للمشاهد الوثائقية في مسلسل "الاختيار 3" دلالة أعمق من محتواها. ما سمح بإذاعته يخص تنظيم الإخوان. ولعل في بطن الدولة العميقة، لغير الإخوان، تسجيلات تدّخرها لعصف قادم. والآن لا أقدم عزاء، وأتأسى بمقولة الشاعر ولي الدين يكن (1873 ـ 1921): "مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر".
وأتذكر حكمة المخرج جلال الشرقاوي، في الدقائق الأولى لاعتصام المثقفين المصريين في مقر وزارة الثقافة عام 2013. كنا في فورة الحماسة، نظن أنفسنا قد انتصرنا، ونفرض إرادتنا بالتصويت على اسم جدير بتولي وزارة الثقافة. وقال الشرقاوي: "الأستاذ جابر عصفور". علا أكثر من صوت: لا. فأتبع: "طيب، الأستاذ صابر عرب".
رأيناه اقتراحاً مضاداً للثورة، وأرجئ الأمر. كنا نريد ممثلين للثورة، وكان الأول آخر وزير للثقافة في عهد حسني مبارك، واستبق المنصب بالإشادة بخطاب مبارك في جمعة الغضب 28 كانون الثاني/يناير 2011، وأنه مطمئن على الوطن في ظل الرئيس، "وخطاب السيد الرئيس فيه إيجابيات ينبغي أن يرد عليها الشباب بإيجابيات".
وبعد يومين قال في التلفزيون: "لسنا ضد الرئيس مبارك... لا يوجد مصري عاقل ضد الرئيس مبارك". هذا منشور في كتاب "الثورة الآن" ومقال "جابر عصفور موظف يمارس التنوير الانتقائي". وتقضي فذلكة التاريخ بتولي الدكتور محمد صابر عرب وزارة الثقافة في الشهر التالي، تموز/يوليو 2013. وفي حزيران/يونيو 2014 خلفه الدكتور جابر عصفور.
بعد لقاءات تشاورية في المجلس الأعلى للثقافة تم الاتفاق على اجتماع، في الحادية عشرة ظهراً الأربعاء 5 حزيران/يونيو. للمرة الأولى يُعلن جدول أعمال عنوانه: "خطة عمل عاجلة لإنقاذ الثقافة المصرية"
كان الخامس من حزيران/يونيو 2013 يوماً حاسماً. سبقه تعيين الدكتور علاء عبد العزيز وزيراً للثقافة، وظهور ملامح التصور الإخواني للثقافة. نشرت أسبوعية "أخبار الأدب"، في 12 أيار/مايو 2013، صورة متحدية على الغلاف، لخيرت الشاطر نائب المرشد العام للإخوان. هو ليس مهتماً بالثقافة، ولا يمثل رسمياً أي حزب سياسي، ولكنه من رجال المال. وكتبت الصحيفة مع الصورة هذا العنوان:
"تناغماً مع الدور الثقافي لرجال الأعمال
خيرت الشاطر... هل يحقق استعادة روح مصر الثقافية ببرنامج الجماعة؟"
وفي التصور الإخواني لما يسمونه النهضة الثقافية، جاء في التفاصيل أن "الثقافة هي المرآة التي تعكس هوية المجتمع وقيمه وإرثه الحضاري، وعند إمعان النظر في خصائص الثقافة المصرية نجد أنها تتشكل في الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية المعبرة عن إرث هائل من الفنون والآداب". وفي البرنامج سبعة "ضوابط لإدارة الحياة الثقافية"، ومنها:
"التأكيد على عدم الفصل بين الجانب القيمي والأخلاقي وبين الفعل الإبداعي بأنواعه المختلفة، حرية إبداع مضبوطة بأخلاقيات المجتمع وقيمه وآدابه، الاعتماد في العمل الثقافي والإعلامي العام على غرس وتعميق ثقافة المناعة الشخصية والرقابة الذاتية للمواطن، تشجيع صناعة السينما على المستويين المعنوي والمادي من خلال دعم وتوجيه عملية الإنتاج، وإقرار مجموعة من الإجراءات لدعم عملية الإنتاج، دعم صناعة الفيلم الديني والوطني والوثائقي والتاريخي الذي يتناول هموم وتاريخ مصر وقضاياها، الارتقاء بمستوى المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي والتلفزيوني المصري؛ ليمارس دوره في نشر القيم الرفيعة، والامتناع عن الأعمال الهابطة والمثيرة للغرائز والدافعة لارتكاب الجرائم، وتحسين الذوق العام".
يتخذ المشروع من فنون الموسيقى والغناء أدوات تعبير وشحذ الهمم، وهما من الفنون التي لحقها إسفاف وهبوط. من هنا كان احتياج الوطن للكلمة الجميلة المعبرة، وللعمل الفني المحفز، الذي يبني ولا يهدم، يعبر ولا يدمر، وفي سبيل ذلك يجب العمل على توجيه الأغنية المصرية إلى أفق أكثر أخلاقية وإبداعاً واتساقاً قيم المجتمع وهويته، ودعم شركات الإنتاج التي تلتزم بهذا التوجيه، إضافة إلى دعم الأغنية الوطنية والدينية.
كيف بدأ الاعتصام؟
بعد لقاءات تشاورية في المجلس الأعلى للثقافة تم الاتفاق على اجتماع، في الحادية عشرة ظهراً الأربعاء 5 حزيران/يونيو. للمرة الأولى يُعلن جدول أعمال عنوانه: "خطة عمل عاجلة لإنقاذ الثقافة المصرية". الموعد مبكر على أمثالي ممن يصحون متأخرين، ولا يصلحون لتدبير مؤامرات ولا المشاركة في انقلابات تحتاج إلى يقظة في الفجر. لكن السيناريست سيد فؤاد أعاد التأكيد عليّ فجراً، يحثني على ضرورة الحضور، لأهمية جدول الأعمال. ثم اتصل بي وأنا في الشارع، وقبل أن أسمعه قلت: "أنا في الطريق، بيني وبين المجلس دقائق". فقال: "صباح الخير، تعال إلى الوزارة"». سألته بانفعال: "حصل؟".
تجاوزت البوابة فقابلني بهاء طاهر، خارجاً يبتسم مستنداً إلى ذراع حنان مطاوع. كان الموجودون في الوزارة حوالي خمسة وعشرين. تبينت عددهم حين راجعت التوقيعات على البيان الأول.
كشف الاعتصام عورة مثقفين يجيدون ركوب الموجات، من الثورة إلى الاعتصام
أعطاني محمد عبلة مشروع بيان وطلب رأيي، ولم أعلق. قال إن الكتابة ليست مهنته، وقلت له إنني أحب سخرية محيي الدين اللباد اللاذعة في إيجاز أسلوبه، مثل رسومه وتصميماته. قال: "طيب... اكتب أنت". فحاولت الإيجاز قدر المستطاع، متجاوزاً الانفعال الشخصي، وضغط الوقت وهتافات وشتائم تهبط علينا من الأبواب والنوافذ، تصبّها حناجر عفية، ومكبر صوت محمول فوق منصة أقيمت على عجل. وكتبت:
"يعلن المثقفون والأدباء والفنانون المعتصمون بمكتب وزير الثقافة رفضهم للوزير الذي فرضته الفاشية الدينية الحاكمة، والذي بدأ فعلاً في خطة تجريف الثقافة الوطنية، ويؤكدون أنهم لن يقبلوا بوجود وزير لا يلبي طموح المثقفين وتطلعاتهم للرقي بالثقافة اللائقة بالثورة العظيمة التي بدأت موجتها الأولى يوم 25 كانون الثاني/يناير 2011، حتى تحقق أهدافها وفي مقدمتها بناء الدولة الوطنية.
ويعلن المعتصمون استمرارهم في الاعتصام حتى يتولى زمام أمر الثقافة من يتعهد ويؤمن بالحفاظ على قيم التنوع والمواطنة والثراء الذي كان سمة للثقافة المصرية على مر العصور.
الساعة 11 صباح الأربعاء 5 يونيو 2013"
تشاورنا بسرعة في الصيغة التي وجدت استحساناً. وكان جلال الشرقاوي قد توقف في النسخة الأولى للبيان أمام عبارة "وقد أعلن (الوزير) البدء في تجريف الثقافة الوطنية"، قائلاً: "أعلن ايه؟ هو بدأ فعلاً، لازم تغيرها"، فاستبدلت بها الصيغة التي وردت في البيان. وقعتُ اسم بهاء طاهر، وتلاه حسب ترتيب الجلوس توقيع الحضور: أحمد شيحا، خالد يوسف، سيد حجاب، سعد القرش، سيد فؤاد، محمد عبلة، محمد العدل، أحمد نوار، محمد عبد الخالق، جلال الشرقاوي، محمد هاشم، محمود قابيل، حامد محمد سعيد، سهير المرشدي، منال محيي الدين، صنع الله إبراهيم، حنان مطاوع، سامح الصريطي، هالة خليل، مها عفت، عصام السيد، ناصر عبد المنعم، أحمد ماهر، محمد فاضل (وقع أيضاً اسم فردوس عبد الحميد قبل وصولها). طلبت إلى الصريطي أن يكتب اسمه، بدلاً من الفورمة.
وصل أسامة عفيفي (والتقط هذه الصورة المصاحبة للمقال)، ثم جاء يوسف القعيد، وخالد صالح، وأحمد عبد العزيز، ورشا عبد المنعم، وفتحية العسال، وسكينة فؤاد، وخليل مرسي، وهاني مهنى. وبدأت وقائع إعلان الاعتصام، وفي أقل من دقيقة، قرأت سهير المرشدي البيان. هو البيان الوحيد الذي ظل مكتوباً بخط يدي، فلم يكن لدينا وقت ولا رفاهية كتابته على الكمبيوتر، رغم كرم موظفي الوزارة خصوصاً الذين فصلهم الوزير، وأحدهم أعارني شاحن هاتفه.
بدأ جمع توقيعات أخرى خارج البوابة. وبسرعة ناقشنا أمرين، لنخرج إلى الذين حضروا ولم يتمكنوا من الدخول. الأمر الأول: هل ينبغي أن نرشح ثلاثة أسماء ليتم اختيار أحدهم وزيراً؟ وأمام اقتراح جلال الشرقاوي اتفقنا على إغلاق هذا الملف؛ لأن الوزير المختار سيقسم اليمين أمام رئيس فقد شرعيته. الأمر الثاني: هل وجود الذين أنهى الوزير الإخواني ندبهم يُضعف الاعتصام؟ اتفقنا على أن وجودهم يجعل الأمر كأنه شخصي، ويقلل من الثقل الرمزي للاعتصام. ثم جاءت إيناس عبد الدايم، وتفهمت التحفظ بذكاء وخرجت. وكان أحمد مجاهد في الشارع لوقت متأخر، ثم دخل، وحضر آخرون، بعضهم من وجوه نظام مبارك، وبعضهم كان معادياً للثورة.
لم أكن موجوداً يوم جاءت لميس الحديدي، وأبديت استنكاري، وناقشتُ كثيرين، فقالوا: "وايه يعني؟". كتبت في صفحتي على الفيسبوك أنني حزين، وفي فمي ماء، وأن المعارك النبيلة لا بد أن تخاض بوسائل من النوع نفسه، فجاءتني النصائح: "في ما بعد، مش وقته".
في ما بعد ستخترع أساطير وبطولات بعضها ينسب إلى رجال فاروق حسني. وفي مساء اليوم التالي لخلع محمد مرسي ستقول لي سيدة بفخر، في مقهى ريش، إنها من الذين "اقتحموا الوزارة". ولم أرها في اليوم الأول، وربما الثاني. ابتسمتُ، وهي ظنت أنني أستحسن الكلام، وكنت في مقام يجمع متناقضين... البيرة والجاتوه.
لم نكن ندري أن ذلك سراب، وأن عقلاً جباراً يخطط، ويستعد للانقضاض والإزاحة، وأن في انتظارنا أياماً سوداء بلا ضفاف
بعد قراءة البيان الأول خرجنا وهتفنا: "تحيا مصر"، والحشود في الشارع تزداد عدداً، وهتافات الداخل والشارع تتجاوب، وتعلو على سباب الشتامين. لولا احتشاد الشباب أمام البوابة، وتشكيلهم درعاً صوتية، ما نجح الاعتصام وهو يدخل لحظات اختباره الأولى. وسهرنا حتى الصباح، وبهدوء مضت الليلة الأولى. منذ كم سنة لم أشهد الشروق، وكنا نطل على النيل والشجر والشمس تستأذن، وسألني أحمد طه النقر: "فيه أجمل من كده؟".
توالت الاجتماعات. حرائق من كلام يعاد إنتاجه بألسنة آخرين، يحضرون للمرة الأولى، ويناقشون ما نوقش أمس. وفي الأيام التالية تغيرت الوجوه، وصار الشارع أجمل في المساء وسط الأهالي، بعيداً عن أضواء تصاحب استعراض من يريد توثيق اسمه وصورته في سجل الاعتصام. كان الشارع اختباراً لمن يفضلون الظل، ويستأنسون بزحام لا يعرفون فيه أحداً، ولا يعرفهم أحد، ولا يتباهون بأنهم "اقتحموا".
كشف الاعتصام عورة مثقفين يجيدون ركوب الموجات، من الثورة إلى الاعتصام. لم أعد أدخل، وأغناني الشارع الذي حقق للفنانين التشكيليين والموسيقيين وراقصي الباليه والمطربين ما حلموا به، هدم الحائط الرابع الفاصل بين الجمهور وفنانين معتصمين مسالمين، لا يملكون إلا مواهب يعرضونها ليلاً أمام الوزارة.
للمرة الأولى عرض باليه "زوربا" في الشارع، أعادت تقديمه فرقة باليه أوبرا القاهرة. في الشارع كان الفنان في قلب المشهد، تحت الشمس، يقتسم الحلم والأغنية والأسفلت مع جمهور يصفق ويشارك ويرى الإبداع لحظة ولادته، وفي تجلياته المتجددة حين يعاد إنتاجه في سياق تفاعلي.
لم نكن ندري أن ذلك سراب، وأن عقلاً جباراً يخطط، ويستعد للانقضاض والإزاحة، وأن في انتظارنا أياماً سوداء بلا ضفاف. البراءة أنستنا تحذير ولي الدين يكن، وألا نتدبر حكمة العارفين بكيفية طباخة المستقبل، ورسم الخرائط، بعيداً عن أشواق الحالمين. لم ننصت إلى دلالة اقتراح جلال الشرقاوي. رحمك الله، أيها الرائي، ورحمنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...