ألف الأديب المصري نجيب محفوظ روايته "الكرنك" في العام 1974، وتدور أغلب أحداثها داخل مقهى شعبي يقع بوسط القاهرة، تلتقي فيه مجموعة من المواطنين المصريين من ضمنهم طلاب جامعيون. تناقش الرواية الفترة ما بين حربين مهمتين خاضتهما مصر، هما حرب النكسة في العام 1967، وحرب التحرير في العام 1973، وما ساد بينهما من فساد سياسي، وغياب للقانون، والاتهامات التي تُلقى جزافاً، وانتشار التعذيب الذي تقوم به السلطات.
يقول أحمد مرسي، أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، لرصيف22 إن البطل الحقيقي في رواية الكرنك هو المقهى الذي يحمل الاسم نفسه، ومالكته هي قرنفلة الراقصة المعتزلة، التي يقدم مقهاها مع المشروبات بيئة مناسبة للقاءات الثقافية، كما أن شباب الرواية زينب وإسماعيل وحلمي هم أبرز أبناء الثورة ومثقفوها، وهم الشاهد على فساد فترة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وتفشي التعذيب في عهده.
الكرنك من روايات محفوظ السياسية القليلة التي يمكن القول إن زاويتها الأساسية هي انتقاد الثورة، والحديث عما سببته لمصريين كثر خصوصاً من جيل الشباب الذين كانوا يعتبرونها نموذجاً إيجابياً، لكنها ظلمتهم
بحسب مرسي، فإن اختيار نجيب محفوظ لإسم "الكرنك" لروايته لم يكن اعتباطياً، فالإسم مستمد من اسم أهم معابد مصر القديمة، وهو معبد الكرنك الذي يقع جنوبي مصر، وهو ما يقصد منه محفوظ، أن المقهى هو مصر بحضارتها وتاريخها العريق.
يرى مرسي أن الرواية تحمل أفكار نجيب محفوظ الحقيقية تجاه ثورة يوليو، وخصوصاً ما يتعلق بأخطائها السياسية، وهو ما ظهر جلياً في نقاشات أبطال الرواية في المقهى.
وكان محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، قد أكد في حوار صحافي أجراه معه الكاتب عبد العال الحمامصي، ونشره في كتابه الذي حمل عنوان "هكذا تكلم نجيب محفوظ"، أنه ينتمي "أساساً لثورة يوليو ومنتم للإصلاح الزراعي والعدالة الاجتماعية وكل منجزات ثورة يوليو البناءة قريبة إلى وجداني”.
وأضاف في الحوار أنه "في الوقت نفسه، بجانب انتمائي لها أتناقض معها في أمرين، سلبيات الذين أفسدوها عند التطبيق من جهة، ومن جهة آخرى عدم استكمالها بالديمقراطية، لذلك أنتقد الثورة من موضع الانتماء لا من موضع الرفض، أنتقد اللصوص، أنتقد الاستبداد".
ويعتبر مرسي أن ما قاله محفوظ في حواره مع الحمامصي، هو باختصار شديد أفضل تعبير عن رواية "الكرنك"، فهي من روايات محفوظ السياسية القليلة التي يمكن القول إن زاويتها الأساسية هي انتقاد الثورة، والحديث عما سببته لمصريين كثر خصوصاً من جيل الشباب الذين كانوا يعتبرونها نموذجاً إيجابياً، لكنها ظلمتهم، بحسب قول مرسي.
وعن بناء الرواية، يقول مرسي إن محفوظ قسّم الكرنك إلى أربعة فصول، جعل اسم كل فصل منها هو اسم بطل من أبطالها، ويؤكد مرسي أن هذا الأسلوب في بناء الروايات قام به محفوظ في أغلب رواياته، ليبين أن كل شخصية من شخصيات رواياته هو بطل حقيقي للرواية وليس مجرد فرد ثانوي، وقد سبق أن اتبع محفوظ هذا الأسلوب في روايات عديدة، منها أولاد حارتنا، وحديث الصباح والمساء، وغيرهما.
الفصل الأول من رواية الكرنك يحمل اسم "قرنفلة"، صاحبة المقهى التي يناهز عمرها الأربعين، أما الفصل الثاني فيحمل اسم "إسماعيل الشيخ"، وهو أحد طلاب الجامعة الذين تم اعتقالهم، والفصل الثالث بعنوان "زينب دياب" الفتاة الجامعية التي اعتقلت وتعرضت للاغتصاب من قبل تابعين للأمن، أما الفصل الرابع والأخير فحمل عنوان "خالد صفوان" رجل الأمن الفاسد الذي كان السبب في عذاب كل أبطال الرواية، وهو المعبر عن فساد عهد عبد الناصر.
مقهى "الكرنك" هو البطل
في كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" الصادر عن دار المسيرة اللبنانية في العام 1980، ينقل الكاتب المصري جمال الغيطاني عن نجيب محفوظ قوله إن "المقهى يلعب دوراً كبيراً فى رواياتي، وقبل ذلك فى حياتنا كلنا، لم يكن هناك نواد، المقهى هو محور الصداقة، البيوت لا تسمح بالزيطة، في البداية اتسع لنا الشارع، حتى تجرأنا على المقهى، عرفت المقهى فى سن مبكرة، منذ أوائل الثانوية بفضل أحد الأصدقاء، المقاهي بالنسبة لي ذكريات لا تنتهي".
