شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"هذه الأمة جازت إبادتها"... ليلة سقوط القاهرة بيد العثمانيين كما رواها ابن إياس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 7 يونيو 202212:55 م

دائماً ما يستحضر البعض التاريخ لتبرير دعاوى مؤدلجة وتمريرها إلى عقول الجماهير... هذا ما تقوم به الآن بعض الجماعات والشخصيات الحالمة بعودة الإمبراطورية العثمانية.

في مصر، كان المؤرخ زين العابدين محمد بن أحمد الحنفي الجركسي، المعروف بـ"ابن إياس" والمُكنَّى بأبي البركات، شاهداً على حقبة من الزمان، تُعدّ، حسب رأيه، أسود الفترات التي مرّت على مصر.

في الجزء الخامس من كتابه الشهير، "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، يسرد ابن إياس أحداث دخول العثمانيين مصر، وكيف تعامل الشعب المصري معهم، في رواية لن تعجب بالطبع أصحاب النوستالجيا التوسعية.

وابن إياس وُلد في القاهرة عام 1448 وتوفي فيها عام 1523، أي بعد ست سنوات من دخول العثمانيين مصر، عقب معركة الريدانية، وبالتالي يُعَدّ الشاهد الأبرز على تلك الفترة.

في مُقدمة كتابه يقول:

"طالع كتابيَّ إن أردت مُخبراً/ عن مُبتدأ خبر الدهور بما جرى

فتراه كالمرآة تنظر فعل ما/ أبدى الزمان عجائباً بين الورى".

الخط العام للأحداث قد يكون معروفاً لدى الجميع، ولذلك لن نتطرق لا إلى معركة مرج دابق ولا الريدانية، ولا الدسائس والمكائد التي حاكها سليم الأول للإيقاع بجند طومان باي، وإنما سنهتم بتلك الليلة المشؤومة التي سقطت فيها القاهرة، وما تلاها من أيام وشهور قاتمة، حسب رأي المؤرخ.

وبطل الحكاية هو ابن إياس الذي أرّخ للأحداث بأسلوب "التاريخ من أسفل"، أي بصبّ جُلّ تركيزه على العامة مُعبّراً عن رؤيتهم للأحداث والوقائع، وكان أقرب إليهم من السلطان وجنوده.

هلع المصريين من ابن عثمان

كانت أخبار سليم الأول وغزواته تجد سبيلها إلى المصريين، وتُعَدّ سنة 922هـ/1516م سنة مفصلية. يقول ابن إياس: "ولم يحج في هذه السنة أحد من الناس قاطبة بسبب فتنة ابن عُثمان"، فقد قطع الطريق على الناس، ونهب أموالهم ويتّم عيالهم، وكانت أفعال جيشه في الشام وأهلها تصل إلى آذان أهل القاهرة: "لما دخل إلى حلب (يقصد سليم الأول) قطع في يوم واحد ثمانمائة رأس من جماعة أهل مصر، من جُملتهم خليفة سيّدي أحمد البدوي وآخرون من الأعيان ممَّن تخلفوا بحلب".


وذكر ابن إياس من جملة الأخبار التي كانت ترد على المصريين أن سليم الأول كان يقول: "ما أرجع حتى أملك مصر وأقتل جميع مَن بها من المماليك الجراكسة"، ويستطرد في نقل ما كان يصله من أخبار أهل الشام: "وأُخبرَ أن ابن عُثمان (يقصد سليم الأول) يحتجب عن عسكره أياماً لا يظهر فيها، ففي هذه المُدة يفتك عسكره في المدينة (حلب) ويتجاهرون بأنواع المعاصي والفسوق، وهم لا يصومون في شهر رمضان ويشربون فيه الخمر والبوزة، ويستعملون فيه الحشيش، ويفعلون الفاحشة بالصبيان المرد (الذين لم تنبت لحيتهم) في شهر الرمضان، وأن ابن عثمان لا يُصلي صلاة الجمعة إلا قليلاً".

