شهد شهر آذار/مارس من العام 1928، حدثين منفصلين من حيث الشكل، مرتبطين من حيث الجوهر، كان الأول في مصر، عند تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" على يد الإمام حسن البنّا، والثاني في لبنان مع صدور كتاب "السفور والحجاب" لفتاة درزية تُدعى نظيرة زين الدين. الصدفة البحتة جعلت الفارق بين الحدثين أياماً معدودة فقط، وطبعاً لا علم للكاتبة اللبنانية بنت العشرين عاماً بجماعة حسن البنّا ومشروعهم السياسي، الذي كان يسعى لإقامة دولة إسلامية. دَرَست زين الدين في مدرسة راهبات مار يوسف في بيروت، وكانت متأثرة بوالدها القاضي سعيد زين الدين، رئيس محكمة الاستئناف، وبالأديب المصري قاسم أمين، مؤلف كتاب "تحرير المرأة" الصادر سنة 1899. هاجم قاسم أمين حجاب المرأة المصرية، وعزلتها ونقص تعليمها وزواجها المبكر، وجاءت نظيرة زين الدين من بعدها لتكمل الكلام عن قضية المرأة.
على خطى قاسم أمين
جاء الكتاب مؤلفاً من 420 صفحة، دافعت فيه زين الدين عن السفور وسمحت لنفسها بتفسير النص القرآني المتعلق بحجاب المرأة، أي سورة النور. قالت إنه وبحسب فهمها، فإن الحجاب غير ملزم في الإسلام، علماً أنها لم تكن سافرة. أضافت أن المرأة العربية لا تقل عقلاً وديناً عن الرجل، وبأن حجابها يجب أن يكون اختيارياً وليس فرضاً. ثم قارنت زين الدين بين المجتمعات المسلمة و"المجتمعات السافرة في أوروبا،" مشيرة إلى أن وفيات الأطفال في تلك البلدان كانت أقل بكثير من بلاد العرب بسبب تحرر النساء وتعلمهن. جاء في كتابها أن "الشرف والعفة في النفس والقلب وليس في قطعة قماشية."، وأخيراً، طالبت بتقليص دور المحاكم الشرعية، وتوسيع صلاحيات المحاكم المدنية، وبالحد من سطوة رجال الدين، مستنجدة بالمندوب السامي الفرنسي هنري بونسو، الذي أرسلت له عشر نسخ من كتابها، وأهدته النسخة الأولى منه.
شهد شهر آذار من العام 1928، حدثين منفصلين من حيث الشكل، مرتبطين من حيث الجوهر، كان الأول في مصر عند تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنّا، والثاني في لبنان مع صدور كتاب "السفور والحجاب" لفتاة درزية تُدعى نظيرة زين الدين
موضوع حجاب المرأة لم يكن جديداً على التداول، وقد طُرح داخل قاعة البرلمان السوري (المعروف يومها باسم المؤتمر السوري العام) منذ عام 1919. أول من طرح الأمر يومها كان سكرتير المجلس محمد عزة دروزة، داعياً لنقاش في كل المواضيع الشائكة ومنها الحجاب، قائلاً إنه "عادة مُبتدعة لا يجوز أن نحملها على التقاليد الدينية".
هاج نواب المجلس عند سماع كلام دروزة، واعترض عليه عدد من النواب الإسلاميين. وتكرر النقاش سنة 1920، عندما ظهرت رئيسة جمعية "النجمة الحمراء"، نازك العابد، سافرة في شوارع دمشق، حاملة بندقية على كتفها للمشاركة في معركة ميسلون مع وزير الحربية يوسف العظمة. وأخيراً كان قد أثير مجدداً قبل كتاب زين الدين بست سنوات، عندما خرجت مظاهرة من السيدات السافرات أمام قلعة دمشق، تتقدمهن سارة مؤيد العظم، حرم الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر، مطالبات بإطلاق سراح الزعيم، رافعات مناديل بيضاء في أيديهن لا على رؤوسهن.
العلاقة مع الشيخ تاج
كان الشيخ تاج الدين الحسني يومها حديث العهد في وزارته الأولى في سورية، وهو سياسي معمم بلفة بيضاء كبيرة، وكان والده الشيخ بدر الدين الحسني لا يزال على قيد الحياة يومئذ، وهو من أشهر علماء الشّام وأكثرهم علماً ونفوذاً. ألف حكومته قبل شهر واحد من صدور كتاب نظيرة زين الدين، ومن أولى تحدياته كان موضوع دخوله إلى سورية أو منعه. مشايخ الشّام طالبوا بمنعه، مستندين على خلفية الشيخ تاج الدينية. ولكن الشيخ تاج خذلهم ووافق على تداول الكتاب في سورية، معتبراً إنه لا يتنافى مع الأخلاق أو مع جوهر الدين الإسلامي.
جاء في كتاب نظيرة زين الدين أن "الشرف والعفة في النفس والقلب وليس في قطعة قماشية" وطالبت بتقليص دور المحاكم الشرعية، وتوسيع صلاحيات المحاكم المدنية، والحد من سطوة رجال الدين
لم يكتف الشيخ تاج بذلك، بل طلب من وزير المعارف محمد كرد علي أن يشتري عشرين نسخة منه ويضع مراجعة عما جاء فيه من طروحات في مجلة "مجمع اللغة العربية". كان كرد علي هو الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية، يتمتع بثقافة متنوعة الأفق، فيها نفحات من العلمانية التي عاشها في مدن أوروبا وقرأها في كتب فلاسفة الغرب، ومتأثراً بالعلوم الدينية التي تربى عليها بدمشق. وضع كرد علي دراسة إيجابية عن كتاب نظيرة زين الدين، نُشرت في مجلّة المجمع نهاية صيف العام 1928. كانت مجلّة المجمع واسعة الانتشار بين مثقفي دمشق وطلاب العلم فيها، وخلال شهرين من صدور مقال محمد كرد علي، نفذت جميع نسخ الكتاب من المكتبات، وقامت زين الدين بطباعة طبعة ثانية.
وفي بيروت، حصلت على دعم مماثل من الوجيه اللبناني محمد جميل بيهم وزوجته السورية نازك العابد. وكان بيهم قد انتخب سنة 1929 رئيساً للمجمع العلمي اللبناني الذي ظهر في بيروت، وكان على غرار مجمع اللغة العربية في سورية ومصر.على الرغم من تربيته الدينية الصارمة وتوليه مناصب رفيعة في القضاء الشرعي قبل التفرغ للعمل السياسي، إلا أنه كان رجلاً متنوراً ومنفتحاً على ثقافات الشعوب وتجاربها، مدافعاً عن الفنون والمسرح، نصيراً للمرأة، ومقرباً من المجتمع المسيحي الدمشقي. جميع وزرائه كانوا محسوبين إمّا على العلمانيين أو المسيحيين، وكان أحد أولاده متزوجاً من سيدة مسيحية من آل توما. عندما أرسلت زين الدين نسخة من كتابها إلى السراي الحكومي بدمشق، استلمه الشيخ تاج بنفسه وردّ برسالة لطيفة، وصفه فيه بالهدية "النفيسة النادرة".
رد المشايخ
جاء رد المشيخة الإسلامية من لبنان وليس من سورية، عبر الشيخ مصطفى الغلاييني، رئيس المجمع الإسلامي في بيروت، والذي وضع رداً مطولاً على كتاب نظيرة زين الدين بعنوان "نظرات في كتاب السفور والحجاب"، قائلاً إنها لم تؤلف "السفور والحجاب" بنفسها بل إنه من تأليف المبشرين المسيحيين المقيمين في لبنان الذين استغلوا صغر سنها وجهلها بأمور الدين لتمرير حملتهم على الدين الإسلامي.
طُرح موضوع حجاب المرأة داخل قاعة البرلمان السوري عام 1919. أول من طرح الأمر يومها كان سكرتير المجلس محمد عزة دروزة، داعياً لنقاش في كل المواضيع الشائكة "ومنها الحجاب"، قائلاً إنه "عادة مُبتدعة لا يجوز أن نحملها على التقاليد الدينية"
لم يتطرق الغلاييني لكل الأمور الشائكة التي وردت في كتاب زين الدين، مثل مسائل الطلاق وتعدد الزوجات وشهادة المرأة أمام المحاكم، بل ركز فقط على دعوتها إلى السفور واختلاط الأطفال في المدارس. وقال إنها أساءت التفسير والتقدير في كتابها، وقد تبنى موقفه معظم رجال الدين الإسلامي في سورية ولبنان. لكنهم لم يكفّروا نظيرة زين الدين ولم يحللوا دمها، وقد عاشت سنوات طويلة حتى وفاتها في منتصف السبعينيات، بعد وضعها لكتاب إشكالي آخر، حمل عنوان "الفتاة والشيوخ".
كيف ألهمت فخري البارودي؟
وقد ألهم كتاب نظيرة زين الدين عدداً من السيدات السوريات على تحدي الحجاب، مثل ليلى بنت رئيس مجلس الشورى بديع مؤيد العظم، والمدرسة ثريا الحافظ، زوجة الصحفي منير الريّس. كما شجع كتاب نظيرة زين الدين السياسي السوري فخري البارودي، عضو الكتلة الوطنية، على وضع كتيب عن موضوع السفور، صدر بعد "السفور والحجاب" بأشهر. حمل كتابه عنوان "فصل الخطاب بين السفور والحجاب"، وكان مختصراً صغيراً بطريقة البارودي اللاذعة والبسيطة. دافع فيه البارودي عن سفور النساء قائلاً:
بالسفور يللي بيقول، بده يقلّد إسطنبول...
لو فكرنا بالعقول، كانت فكرة عال العال
دمّي فار من النسوان، والمشايخ والشبّان...
أمشوا شوية بهالأوطان، مشية جدّ مو بعر جمال.
اليوم المرأة مظلومة، وكل أحوالها معلومة...
من كل الأشياء محرومة، حتى من عطف الرجال.
بدنا سفور بهالأيام، يا قومي حاجتنا خُصام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...