أنعش مقال الأستاذ صلاح حسن في رصيف 22 ذاكرتي. مساء الجمعة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2003 هاتفت الأستاذ محفوظ عبد الرحمن: "اكتشفتُ بيت ساكنة!" كان في مهرجان مسرحي بتونس، ولم يصدق أن بيت "ساكنة بك" لا يزال موجوداً. وكان الرجل العاشق للتاريخ قد كتب المسلسل الملحمي "بوابة الحلواني"، وقدمه التلفزيون المصري في عدة أجزاء، ويتناول التاريخ الشعبي الموازي لحفر قناة السويس.
وربما لم ينتبه الكثيرون، قبل المسلسل، إلى ساكنة بك. ولعل البعض اعتبرها شخصية خيالية تمهّد لظهور "ألمظ" التي خلدها ارتباط اسمها بعبده الحامولي. وفي عام 1962 أخرج حلمي رفلة فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" وفيه يبدو الخديو إسماعيل، حاكماً فظّاً، أحمقَ وداعراً. ولعل صناع الفيلم أرادوا تقديم شهادة إخلاص للعهد الجديد.
في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، جسد الخديوَ حسين رياض في دور أحادي مسطح. لكن الخديو، في المسلسل، أتاح لمحمد وفيق القيام بأفضل أدواره. تقمص شخصية حاكم أكسبه محفوظ عبد الرحمن صفات إنسانية مركبة؛ رجل عصري، مثقف، ديمقراطي، يحب مصر ويراها وطناً شاءت الأقدار أن يحكمه.
في المسلسل مشهد دال، يطرق شاب باب ساكنة، يريد الاستماع إليها. تصدّه وتأمره بالانصراف، فلا مكان في القاعة إلا لكبراء احتلوا المقاعد. والشاب يلح، ويطلب البقاء للاستماع ولو واقفاً. تسأله عن اسمه، فتحتفي به، وتقدم إلى الحضور "سي عبده الحامولي". ويقترح أحدهم أن يغني الحامولي وألمظ وساكنة؛ فتثور الأخيرة اعتراضاً على غناء "العوّادة" ألمظ، وتطردها.
مشهد يتماس فيه القديم والجديد. بداية أفول عصر برموزه، وصعود آخر. في الكادر يجتمع قديم يتسلح بالسطوة، والغطرسة تؤكدها اصبع ساكنة المرفوعة سخرية من ألمظ، من دون النظر إليها.
تأملت الزمن الذي لا يرحم، وكيف يقسو على الأفراد أكثر من الدول. هذا المدخل كان يجتازه يوماً أكبر رأس في مصر، الخديو إسماعيل، حين يريد نسيان همومه، والاستراحة من مطالبات دائنيه، وألاعيب إسماعيل المفتش
والجديد خجول، ألمظ منكسة الرأس، صامتة لا تملك رصيداً للتحدي. والزمن رهان الصاعدين. واختفى ذكر ساكنة بك، ضن عليها التاريخ بصفحة، وما أكثر صفحاته عن غيرها ممن لم يحملوا لقب "بك". لقب غريب كان منحة استثنائية غير مسبوقة، ولا يشبهه في القرن العشرين إلا لقب "صاحبة العصمة" عطية الملك فاروق لأم كلثوم. وحظيت ساكنة بك بترقية شعبية إلى رتبة "باشا". من يسعدها العامة بالدلال ينادونها: "باشا يا باشا"، فكانت ساكنة باشا.
كنت على موعد مع ساكنة باشا. اتفقت معي المخرجة أسماء البكري على اللقاء يوم الجمعة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2003، "لإنقاذ بيت أثري في شارع الخليفة". جاءني صوتها جاداً فلم أثقل عليها بالأسئلة.
ذهبت وأنا لا أعرف علاقة أسماء بالبيت، ولا طبيعة "المنقذين". في المواقف المأمونة أترك نفسي للتجربة، والمعاينة لا تضر لو انعدمت الفائدة. وفي الموعد المتفق عليه لم أجد معها منقذين، ولا هي تعرف لمن يكون البيت. قالت: "هنا بيت أثري علينا إنقاذه". في المسافة بين مسجد ابن طولون ومسجد السيدة سكينة بنت الحسين بن الإمام علي تتداخل طرز معمارية، وسبل للحياة، وعشوائيات لا تراعي ما يليق بالمكان من احترام.
