شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
موسم التقطير في قسنطينة...  فصل للروائح الطيبّة والمُبهجة

موسم التقطير في قسنطينة... فصل للروائح الطيبّة والمُبهجة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 مايو 202203:40 م

 في دار ثقافة محمد العيد آل خليفة بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، حيث يقام بشكل دوري معرض للصناعات والحرف التقليدية، التقيت السيدة أيّن حليمة إلى جوار طاولة صغيرة عارضة عليها قارورات شفافة مختلفة الأحجام، تنبعث منها روائح ماء الورد والزهر.

تسرد حليمة لرصيف22 تاريخاً عائلياً وجغرافياً لتقطير الزهر (زهر البرتقال / اللارنج) والورد، يبدأ مع اللحظات الأولى لحلول فصل الربيع إذ يعلن أصحاب جنائن الزهر والورود عن توفرها وجاهزيتها لعملية التقطير. ونظراً للتعاملات الكثيرة عبر سنوات طويلة، يتواصلون معها لحجز الكمية التي تريد، علماً أن سعرها يختلف من سنة إلى أخرى، وكذا كميتها المتحكمة فيها أمطار الشتاء السابق.

  عملية التقطير تتطلب وقتاً و"طول نفس"، فتراكم الماء المقطر يكون قطرةً قطرةً، ويستغرق يوماً كاملاً لاستخلاص لترين أو ثلاثة، بالإضافة إلى مراقبة درجة حرارة ماء التبريد وتغييره باستمرار، وهو أمر شاق

افتتاح رسمي لموسم التقطير، وعادات خاصة مرافقة 

تفتتح مدينة قسنطينة كل ربيع موسم التقطير رسمياً من قبل وزارة الثقافة. تنتشر معارض في الهواء الطلق لبيع الماء المقطر المستخلص من نباتات النعناع، واللافندر، والعطرشة، فضلاً عن الزهر والورد، خاصة وسط المدينة على طول الرصيف المحاذي للحديقة العمومية، بالإضافة إلى بيع المشاتل والورد الصالح للتقطير، وأيضا آنية "القطار".

لا يغيب عن أجواء التقطير البخور والعنبر وإشعال الشموع. يوضع السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير كفأل خير

حسب ما صرحت به السيدة حليمة، فعادة التقطير المتأصلة في عائلات قسنطينية، تعود إلى العثمانيين الذين حكموا المدينة فترة طويلة قبل الاحتلال الفرنسي، لتتوارثه العائلات بعده، بدءاً من الأداة الأساسية للتقطير وهي "القطّار"، عبارة عن قدر من النحاس الثقيل، مكونة من جزءين منفصلين يوضع أحدهما فوق الآخر. الجزء السفلي "البرمة" أي القدر التي توضع مباشرةً قاعدتها على النار، ممتلئة بالورد أو الزهر بالإضافة إلى حبة من اللارنج، مع كمية من الماء تتماشى حسب الوصفة المتناقلة. أما الجزء العلوي فهو إناء أكبر حجماً يتم ملؤه بالماء البارد ويخرج منه أنبوب صغير كمسار لماء الورد المقطر ينتهي إلى فوهة القارورة الزجاجية التي تُغطى بقطعة قماش، إيماناً بأنها تحميها من عين حاسدة. يحتوي أيضاً على حنفية أخرى تسمح بتفريغ الماء وتغييره متى ارتفعت درجة حرارته. فتبريد سطح الجزء العلوي الموضوع على القدر هو العامل الأساسي في تجمع بخار الماء الساخن المختلط بمستخلص الورد أو الزهر، وتجمعه على شكل قطرات من الماء تصب في القارورة الزجاجية بعد أن تسلك مسارها نحوه. هي عملية علمية بامتياز لكن العائلات توارثتها كتقليد وحرفة. كذلك يجري غلق كل فتحة تسمح بمرور الهواء أو الحرارة بين الجزءين بواسطة قطع قماش.

