شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لم يكن القلق يلعب دوراً مهماً في حياتي قبل انتقالي إلى ألمانيا

لم يكن القلق يلعب دوراً مهماً في حياتي قبل انتقالي إلى ألمانيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 23 مايو 202201:07 م


"الأرواح التي اعتادت القلق، تظن أن الطمأنينة فخ"، كتب الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي هذه العبارة، وكرّرتها معالجتي النفسية بكلماتٍ أخرى. في إحدى جلساتنا، طلبت مني المعالجة - في محاولة منها لتحديد حالتي - أن أغمض عينيّ وأتخيل موقفاً يومياً بسيطاً مثيراً للقلق بالنسبة لي، وأنْ أصف لها شعوري وأحدّثها عن أفكاري. بعد مناقشة مخاوفي وأسبابها واحتمال تحققها، أعادت المحاولة: "تخيلي حالك بنفس الموقف، بس أنت مرتاحة ومستمتعة باللحظة، بدون قلق". لا أعلم هل كانت تتوقع منّي التفاعل مع هذه التجربة. وإن كان ذلك صحيحاً فقد خيبت أمله، إذ كان مجرد الحديث عن بعض المواقف يثير بداخلي قلقاً لا يمكن إيقافه بسهولة بحجج منطقية.  

منذ سنوات، أبحث عن وصف ملائم للقلق، ولأني لم أجد حتى اليوم تعريفاً يوفيه حقه في تخريب حياتي، لن أخاطر بذكر أيّ من التعريفات التي توافدت إلى ذهني أثناء كتابة هذه المدونة. لم يكن القلق يلعب دوراً مهماً في حياتي قبل انتقالي إلى ألمانيا، ولم أكن سأفكر بالحديث عنه إن لم يتجاوز طبيعته كرفيق لجوج متشائم، ليصبح شبحاً يهاجم جسدي في أكثر اللحظات هدوءاً. من المؤكد أنّ تراكم أكوام من القلق بداخلي لم يكن السبب الوحيد في إصابتي بنوبات الهلع، لكنه حتماً أحد الأسباب الرئيسية.  

كأنني سجينة في جسدٍ عاجز، لا بل في جسد مخرّب، أشعر داخله بالغثيان، أتعرّق، أرتجف، تتسارع نبضات قلبي، وأفقد السيطرة على جميع الأفكار. يبدو الواقع من حولي متغيّباً، أو أني أتغيّب للحظات عنه. يجتاحني الخوف من الإصابة بنوبة قلبية، وأشعر بأني على وشك الموت…

النوبة الأولى 

كأنني سجينة في جسدٍ عاجز، لا بل في جسد مخرّب، أشعر داخله بالغثيان، أتعرّق، أرتجف، تتسارع نبضات قلبي، وأفقد السيطرة على جميع الأفكار. يبدو الواقع من حولي متغيّباً، أو أني أتغيّب للحظات عنه. يجتاحني الخوف من الإصابة بنوبة قلبية، وأشعر بأني على وشك الموت… 

ما بعد النوبة 

لم أكن أدرك أنّ ما مررت به يسمى نوبة هلع، وأن خوفي من الموت لم يكن إلا عارضاً معروفاً من أعراض النوبة. تلبسني لأيام خوف مبالغ من تكرار ما حدث. أصبحت أكثر حذراً وانعزالاً. تجنبت الرد على الاتصالات وقراءة الإيميلات، وامتنعت عن الخروج من المنزل. لم تكن ردة فعل معالجتي النفسية قريبة لما توقعت، فقد ظننت أنها ستطلب مني زيارة الطبيب في أقرب فرصة ممكنة، إلا أنها لم تستغرب حديثي عن ضيق التنفس والنوبة القلبية والموت، بل توقعت بعد بضع دقائق تفاصيل ما مررت به أثناء النوبة وبعدها. 

لم أكن أدرك أنّ ما مررت به يسمى نوبة هلع، وأن خوفي من الموت لم يكن إلا عارضاً معروفاً من أعراض النوبة.