أخبار دبّت الرعب

بغض النظر عن مدى مصداقية تلك الأخبار التي كانت تصل إلى المصريين، ما لبث أن دكّ الرعب صدورهم بعد معرفتهم بما حلَّ بالشوام. يصف ابن إياس ردة فعل العامة حيال تلك الأخبار: "فلما أُشيع بين الناس بما في مُطالعة ابن عُثمان من هذه الدعاوى العريضة مما تقدّم ذكره، اضطربت أحوال الديار المصرية وأخذ كل واحد حذره من ابن عُثمان، وقالوا: مثلما طرقتنا قصاده على حين غفلة كذلك يطرقنا على حين غفلة".

وزاد ذلك الرعب وتفشى كالنار في الهشيم في نفوس الناس بعد رسالة سليم الأول لطومان باي سلطان مصر والتي شبّه نفسه فيها بالإسكندر الأكبر، ويذكرها ابن إياس: "أنا خليفة الله في أرضه وأنا أولى منك بخدمة الحرمين الشريفين. وإنْ لم تدخل تحت طاعتنا أدخلُ مصرَ وأقتل جميع من بها من الأتراك (يقصد المماليك الجراكسة) حتى أشق بطون الحوامل وأقتل الجنين في بطنها. وما كُنا مُعذبين حتى نبعث رسولاً".

استفتى سليم شاه شيخ الإسلام خاصته في شرعية غزو مصر، فكان رد الأخير: "إن هذه الأمة، إذا رفضت الإقلاع عن ارتكاب هذا العار، جاز إبادتها"، فتوعد السلطان العثماني المصريين قائلاً: "غداً أدخل مصر فأحرق بيوتها وألعب بالسيف في أهلها"

ولم يكتفِ سليم شاه بتلك الرسالة، بل استفتى شيخ الإسلام خاصته زنبيلي عليّ أفندي في شرعية غزو مصر، والعلة أنّ المصريين لم يعاونوا العثمانيين في قتال الصفويين، وأنّ المصريين يختلطون بالجراكسة غير المؤمنين، وأنهم يسمحون لأهل الكتاب وغيرهم باستخدام عملة مرسوم عليها شهادة "لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله" وحملها، وقد يكونون على نجاسة، فكان رد مفتيه الخاص: "إن هذه الأمة، إذا رفضت الإقلاع عن ارتكاب هذا العار، جازت إبادتها"، فتوعد سليم المصريين قائلاً، حسبما نقل ابن إياس: "غداً أدخل مصر فأحرق بيوتها وألعب بالسيف في أهلها".

ويصف ابن إياس حال المصريين لمَّا وصلتهم تلك الأخبار التي هطلت عليهم كوابل من السماء: "شرع الناس في تحصيل أماكن في أطراف المدينة وجوانبها ليختفوا فيها إذا دخل ابن عُثمان"، أي أنهم بدأوا في البحث عن ملاذ يأوون إليه في حال دخل العثمانيون.

السُلطان سليم يدخل القاهرة

ليلة سقوط القاهرة

"نبكي على مصر وسكانها/ قد خربت أركانُها العامرة

وأصبحت بالذل مقهورة/ من بعد ما كانت القاهرة".

بهذه الأبيات التي سردها ابن إياس، نعى الشيخ بدر الدين الزيتوني مصر ليلة سقوطها في 26 كانون الثاني/ يناير 1517. ويصف المؤرخ المصري مشهد دخول العثمانيين بعد فرار طومان باي وجيشه قائلاً: "ثم إن جماعة من العُثمانية لما هرب السلطان، دخلوا إلى القاهرة وقد ملكوها بالسيف عنوة، فتوجهت جماعة من العُثمانية إلى المقشرة (السجن) وأحرقوا بابها وأخرجوا مَن كان بها من المحابيس، ثم توجهوا إلى بيت خاير بك أحد المقدّمين فنهبوا ما فيه وكذلك بيت يونس الترجمان، وكذلك بيوت جماعة من الأُمراء وأعيان المُباشرين ومساتير الناس، وصار الزُّعر (جمع أزعر) والغلمان ينهبون البيوت في حجة العثمانية، فانطلق في أهل مصر جمرة نار"، والجملة الأخيرة كناية عن الهلع الذي دبَّ في قلوب الناس.