 

عُدَّ "القطار" إناء ذا مكانة خاصة في بيت المرأة القسنطينية قديماً، هذا ما قالته حليمة، مضيفةً أنها كان يقدم كهدية إلى جانب المهر، وأحياناً كان يعتبر مهراً بذاته، ولا تختلف مكانته عن الذهب. توارثت السيدة حليمة هذه الحرفة عن جدتها وأمها، ولا تفوت موسماً ربيعياً دون أن تملأ روائح ماء الزهر والورد بيتها، انطلاقاً من عملية وضع الزهور على قماشة في فناء المنزل لتجف تاركةً عطراً يستمر بضعة أيام، ثم البدء في عملية التقطير التي لا تقل فرحة أجوائها عن الأعياد والمناسبات الخاصة.

تسرد خديجة (34 عاماً) الأجواء المرافقة لعملية التقطير في بيت العائلة، لتحضير ما تحتاجه للاستعمال الشخصي. فلا يغيب عن أجواء التقطير البخور والعنبر وإشعال الشموع. يوضع السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير كفأل خير، بالإضافة إلى تحضير حلوى تقليدية "الطمينة البيضاء" التي اقترن اسمها بهذه العملية ليتم تداولها بطمينة القطار أو طمينة الفرخ نسبةً إلى نوعية سميد الميتعما (سميد أبيض محمص مع زبدة حيوانية وعسل النحل)، تُقدّم إلى جانب القهوة لأهل البيت كرمز للفرح والخير. بعد تجمع كمية من ماء الزهر المقطر يتم تعطير أركان البيت بواسطة المرش النحاسي الذي يٰوضع عادةً في صينية القهوة، وبالطبع يجري تعطير أيادي أهل البيت أيضاً. كما يستعمل الماء الساخن الذي يتم تغييره في غسل أفرشة البيت والاستحمام، وهذا جو أقرب إلى العيد كما تصفه خديجة. 

أسعار مرتفعة لم تمنع التقليد المتوارث من الاستمرار

لقد بلغ سعر "الكبّة"، وهي الوحدة التي يتعامل بها باعة الورد والزهر حوالى 18 دولاراً هذا العام، حسب ما صرحت به حليمة، وهو سعر يزيد عاماً بعد عام، مما يؤثر بالضرورة على سعر المنتج النهائي (ماء الورد المقطر)، إذ وصل سعره هذا العام إلى 14 دولاراً للتر. أما سعر ماء الزهر فـ12 دولاراً للتر. مضيفةً أنها اضطرت في السنوات الأخيرة إلى استعمال قارورات بحجم أقل، ربع لتر وأحياناً أقل، حتى يتمكن الزبائن من الشراء. فثمة زبائن دائمون ينتظرون موسم التقطير كل سنة ليزودهم بما يستهلكونه طيلة السنة، خاصةً أن أبناء المدينة ممن تعودوا استعمال ماء الورد أو الزهر المقطرين لا يمكنهم تعويضه بماء الورد والزهر الصناعي الذي تنتجه المصانع. إذ يتم استعمال ماء الورد في الأطباق التقليدية (شباح السفرة، طمينة اللوز، طاجين الحلو، البقلاوة) وحتى في الجانب الجمالي والاعتناء بالبشرة فيستعمل في الوصفات الطبيعة أو لمسح الوجه، أما ماء الزهر فيستعمل في تعطير القهوة، وإعداد الخبز المصنوع في البيت، كحلوى المقرود وغيرها من الأطباق التي تعدّ في المناسبات الاجتماعية، ويستعمل أيضاً دواء للعينين.

تؤكد حليمة أن عملية التقطير تتطلب وقتاً و"طول نفس"، فتراكم الماء المقطر يكون قطرةً قطرةً، ويستغرق يوماً كاملاً لاستخلاص لترين أو ثلاثة، بالإضافة إلى مراقبة درجة حرارة ماء التبريد وتغييره باستمرار، وهو أمر شاق. الأسعار أيضاً لعبت دوراً في عملية التسويق، واتجهت الكثيرات إلى التقطير بمفردهن، فمراحل العملية معروفة، يكفي أن تقتني القطار والورد أو الزهر، ويمكن لأي امرأة تحضير الكمية التي تحتاج إليها. وأضافت أنها في كل موسم تقرر عدم إعادة هذه العملية المتعبة لكنها في كل مرة تجذبها الروائح، ولا تجد نفسها إلا وهي تنتظر حظها من ماء الزهر والورد المقطرين، "فالعملية كالمرض" معدية لمن حولها أيضاً، وكالمس لا تستطيع التخلي عنها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image