لم أصدق عندما رأيت صديقتي تلف حجاب الرأس على عينيها قبل النوم بعدما انزعجت من شعاع النور الذي يصل إلى الغرفة التي نتشاركها. سألتها عن السبب. أجابت: "لا أستطيع النوم إلا في الظلام التام". دُهشت من وضعها الذي يتعارض تماماً مع إحساسي بالاختناق عندما أغرق في الظلام رغماً عني.
الظلام وحش كبير يفتح فمه ليتلقفنا كلنا في جوفه دون أن نراه. هكذا أشعر دائماً، فهو تمهيد للقبر الذي أخشاه وأهرب منه، وأتحسس بجنون ما حولي عندما أواجهه.
أنا والظلام
أن تكون طفلاً لك مخاوف خاصة بين أفراد لا يقتنعون أو يتفهمون هذه المخاوف فهو أمر صعب. كنت في الخامسة عندما بدأت أشعر بعلاقتي غير المريحة مع الظلام. في قريتنا، ينقطع التيار الكهربائي عادةً. وعندما يحدث ذلك خلال النهار لم أهتم، ولكن الخوف والقلق كانا يأتيان لدى حدوثه ليلاً، حين ينام أشقائي الكبار، بينما أنا أتخبط في الظلام وحدي أناديهم ولا يردون. أمسك كتف شقيقتي الكبرى لأهزها فتتأفف وتبتعد عني لتكمل نومها.
الظلام وحش كبير يفتح فمه ليتلقفنا كلنا في جوفه دون أن نراه. هكذا أشعر دائماً، فهو تمهيد للقبر الذي أخشاه وأهرب منه، وأتحسس بجنون ما حولي عندما أواجهه.
بعد مرات متتالية، بدأت أمي تشعر بي، فتستيقظ لتشعل لي "لمبة" الغاز الراقدة أعلى الدولاب. وقتذاك فقط، كنت أشعر بالحياة ترتد إلي رغم رائحة الغاز التي لا أحبها.
سألتني أمي في الصباح: "لماذا تخافين من الظلام؟ نامي ولن تشعري". واستفزتني شقيقتي بدعائها: "يا رب النور يقطع كل يوم". وأجبتُ: "عندما يحل الظلام أشعر أنني أختنق ولا أستطيع التنفس". حاولت مراراً أن أتخلص من هذه المخاوف، ولكن في كل مرة كان ينقطع فيها التيار، حتى وأنا نائمة، كنت أستيقظ بشكل لا إرادي مختنقة وكأن هناك من يخبرني سراً أنّ الظلام حل.
كانت أمي تحاول باستمرار أن تحل هذه المشكلة. مرة اعترض أبي وقال إن ما أفعله "دلع" إذ ليس هناك سبب لخوفي. وعندما سمع صوت بكائي في الظلام من الخوف، تشاجر معي، ومنع والدتي من إشعال "اللمبة" حتى أعتاد النوم في الظلام.
مخاوف كبرت معي
مرت الطفولة بهذه الطريقة، ومع الوقت، ظهرت طرق أكثر حداثة للتخلص من الظلام. اشترينا كشافاً كهربائياً نشحنه لينير الغرفة في الظلام. ولكن في بعض الأوقات، كانت الأقدار تعاكسني.
في بعض الأوقات، كنت أختبر نفسي وأعاند مخاوفي. أطفئ نور المصابيح وأغرق في الظلام. وفي كل محاولة، لم أستطع أن أقاوم أكثر من نصف دقيقة. كان الهواء ينفد من الغرفة، أختنق، وأرى تلك الأيدي التي تمتد إلي وأهرب منها
في إحدى المرات، كنت في زيارة أقارب مع والدتي مساءً. في بيتهم، انقطع التيار الكهربائي وغرق المنزل في الظلام التام. وقفتُ محاولة الهرب من هذا الشعور الذي تملكني، أدرت وجهي في كل ناحية باحثةً عن بصيص نور ولم أجد. إذ ذاك، شعرت بأيدٍ خفية تمتد إليّ في الظلام وتلتف على رقبتي لتزهق روحي. ابتعدت ومددت يدي حتى أبعد الأيدي عني، ولم أجد شيئاً. عرفت أني أتوهم، وأنّ لا وجود لها، ولكن شعوري بها لم ينته إلا بعد عودة الكهرباء.
الظلام بالنسبة لي هو المجهول. هذا الوقت الذي يمكن أن يحدث فيه كل شيء وأي شيء. في الظلام، يمكن أن يتسلل الموت إلينا دون أن ندركه. وفيه، قد نختنق بهذا الحبل الممتد من الأعلى حتى رقابنا دون أن نراه. وفي الظلام، قد يخرج أناس من تحت الأسرة أو يخترقون الحائط ليدمروا أجسادنا، ولا نقدر على منعهم لأننا ببساطة لا نراهم. في الظلام، تظهر مشاعر الآخرين نحونا دون تجميل، ونتخلى عن الأقنعة، ونرى أقدارنا تمد أيديها إلينا فنهرب منها. في الظلام، تظهر الحقائق عاريةً وتتجلى في أبشع صورها. وعندما كبرت، أدركت أني لهذا السبب أخشى الظلام.
في الظلام، يمكن أن يتسلل الموت إلينا دون أن ندركه. وفيه، قد نختنق بهذا الحبل الممتد من الأعلى حتى رقابنا دون أن نراه. وفي الظلام، قد يخرج أناس من تحت الأسرة أو يخترقون الحائط ليدمروا أجسادنا، ولا نقدر على منعهم لأننا ببساطة لا نراهم
عندما كبرت، دخلت في جدال مع أبي حول خوفي من الظلام. حاولت أن أقنعه أنه فوبيا والبعض يعاني منها. ظلّ هو متمسكاً برأيه، وقال إنني أعاني من ضعف في الإيمان، وإنني لفكرت بعقلي، لن أخاف من شيء. ظلّ يسألني: "ما الذي يمكن أن يحدث لك في الظلام؟" لم أجد إجابة واضحة رغم الإجابات والأمثلة المتعددة في عقلي لما قد يحدث.
لست وحدي
أخبرت صديقتي المقربة عن قصتي مع الظلام وفزعي منه، وقالت إنها تحب الظلام ولا تستطيع أن تشعر بهذا السلام أثناء النوم إلا عندما تكون غرفتها مظلمة تماماً. وأضافت جملتها الغريبة التي لم أنسها يوماً: "في النور، أشعر أن هناك من يراني، بينما في الظلام أطمئن لأن لا أحد يراني". كدت أقول لها "وكيف لا ترين في الظلام كل هذه الكائنات التي تراك؟"، ثم تراجعت في النهاية.
في زيارة لعمتي، وفي حضور شقيقتي وأمي، انقطع التيار. طلبت عمتي على الفور من ابنتها أن تشعل الشموع حتى تعود الكهرباء، وقتذاك دُهشت. سألت عمتي وأخبرتني أنها تشعر بالخوف والاختناق في الظلام، فقالت أمي ممازحة: "الموضوع وراثة"، ولكن الواقعة أسعدتني وعرفت أنني لست وحدي. وقابلت لاحقاً العديد من الأصدقاء الذين يعانون من نفس الفوبيا.
أخبرت صديقتي المقربة عن قصتي مع الظلام وفزعي منه، وقالت إنها تحب الظلام ولا تستطيع أن تشعر بهذا السلام أثناء النوم إلا عندما تكون غرفتها مظلمة تماماً. وأضافت جملتها الغريبة التي لم أنسها يوماً: "في النور، أشعر أن هناك من يراني، بينما في الظلام أطمئن لأن لا أحد يراني"
مع الوقت، بدأ والدي يقتنع أن هذا الخوف قد يكون له سبب نفسي بعيداً عن ضعف الإيمان. بحثت على الإنترنت عن أهم أسباب هذه الفوبيا، وعن الطرق التي يمكن أن تساعدني للتخلص منها. وكانت هناك الكثير من النصائح، ولكن لم تفلح أي طريقة معي ولا أعرف لماذا.
في بعض الأوقات، كنت أختبر نفسي وأعاند مخاوفي. أطفئ نور المصابيح وأغرق في الظلام. وفي كل محاولة، لم أستطع أن أقاوم أكثر من نصف دقيقة. كان الهواء ينفد من الغرفة، أختنق، وأرى تلك الأيدي التي تمتد إلي وأهرب منها. لم أعرف يوماً هل هي حقيقية، وما المكان الذي يمكن أن تأخذني إليه لو لم أهرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...