ولم يكتفِ العثمانيون بسرقة البيوت وحرق السجون، بل إن ابن إياس يستطرد في سرد تفننهم في السطو على كل ما يلوح أمام أعينهم فيقول: "ثم دخلت جماعة من العثمانية إلى الطواحين وأخذوا ما فيها من البغال، وأخذوا عدة جمال من جمال السقايين. وصار العثمانيون ينهبون ما يلوح لهم من القماش وغير ذلك، وصاروا يخطفون جماعة من الصبيان المرد والعبيد السود، واستمر النهب عمّالاً في ذلك اليوم إلى بعد المغرب، ثم توجهوا إلى شون القمح التي بمصر وبولاق فنهبوا ما فيها من الغلال".

وفي موضع آخر، يُخبر عن استمرار عمليات النهب: "وصاروا ينهبون بيوت الناس حتى بيوت الأرباع بحجة أنهم يُفتشون على المماليك الجراكسة، فاستمر النهب والهجم عمّالاً في البيوت ثلاثة أيام متوالية، وهم ينهبون القماش والخيول والبغال من بيوت الأُمراء والعسكر فما أبقوا في ذلك ممكن".

كما يصور ابن إياس الوحشية الانتقامية لدى العثمانيين، فمثلاً حين قبضوا على الأتابكي سودون الدوادري وهو في حالة يُرثى لها: "أركبه (ابن عثمان) على حمار وألبسه عمامة زرقاء وجرّسه في وطاقة وقصد يُشهره في القاهرة، فمات وهو على ظهر الحمار، وقيل حزّوا رأسه بعد الموت وعلقوها في الوطاق"! ووصل الأمر بهم إلى تفتيش المقابر ليقتلوا المُختبئين فيها: "وصاروا يكبسون التُرب ويقبضون على المماليك الجراكسة منها، وكل تربة وجد فيها مملوك جركسي حزّوا رأسه ورأس مَن بالتربة من الحجازيين وغيرها، ويعلقون رؤوسهم في الوطاق".

وينتقل المؤرخ المصري بين الأحداث ذاكراً المجازر التي لم تستثنِ أحداً: "ثم إن العثمانية طفشت في العوام والغلمان من الزُّعر وغير ذلك، ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لا جنى، فصارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة إلى الرملة ومن الرملة إلى الصليبة إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة، فكان مَقدار من قُتل في هذه الوقعة فوق العشرة آلاف إنسان في مدة هذه الأربعة أيام". ويأتي على مصير الجثث، مع كل مجزرة، فيقول: "وصارت الجُثث مرمية في الرملة إلى سوق الخيل وقد تناهشت الكلاب أجسادهم".

"ثم إن العثمانية طفشت في العوام والغلمان من الزُّعر وغير ذلك، ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لا جنى، فصارت جثثهم مرمية على الطرقات... فكان مَقدار من قُتل في هذه الوقعة فوق العشرة آلاف إنسان في مدة هذه الأربعة أيام"

كان جند بني عثمان يقذفون الرعب في الناس لِمَا اتسمت به شخصيتهم من عنف وشراسة، فقد وصفهم ابن إياس: "عساكر العُثمانلية كانوا جعانين (جياعاً) وعندهم عفاشة زائدة وقلة دين، كانوا همجاً"، وذلك لما رآه من فنون النهب الذي مارسوه في مصر ومن قبلها في حلب: "انفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر من نهب قماش وخيول وبغال وجوارٍ وعبيد وغير ذلك من كل شيء فاخر، واحتووا على أموال وقماش ما فرحوا بها قط في بلادهم ولا أستاذهم (يقصد سليم شاه)".

ولم يكتفِ العثمانيون بما نهبوه بل صاروا يساومون الناس على حياتهم: "وصار العثمانيون يمسكون أولاد الناس من الطُرقات ويقولون لهم أنتم جراكسة، فيشهدون عندهم الناس أنهم ما هم مماليك جراكسة، فيقولون لهم: اشتروا أنفسكم منا من القتل، فيأخذون منهم بحسبما يختارون من المبلغ، وصار أهل مصر تحت أسرهم".