في الطريق إلى البيت بشارع الخليفة، مررنا بمطعم شعبي للكبدة، ومحل لبيع الدجاج، وورشة للموبيليا، ومحلات بقالة صغيرة، وواجهات بيوت أثرية تنتظر من ينفض عنها الأتربة ويعيد إليها بهاء أزمنتها. ثم بلغنا بيتاً يشبه غيره، تتجاوزه العين فلا تتوقف عند مشنة جرجير وبقدونس أمام بوابته العتيقة، وفي المدخل قطع أخشاب وضلفة دولاب.
لحق بنا اثنان من التلفزيون الفرنسي، ولم يحضر رجل أعمال سوري وعد أسماء بالتفاوض مع الورثة، تمهيداً لشراء البيت، لإنقاذه. انتظرنا في بهو مفتوح على السماء، به بقايا فسقية حجرية، وأسماء البكري قلقة، تعي القيمة الأثرية المعمارية للبيت، ولا تعرف تاريخه. هنا عاشت أشهر مغنيات القرن التاسع عشر.
قابلنا بعض الورثة. قال أحدهم إنه بيت ساكنة باشا. سألته: ساكنة بيه؟ أوضح أنها حصلت على الباشوية أيضاً. ولم أسأله هل نالت اللقب السامي "باشا" من الوالي، أم من الشعب؟ كنت أريد الانتهاء من المهمة بسرعة للحاق بختام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السابع والعشرين. وتأملت الزمن الذي لا يرحم، وكيف يقسو على الأفراد أكثر من الدول. هذا المدخل كان يجتازه يوماً أكبر رأس في مصر، الخديو إسماعيل، حين يريد نسيان همومه، والاستراحة من مطالبات دائنيه، وألاعيب إسماعيل المفتش. هنا يمكن السلو بالاستماع إلى "شوية أمان، على عين، يا لا للي". الغناء قمة مدببة تتسع لنجمة واحدة. انتهت ساكنة، وبدأت ألمظ.
الوفاة المبكرة لألمظ (1860ـ 1896) أخلت القمة لمنيرة المهدية، فانفردت بقمة الغناء وأضافت إليه التمثيل. وتشبثت بالقمة، ولم تعترف بدولة أم كلثوم رغم تغلبها بفضل موهبة كاسحة، وذكاء فطري، وصحبة مثقفين وشعراء وناصحين بأن يسمو الغناء على مفهوم التطريب.
ومن سوء حظ منيرة أنها عاشت طويلاً، وشاهدت الصعود الكلثومي العابر للأزمنة والحكام. ومن سوء حظ ساكنة أنها ماتت قبل تطور تكنولوجي يسمح بتسجيل الأغاني والألحان، إلى أن أعادها إلى الحياة مسلسل "بوابة الحلواني"، وأدت دورها سهير المرشدي. وكما دالت دولة ساكنة، خوى بيتها. المدخل الذي كان يستقبل فيه الأمراء بالورد صار مخزناً للخردة، وفي إحدى زواياه رصيد من الجرجير.
في بهو البيت تصحرت نافورة، ورقد مكانها هيكل سيارة، قمة من الصفيح لم تبلغها تلال القمامة، وحال الصدأ دون معرفة ماركتها. كيف دخلت السيارة إلى الفناء؟ وفوق باب خشبي بالدور الأرضي بقايا لوحة رخامية يحتضنها فرعان من الشجر، كتب عليها بالخط الفارسي البارز بيتان من الشعر التركي بحروف عربية، ومثبت التاريخ الهجري (1263).
آنذاك ندر الاهتمام بالتاريخ الميلادي، ويوازي 1847. وبجوار رصة الجرير سلم ينتهي بدور علوي ذي جناحين. يضم الأول حجرتين، كبراهما صالة للتدريب على الرقص والغناء، وفي الجناح الثاني غرف لعلها كانت للمعيشة. وتحتفظ الأسقف بزخارف ملونة، بعضها طلي بماء الذهب. وبين الجناحين غرف الخدم في مواجهة البوابة.
تركت الغرف بأرضياتها الرخامية، وصعدت إلى السطح المراوغ. سقف الحمام أكثر مساحاته تماسكا، وفي الجهة الشرقية "شخشيخة" لصيد الهواء وتوزيعه في أنحاء البيت. من السطح رأيت بانوراما القاهرة القديمة، غابة من مآذن وقباب ومهملات لا تضيق بها الأسطح.
قال المهندس محمد علي الدسوقي، أحد الورثة، إن التقييم المبدئي لثمن البيت ثلاثة ملايين جنيه (عام 2003)، وإنه الأقدم في المنطقة، ومساحة 880 متراً، وبني عام 1846، وأهداه الخديو إسماعيل إلى ساكنة، المطربة الأولى، إعجاباً بفنها. ثم آل من مالك إلى آخر، حتى اشتراه جده في بدايات أربعينيات القرن العشرين، وأغلق منذ عشرين عاماً، واستحدثت أبواب على الشارع لحجرات بالدور الأرضي لتأجيرها.
انتهى صخب مهرجان القاهرة السينمائي، وشغلني سؤال: هل نالت ساكنة لقب "باشا" من الوالي، أم من الشعب؟ لم يكن من صلاحيات الوالي منح لقب باشا الذي يخلعه السلطان العثماني على رجال يقدمون إنجازات، بعد ترشيحهم إلى الباب العالي.
كانت "فارسة ميدانها، ذات صوت أنيق فيه قوة ورقة، وقد استهام بغنائها رجال الترك وزوجاتهم. ولهج بتطريبها العامة من المصريين والخاصة، وما برحت لها الصولة والمكانة العليا إلى أن برزت ألمظ، لمع ضوؤها فكسف إشراق شمس ساكنة. ولما شاخت أقلعت عن الغناء، ولزمت بيتها إلى أن ماتت"
وللقب حصانة قانونية سلطانية، جادل بها إسماعيل المفتش، الرجل القوي الملقب بالخديو الصغير، فنجا من المحاكمة، ولكن الخديو دبر مكيدة خديوية أنهت حياة حاكم الظل. أما السيدة الوحيدة التي نالت لقب باشا فهي الوالدة باشا، أم الخديو إسماعيل، لعلاقة شخصية أو عائلية بزوجة السلطان. ولا أظن السيدة الغيور كانت تسمح بأن يتردد لقب باشا ملحوقاً باسم غيرها، خصوصاً لو كانت المغنية المظلومة.
ظلمت ساكنة بالنهاية الغامضة لحياتها، واختفاء تراثها. في كتابه "تراث الغناء العربي بين الموصلي وزرياب... وأم كلثوم وعبد الوهاب" ذكرها كمال النجمي، في سطر مع أخريات. وفي كتابه "الأغاني والموسيقى الشرقية" أورد أحمد أبو الخضر منسي تواريخ الميلاد والوفاة لعدد من معاصريها، وبعضهم أكبر سناً، ولم يحدد تاريخاً لميلادها أو وفاتها.
وقال إنها كانت "فارسة ميدانها، ذات صوت أنيق فيه قوة ورقة، وقد استهام بغنائها رجال الترك وزوجاتهم. ولهج بتطريبها العامة من المصريين والخاصة، وما برحت لها الصولة والمكانة العليا إلى أن برزت ألمظ، لمع ضوؤها فكسف إشراق شمس ساكنة. ولما شاخت أقلعت عن الغناء، ولزمت بيتها إلى أن ماتت".
وقال أيضاً إنها اشتهرت بخفة الروح، وحضور البديهة، والنكتة الساخنة البارعة، فمن ظريف نوادرها أن رجلاً من الوجوه كان له بها صلة وممالحة يدعى شحاته بك العسكري، لقي ساكنة وهي ممتطية ظهر حمارها فقال لها:
ـ جرى ايه يا ست... حمارك بيعرج ليه؟
فقالت له من فورها:
ـ والله يا عم ده شحاته!
وكان أحد كبار التجار من الظرفاء يقال له دبانة مزاحا مشهورا بالنكتة الظريفة، قاعداً ذات مساء على باب داره، فمرت به ساكنة على حمارها وخلفها خادمها، وكان لدبانة بها معرفة ومساجلات تضحك الثكلى، فقالت للخادم: نش الدبانة من على ذل الحمار!
فرد عليها تواً:
ـ خليها ساكنة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...