الكثير من البكاء والتقليب في صفحات الماضي 

لا أبالغ في القول إنّ جلسات العلاج النفسي كانت محور انتقال في وعيي بذاتي. انفجرت بالبكاء بعد دقائق قليلة من الحديث في الجلسة الأولى، كنت بحاجة للتحرر من السكون الخارجي، أن أشاهد نفسي أنهار خارجياً بعد سنواتٍ من الكتمان والتعالي على الحزن. كنت بحاجة أن أعترف لنفسي بحقها في التأثر بالصدمات المتتالية التي أصابتني في عمر مبكر. كان تفهّم حساسيتي المفرطة أمراً شائكاً بالنسبة لي ولمن حولي منذ الطفولة. فقد كبرت في مجتمع لا يتقن التعامل مع الحزن، ويعتبر البكاء عيباً وضعفاً. وحتى زمن قريب، لم أكن أعلم أن وصفهم لحساسيتي باستخفاف وسخرية أحياناً، جعلني أكثر انطوائية وأقل كلاماً. أقسى ما يمكن أن تعيشه - إلى جانب الاضطرابات النفسية - هو شعورك بالذنب لعجزك عن التناغم مع سرعة جريان الحياة من حولك. هذا الذنب الذي لم يفارقني حتى أثناء نوبات الهلع. بعد جلساتٍ عديدة وتأملات في صفحات الماضي وإعادة برمجة بعض الأفكار داخل رأسي، بدأت أتعافى جزئياً من الصدمات وأغفر لنفسي حاجتها للتراخي والتباطؤ بالإنجاز من وقت لآخر. 

أقسى ما يمكن أن تعيشه - إلى جانب الاضطرابات النفسية - هو شعورك بالذنب لعجزك عن التناغم مع سرعة جريان الحياة من حولك

الرياضة والكتابة والتأمل كعلاج وقائي لنوبات الهلع 

لا يبدو جسدي كأداة يمكن التحكم بها أثناء النوبات. لذا، كل ما أتمكن من القيام به هو محاولة التنفس بهدوء، وتذكّر أن خوفي من الموت والأعراض الأخرى هو مجرد وهم مرتبط بنوبة لن تستمر أكثر من ثلاثين دقيقة. أما عمّا يسبق تلك النوبات وما يليها، فأحاول تفريغ القلق بمراحل تسبق وصوله للتسبب بنوبة هلع.  

بالرغم من محاولاتي العديدة، أشعر بأني لن أستطيع التغلب يوماً على القلق، ولكنني بدأت أخيراً بخلعه عن جسدي بعد أن اعتبرته طوال سنوات جلداً ملتصقاً بي لا يتبدل. ولا أنكر وجوده حتى الآن، حتى أثناء كتابة هذه السطور، بل أحاول تقبله والتعامل معه. لا تساعدني الرياضة على التقليل من التوتر فقط، إنّما تعطيني شعوراً ضئيلاً بالرضى حين يُفقدني القلق القدرة على إنجاز المهام الأخرى. وكذلك تفعل بعض العادات التي أحاول اتباعها باستمرار كالتأمل والكتابة. كثيراً ما يهاجمني فيض من الأفكار السلبية المقلقة في غير أوانها في المنزل أو في محطات القطار أو في جلساتي مع الأصدقاء. ولأنني أصبحت أدرك أنها ليست مجرد أفكار عابرة، أختلي بنفسي للحظات أينما كنت، لأدونها بشكل عشوائي ومن غير أحكام، ودون اكتراثٍ بمدى صحتها، ودون البحث عن حلول جازمة. كل ما أحاول القيام به هو أن أكون واعية بما يدور داخل رأسي، وألا أتجاهل قلقي كما اعتدت أن أفعل سابقاً. 

حين أكتب الآن، أفكر بأولئك المحتجزين خلف أبواب مقيّدة بالخوف والقلق، غير القادرين على الحديث عن معاناتهم. وأود أن أخبرهم أنهم ليسوا وحيدين في معاركهم الداخلية. وأرجو لهم أن يتخطوا وصمة العار المرتبطة بالعلاج النفسي في بلادنا العربية

قبل عامين، لم أكن أتخيل نفسي أتحدث عن تفاصيل حياتي لامرأة لا يجمعني بها إلا موعد قررت الالتحاق به بعد تردد وإنكار طويلين لحاجتي له. لم يسبق لي أن كنت مكشوفة لهذا الحد أمام أحد. وقد كتبت في إحدى منشوراتي على فيسبوك، بعد الجلسة الأولى، وبعدما اجتاحني شعور من الراحة: "لكم عانقت نفسي بنفسي حتى نسيت دفء عناق الآخرين". 

لقد كان أمراً شاقاً وعذباً في آن واحد، أن تبصر عين أخرى معاناتي. حين أكتب الآن، أفكر بأولئك المحتجزين خلف أبواب مقيّدة بالخوف والقلق، غير القادرين على الحديث عن معاناتهم. وأود أن أخبرهم أنهم ليسوا وحيدين في معاركهم الداخلية. وأرجو لهم أن يتخطوا وصمة العار المرتبطة بالعلاج النفسي في بلادنا العربية. فقد نحتاج أحياناً لرؤية حياتنا من زاوية مختلفة، ولرمي ثقل سنواتنا المضطربة على عاتق غريب مختص بحملها، ومساعدتنا على تحليلها وترتيبها، وإعادتها إلينا بطريقة أخف وطأة. وأفكر بنفسي، وفي طريقي اللانهائي من التعافي… 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image