ظل العثمانيون يعيثون في مصر قتلاً وسفكاً ونهباً، ولم تسلم أضرحة أولياء الله الصالحين ولا الأزهر منهم: "وملكوا باب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، فدخلوا ضريحها وداسوا على قبرها، وأخذوا قناديلها الفضة والشمع الذي كان عندها، وبُسط الزاوية، وقتلوا في مقامها جماعة من المماليك وغير ذلك من الناس الذين كانوا احتموا بها"، ثم صاروا يهاجمون الجوامع ويأخذون منها المماليك الجراكسة، "فهجموا على جامع الأزهر وجامع الحاكم وجامع ابن طولون وغير ذلك من الجوامع والمدارس والمزارات".

ولم تسلم النساء من بطشهم. يحكي ابن إياس عن واقعة اغتصاب امرأة، لم تكن الأولى، على الملأ من الناس: "إنهم (جند العثمانيين) خطفوا امرأة عند سلم المدرسة المؤيدية وقت الظهر، وفسقوا بها جهاراً عند سبيل المؤيدية تحت دكان الذي يبيع الكعك، والناس ينظرون إليهم وهم يفسقون بها ولم يجسر أحد من الناس أن يخلصها منهم".

كان المصريون يعانون من ظلم العثمانيين الجاثم على صدورهم، يخشون على حياتهم، فلا يسيرون في الطرقات ليلاً خشية أن تُخطفَ نساؤهم ويُنكل بهن. فمن القصص العجيبة التي يسردها ابن إياس عن وضع المرأة المصرية وقتذاك، أن مجموعة من العثمانيين طعنوا امرأة في شرفها، كانوا يريدون معاشرتها كفتاة ليل، فحكم عليها الوالي العثماني: "بأن تُعرى المرأة من أثوابها، وأن يُكتفوا أيديها وأرجلها، وأن تُربط من رجليها في ذنب إكديش وتُسحب على وجهها من الكدّاشين إلى باب زويلة، ففعلوا ذلك وشقوا بها من القاهرة وقصدوا شنقها على باب زويلة فقيل إنها ماتت أثناء الطريق، وقيل بل غرّقوها في البحر".

حتى الكلاب لم تسلم من أفاعيل بني عثمان: "إن ملك الأُمراء خاير بك أشهر النداء في القاهرة بأن كل مَن رأى كلباً يقتله ويُعلقه على دكانه، فصارت التراكمة يمسكون الكلاب من الطرقات ويوسّطونها (يقطعونها) نصفين بالسيف، فقتلوا في ذلك اليوم ما لا يُحصى من الكلاب، حتى قيل قتلوا في ذلك اليوم فوق الخمسمائة كلب على ما أُشيع، وصاروا يعلقون الكلاب على الدكاكين ولم يُعلم ما سبب ذلك. ثم أُشيع بأن عادة التراكمة في بلادهم بإسطنبول إذا كثرت عندهم الكلاب في المدينة يقتلون منها في كل سنة جانباً، فصارت عندهم عادة. ثم استمر السيف يعمل في الكلاب يوماً وليلة حتى هجّت الكلاب مما دهاها إلى التُرب والصحاري".

ظل ابن إياس مصدوماً مما رآه أمام عينيه من فجاجة العثمانيين، حتى شبّه ما حل بمصر بما أحدثه نبوخذ نصر في أورشليم وهولاكو في بغداد: "ولم يُقاسِ أهل مصر شدة مثل هذه قط، إلا أن كان في زمن البخت نصّر (نبوخذ نصر) لمّا أتى من بابل وزحف على البلاد بعسكره وأخربها وهدم بيت المقدس ثم دخل على مصر. ثم وقع بعد ذلك في بغداد في فتنة هولاكو ملك التتار لمّا زحف على بغداد وأخربها وأحرق بيوتها".

هناك مَن يشكك في شهادة ابن إياس، نظراً لأنه من أصل مملوكي، ولكنه لم ينل طيلة حياته منصباً رفيعاً داخل القصر أو خارجه، على عكس غيره من المؤرخين، رغم من عاصرهم من سلاطين ابتداءً بقايتباي وابنه الأشرف وجنبلاط وطومان باي الأول وقانصوه الغوري وانتهاءً بطومان باي الثاني، وقد نال السلاطين المماليك منه الذم قبل المدح.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard