوفاة. وهو حزن لا يتعلق بالفن بقدر تعلقه بشعور الناس بعد فقدانهم إنساناً حقيقياً. وهي نفس الحالة التي سيطرت على الناس بعد وفاة سمير غانم، وقبلهما حسين الإمام، وهم سفراء البهجة. 

متابعتي كل ذلك دفعتني لطرح السؤال المهم: "ما الأولى، أن يكون الإنسان إنساناً أم أنْ يكون ناجحاً؟ ورغم عدم التضاد بينهما، فبإمكانك أن تكون إنساناً وناجحاً، إلا أنّ السؤال هنا: ما الذي يستحق أولاً العمل من أجله؟ علماً أن الإنسانية ليست سهلة، فهذا يعني التغلب قدر الإمكان على الأمراض البشرية، بدءاً من الحقد والحسد والكراهية وإيذاء الآخرين، ولو بكلمة، وصولاً إلى التسامح وعدم إصدار أي حكم ضد المختلفين عنك وتقبلهم جميعاً. وهذا، في ذاته، يتطلب صموداً كبيراً في الحياة. 

"ما الأولى، أن يكون الإنسان إنساناً أم أنْ يكون ناجحاً؟ ورغم عدم التضاد بينهما، فبإمكانك أن تكون إنساناً وناجحاً، إلا أنّ السؤال هنا: ما الذي يستحق أولاً العمل من أجله؟

فتح لي سمير صبري باباً لتلك الرؤيا التي غابت عني. لذلك، لم أتردد في الإجابة بأنّ الأهم من النجاح هو أن أصبح إنساناً أولاً. ثم بعد ذلك تأتي الأشياء الأخرى. وهذا سيتطلب مني محاربة ذاتي والتغلب على أمراضي وحماية نفسي من معارك الاستنزاف اليومية. بل أدركت من سيرة الرجل التي تعمقّت في قراءتها ومن خلال معرفة طريقته في الحياة، أنّ أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان إلى هذا العالم هو أن يكون إنساناً حقاً. فلا فائدة من أن تكون صاحب أكبر إنجاز وأنت إنسان مؤذٍ، أو أن تُصبح أشهر كاتب، ولكنك تحقد على غيرك. 

هكذا علمني سمير صبري. 

وأدركت، من خلاله، أنّ تلك الحسبة ليست خاسرة على الإطلاق. والدليل هو جنازته التي شارك فيها الملايين بحبٍّ، تأكيداً على أنّ العالم ليس بحاجة إلى نجاحات كلّ يوم بقدر حاجته إلى إنسان في عالم اختفت فيه الإنسانية.  

أدركت من سيرة الرجل التي تعمقّت في قراءتها ومن خلال معرفة طريقته في الحياة، أنّ أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان إلى هذا العالم هو أن يكون إنساناً حقاً. فلا فائدة من أن تكون صاحب أكبر إنجاز وأنت إنسان مؤذٍ، أو أن تُصبح أشهر كاتب، ولكنك تحقد على غيرك

ما وصلت إليه لم يقتصر عليّ، وهو ما يمنح الأمل. فالمتتبع لتفاعل الناس مع الراحلين من المشاهير، وبخاصة سمير غانم وسمير صبري، يستطيع أن يُدرك تغييرين مهمين حدثا. أولهما أنّ الناس لم تعد تقلل من شأن المبُهجين ومن قضوا حياتهم يرسمون الضحكة على وجوه الناس. إذ اعتاد كثيرون وضعهم في مرتبة أقل من الذين يقدّمون أعمالاً تراجيدية.  

والتغير الثاني هو أنّ الجنازات الشعبية لم تعد مقتصرة فقط على من استطاعوا ترك أشياء ملموسة في مجالهم. فالحسبة تغيرت وبات الكثيرون لا يكترثون إلا لشخصية الراحل ومدى إنسانيته. بعد ذلك، تأتي بقية الأشياء. وهو ما حدث مع سمير صبري، الذي ترك لي ولكم هذا الدرس: كونوا بشراً، لا تؤذوا، وعيشوا حياتكم ببساطة، بعيداً عن إيذاء غيركم. ثم بعد ذلك، افعلوا ما تريدون. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image