"إما نحن أو هم. نعيش نحن أو يموتون هم. نهاجر نحن أو يهاجرون هم". تلخّص هذه العبارة على لسان أحد الناجين من إغراق مركب الموت ليل 23 نيسان/ أبريل الماضي، قبالة شواطئ مدينة طرابلس في لبنان، حال المدينة ومن فيها. رجل كان على مشارف الموت غرقاً بعد ارتطام زورق للبحرية اللبنانية بمركب للمهاجرين غير النظاميين، يصرّ على موقفه: "إما نحن أو هم". لا يتضرّع لله ولا يطلب سماحاً أو مغفرةً، فقط إصرار على أنّ الواقع المعيشي لا سبيل للخلاص منه سوى بتجاوز الازدواجية، وبانتصار طرف على الآخر، وبهجرة طرف دون الآخر، أو بموت طرف ليعيش الآخر.
من هم؟
هم، عمّم الرجل المجروح الخارج من تجربة الموت الوشيك والغرق وانقطاع النفس. هم، أي سياسيي لبنان، شمال لبنان، وطرابلس تحديداً المدينة التي يتحدّر منها. وكأننا في مسرحية لفيروز والأخوين رحباني، مع فارق خشبة المسرح وخشبة المركب. أضواء المسرح والكشّاف الضوئي للزورق العسكري، والجمهور الذي ينتظر موقفاً وأغنيةً في القاعة، والناس عموماً الذين يبحثون عن خيط أمل بنجاة مهاجرين وغرقى.
زيارة طرابلس، قبل سنوات، كان الهدف الأول منها متابعة أحداث أمنية أو اشتباكات أو حتى نقل صورة تفجير من هنا أو مداهمات أمنية من هناك
هم، المسؤولون عن هذا الانهيار الحاصل والمستمرّ منذ أكثر من عامين ولم يجدوا حلاً ولم يبحثوا عن واحد أساساً. هم، أصحاب مليارات الدولارات التي تمّ تهريبها إلى الخارج بينما ليرات اللبنانيين عالقة في المصارف. هم، "أصل البلاء، الذي عادوا ليدوروا علينا اليوم للحصول على أصواتنا"، بحسب ما يقول عمر، أحد سكان مدينة طرابلس.
من نحن؟
يحدّد عمر "نحن، الذين يدور (يبحث) علينا السياسيون"، أي الطرابلسيين عموماً. يعيش أكثر من 600 ألف نسمة في عاصمة الشمال، في طرابلس الفيحاء، في بوابة لبنان إلى سوريا، في مدينة تحوّلت إلى ضاحية بكل ما للكلمة من معنى. زيارة طرابلس، قبل سنوات، كان الهدف الأول منها متابعة أحداث أمنية أو اشتباكات أو حتى نقل صورة تفجير من هنا أو مداهمات أمنية من هناك. هي المدينة التي يصفها البعض بأنها "أمّ الفقير"، ولكن فعلياً هي مدينة الفقر والفقراء. هي المدينة الطبيعية، إذ إنّ اللبنانيين لم يُدركوا تعريف المدينة بعد حتى ولو أنّ المليارات رُصدت لإعادة إعمار عاصمتهم بيروت بعد الحرب الأهلية. لكن في طرابلس، هوية مدينة بساحاتها ودواويرها وشوارعها، وأرصفتها ومحالها التجارية ومقاهيها. هي المدينة في لبنان، بانقسامها الاجتماعي والطبي الفعلي، الواضح والصريح.
الهروب بحراً
يوم السبت 23 نيسان/ أبريل الماضي، كانت آخر المحاولات الفاشلة للهروب من الجحيم اللبناني. انتهت بمقتل سبعة أشخاص على الأقل، وفقدان العشرات من دون أن تتمكّن الدولة اللبنانية بعد من إعطاء الرقم الرسمي لعدد الضحايا. تم توقيف شخصين، وتمّ ضبط محاولتين أخريين لتهريب مهاجرين عبر البحر، لكنّ المشكلة لا تزال على حالها وطبعاً ليس بالإمكان إيجاد الحلول لها بهذه السرعة.
رجل كان على مشارف الموت غرقاً بعد ارتطام زورق للبحرية اللبنانية بمركب للمهاجرين غير النظاميين، يصرّ على موقفه: "إما نحن أو هم". لا يتضرّع لله ولا يطلب سماحاً أو مغفرةً، فقط إصرار على أنّ الواقع المعيشي لا سبيل للخلاص منه سوى بتجاوز الازدواجية، وبانتصار طرف على الآخر
أساساً، ليست المشكلة في ضبط حركة القوارب والمرافئ، ولا في العمليات الاستباقية لإحباط تهريب البشر عبر البحر، إنما في واقع أنّ السكان في لبنان عاجزون عن المغادرة حتى بالطرق الشرعية. دولتهم تعجز عن إصدار جوازات سفر لهم، وهذه الجوازات حتى لو حصلوا عليها، تدنّت قيمتها أسوةً بالليرة والأزمة الاقتصادية والسياسات المعتمدة. فبات الهروب عبر البحر المخرج الوحيد لفئات اجتماعية آخذة بالتوسّع فقراً وبؤساً. "نستدين ألفين أو ثلاثة آلاف دولار ونذهب في البحر"، يقول الراغبون في الهرب من الجحيم اللبناني.
بؤس المدينة
مشهد البؤس في المدينة لم يعد مقتصراً على الأحياء الشعبية المعروفة مثل التبانة والسويقة والأسواق القديمة والتلّ وسواها، إذ إنّ الأزمة ضمّت التجّار وأصحاب المحال التجارية أيضاً إلى حزام الفقر. قبل وقوع الانهيار الاقتصادي في لبنان، صنّف برنامج المستوطنات البشرية (الموئل) التابع للأمم المتحدة، طرابلس كأفقر مدن لبنان. كما صنّفها البنك الدولي، عام 2016، أفقر مدن حوض المتوسط.
وأشارت دراسة شاركت فيها "الإسكوا"، إلى أنّ 75% من سكان المدينة يعانون من ظروف صحبة و23% يقبعون تحت خط الفقر، والبطالة تعدّت نسبة الـ50%. كانت هذه الأرقام المروّعة عام 2016، أي قبل الأزمة والانهيار الشامل لليرة اللبنانية ومختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية وحتى المصارف. وارتفعت نسبة السكان تحت خط الفقر عام 2020، إلى 33%، أي الذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً. يومها كان سعر صرف الدولار 4،250 ليرةً للدولار الواحد، بينما اليوم فاق الـ26 ألف ليرة، وما علينا سوى احتساب الأرقام.
الهرب من السياسيين
هروب الطرابلسيين عبر البحر، في مراكب عرضة للغرق والهيام، هو ليس فقط هروباً من الأزمة والفقر والبؤس. بشكل أو بآخر، هو هروب من السياسيين الطرابلسيين. وهؤلاء السياسيون صورة مصغّرة عن السياسيين عموماً في لبنان، لكن وجودهم في أفقر مدينة متوسطية فاقع ومن شأنه أن يشي بالكثير.
من طرابلس تخرج بضعة وجوه سياسية، علّ أبزرها رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، الذي يمتلك وشقيقه طه خمسة مليارات دولارات بحسب تقارير فوربس
من طرابلس تخرج بضعة وجوه سياسية، علّ أبزرها رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، الذي يمتلك وشقيقه طه خمسة مليارات دولارات بحسب تقارير فوربس (زادت ثروته العام الحالي مع شقيقه بحدود 1.5 مليار دولار). وإلى جانبه الوزير السابق محمد الصفدي. بين صفقات شركات الاتصالات، وصفقة اليمامة والعديد غيرها من السمسرات، نجح هؤلاء في جمع الأموال، إلا أنّ مدينتهم ظلّت على فقرها، لا بل إنّ بؤسها تضاعف. طوال عقدين من الزمن، رصدت الجمعيات صفر مشاريع إنمائية وصفر تطوير للبنى التحتية وصفر مشاريع استثمارية. أموال متموّلي طرابلس تبحث عن استثمارات خارج أسوار المدينة.
الخيارات
إن كان نجيب ميقاتي قد أعلن عزوفه عن الترشّح للانتخابات النيابية هذا العام، وكذلك الصفدي المنكفئ لأسباب خاصة، فإنّ الطرابلسيين وجدوا أنفسهم أمام 11 لائحةً للاختيار بينها في الانتخابات التشريعية في 15 أيار/ مايو الحالي.
من بين هذه اللوائح، واحدة تمثّل حلفاء حزب الله عبر النائب فيصل كرامي، وأخرى مدعومة بشكل أو بآخر من ميقاتي وهي فعلياً لائحة أبناء النواب والسياسيين مثل براء أسعد هرموش وكريم أبو العبد كبارة، وسليمان جان عبيد وكاظم صالح الخير، في لائحة التوريث السياسي المفضوح.
ولائحة ثالثة تضمّ القوات اللبنانية واللواء أشرف ريفي مع النائب المستقبلي عثمان علم الدين. رابعة فيها النائب المستقبلي المنشقّ سامي فتحت والنائب السابق لرئيس تيار المستقبل مصطفى علّوش، وهي تجمع لعدد من القيادات السابقين في المستقبل. وعمر حرفوش، الموسيقي أو رجل الأعمال أو عارض الأزياء أو مكافح الفساد أو حليف الأنظمة الاستبدادية الذي نظّم قبل أسبوع مهرجاناً انتخابياً انتهى بفقدان كل الكراسي البلاستيكية على يد الجمهور الحاضر.
لا حماسة
يقول السياسي والكاتب خلدون الشريف، الذي يُعدّ وجهاً من الوجوه الشعبية والمقرّبة من الناس، إنّ "المدينة تظهر وكأنها غير معنية بالانتخابات". يشير إلى أنّ "الناس لا يُظهرون أي حماسة للمشاركة في الانتخابات اقتراعاً"، كما لو أنّ طرابلس مجدداً وحدها. على الرغم من ارتفاع عدد المرشحين وعدد اللوائح عن انتخابات 2018، لكن لا حماسة انتخابية في المدينة. وهو الأمر الذي يؤكده أيضاً عدد من الناشطين في صفوف انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر.
الباحثون عن الخلاص من طرابلس، غرقى في بحر المتوسط مع عبّارات الهجرة غير النظامية. المنتفضون فيها غرقى في اتهامات العمالة لصالح مجموعات تخريبية. الطرابلسيون غرقى في وحول سياسييهم الذين جعلوا منهم ضحايا
"للأسف لم نتمكّن من تأليف لائحة موحدة تعبّر عن الانتفاضة كما حصل في دوائر أخرى. لم يتم تأليف حتى لائحتين أو ثلاثة، إنما أربعة وخمسة وهو ما يعني التشتيت المضاعف للأصوات"، بحسب ما يقول جورج الناشط في دوائر الشمال. وهنا أمر لافت آخر، وهو ترشيح تنظيم مواطنون ومواطنات في دولة برئاسة الوزير السابق شربل نحاس، للائحة غير مكتملة كان بالإمكان أن تجمع معها مرشّحين معارضين آخرين. لكن ذلك طبعاً لم يحصل، "لأنّ نحاس يخوض الانتخابات وحيداً وبشكل منفرد".
هذه طرابلس
يوم 30 كانون الثاني/ يناير الماضي، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لورقة معلّقة على زجاج أحد المقاهي، وتقول: "المشروبات الساخنة مجاناً للسادة عمال النظافة طوال فترة الشتاء". كان هذا الإعلان في عزّ الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تخيّم على المدينة وعلى البلاد عموماً. اليوم انقضى فصل الشتاء، لكن اللافتة لا تزال مرفوعةً، وينتظر البعض أن يعمل صاحب المقهى على استبدالها بأخرى تقول إنّ "المشروبات الباردة مجاناً للسادة عمّال النظافة طوال فترة الصيف". هذه اللافتة الصغيرة، أو هذه اللفتة الصغيرة، هي طرابلس التي يجب التعرّف عليها من قرب على الرغم من كل ما أحيك ويحاك ضد المدينة وأهلها على مدى عقد ونصف عقد من الزمن.
طرابلس، التي اتّخذت اسم "عروس الثورة" خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، غرقت. ناسها غرقى تحت خطّ الفقر وفي البطالة وانعدام الحال. الباحثون عن الخلاص منها، غرقى في بحر المتوسط مع عبّارات الهجرة غير النظامية. المنتفضون فيها غرقى في اتهامات العمالة لصالح مجموعات تخريبية. الطرابلسيون غرقى في وحول سياسييهم الذين جعلوا منهم ضحايا اشتباكات متنقلة في شارع سوريا، ودفعوهم إلى البحث عن الأمل في قعر المتوسط.
سياسيو طرابلس يملكون المليارات، وميقاتي الأبرز بينهم، يقول للسنّة والطرابلسيين من ضمنهم طبعاً، إن عليهم التصويت بكثافة وإن "الانتخابات فرصة للشباب في المجلس النيابي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.