ويقول حسين علي أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية في مقال عن رواية الكرنك، إن القارئ الذكي بعد أن ينتهي من قراءة الرواية، يستطيع أن يحكم بأن مقهى الكرنك هو البطل الأول والأخير فى الرواية، "وذلك لأن الأحداث ما حدثت إلا فيه، وما اجتمعت شخصيات الرواية إلا فيه أيضاً، فداخل الكرنك دارت أحداث الرواية، وحتى ما لم يحدث داخلها لم نعرفه نحن إلا من خلالها، وذلك عندما تسترجع شخصيات مثل إسماعيل الشيخ وزينب دياب وخالد صفوان هذه الأحداث، وتحكيها بعد وقوعها عن طريق الذاكرة للراوي".
يؤمن علي أن "المقهى" شخصية رئيسية فى معظم أعمال محفوظ، ويقول إنه "اختاره مكاناً للجلوس، ومعايشة الناس، والتأمل، فانعكس ذلك كله فى أعماله بصورة أو بأخرى، ولم يُعرَف عن نجيب محفوظ أنه دعا أياً من أصدقائه، حتى المقربين، لزيارته فى بيته. ظل بيته كقلعة حصينة لا يعرف أحد ما يجرى بداخلها، جعل المقهى بيتًا ثانياً له، يجالس فيه أصدقاءه وتلاميذه ومريديه".
عن مقهى الكرنك الحقيقي
المقهى الحقيقي الذي استمد منه محفوظ أحداث رواية "الكرنك" هو مقهى ريش العريق في شارع طلعت حرب في وسط القاهرة، هذا ما أكده العديد من الكتاب والصحافيين المصريين وحتى إدارة "ريش" أعلنت ذلك، وكان نجيب محفوظ دائم الجلوس فيه، وبين جدرانه كتب العديد من رواياته.
يقول الصحافي حمدي رزق في إحدى مقالاته التي أعاد الموقع الرسمي لمقهى ريش نشرها إن "نجيب محفوظ الذي عبقت رواياته وقصصه بروائح "المعسل" المنبعث من مقاهي الجمالية والغورية، اضطر الى أن يخون عوالمه المفضلة هذه، ليكتب روايته الكرنك عن "ريش"، ولم يكن مقهى الكرنك سوى مقهى ريش"، ويتابع رزق أن "ما صوره محفوظ في أجواء روايته الشهيرة من صراعات سياسية وحلقات فكرية ومنتديات أدبية عمر بها المقهى في الستينيات".
اختيار نجيب محفوظ اِسم "الكرنك" لروايته لم يكن اعتباطياً، فالاِسم مستمد من اسم أهم معابد مصر القديمة، والقصد منه أن المقهى هو مصر. الكرنك قدمت أفكار محفوظ الحقيقية تجاه ثورة يوليو، وما يتعلق بأخطائها السياسية، وهو ما ظهر جلياً في نقاشات أبطال الرواية
قد لا يعلم الكثيرون أن مقهى الكرنك الذي دارت فيه أحداث رواية نجيب محفوظ هو مكان حقيقي في القاهرة لكن باسم مختلف، أما "إسماعيل الشيخ" فهو شخصية حقيقية: كاتب مصري شهير استمع محفوظ لقصة اعتقاله في السبعينيات
تأسس مقهى ريش في العام 1905، ويحتل موقعاً شديد التميز في وسط العاصمة، بديكور خشبي وواجهات زجاجية، وهذا ما جعله يشبه المقاهي الباريسية فى "الشانزليزيه"، وفي “ريش" جلس إلى جانب نجيب محفوظ، يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهما من أهم الشخصيات المصرية.
"المقهى" شخصية رئيسية فى معظم أعمال محفوظ، اختاره مكاناً للجلوس، ومعايشة الناس، والتأمل، فانعكس ذلك كله فى أعماله، ولم يُعرَف عن نجيب محفوظ أنه دعا أياً من أصدقائه، حتى المقربين، لزيارته فى بيته
أما بطل رواية الكرنك "إسماعيل الشيخ" الحقيقي فهو الكاتب المصري سعيد الكفراوي، الذي اعتقل في العام 1970، وبعد خروجه من السجن كان يجلس بشكل مستمر في مقهى ريش، فقابله نجيب محفوظ فيه وطلب منه أن يحكي له تفاصيل الاعتقال، فسرد عليه الكفراوي حكاية التحقيق باعتباره إخوانياً مرة، وشيوعياً مرة أخرى، كما تم اتهامه بحرق مصنع النسيج في مدينة المحلة الكبرى.
وبعد خروج رواية "الكرنك" للنور، قابل محفوظ الكفراوي في ريش فقال له، "يا كفراوي أنت إسماعيل الشيخ فى رواية الكرنك". وحكي الكفراوي هذا الموقف في مناسبات عديدة.
من أرفف المكتبات إلى السينما
بعد نحو عام من نشر رواية الكرنك تلقفتها السينما المصرية بسرعة شديدة، وصارت الرواية في العام 1975 فيلماً مهماً، من بطولة سعاد حسني التي قامت بدور زينب دياب، ونور الشريف الذي قام بدور إسماعيل الشيخ، في حين قامت شويكار بدور قرنفلة مالكة المقهى، وقام كمال الشناوي بدور خالد صفوان الطاغية الذي مثل رمز “الشر" في مصر في تلك الحقبة.
ينتهي الفيلم الذي أخرجه علي بدرخان بقيام ثورة التصحيح في بداية عهد الرئيس أنور السادات، وصدور قرار بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، والمفارقة أن الضابط خالد صفوان الذي أصدر أوامر التعذيب وانتزاع الاعترافات الملفقة، يدخل هو نفسه المعتقل، في حين تنتصر مصر في حرب العام 1973 على إسرائيل وتسترد سيناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع