هجَر أهالي قرية جلكي الواقعة بين قريتي هرور وكيستة، والتابعة لمحافظة دهوك على حدود العراق الشمالية مع تركيا، منازلهم قبل نحو عام. نحو 15 عائلةً غادرت القرية، ولم يبقَ فيها سوى رجل ستيني يُدعى يوسف زيا، يعيش أيامه بين منازلها المقفلة والخالية من السكان، وأراضيها التي تتعرض بشكل شبه دائم لسقوط قذائف الهاون ورصاص رشاشات الطائرات.
"لن أغادر القرية حتى الموت"؛ بهذه الكلمات يعبّر زيا عن ألمه من الواقع الذي حوّل القرية الوادعة على أحد تفرعات نهر الخابور، إلى منطقة "غير صالحة للعيش"، بسبب الحرب الدائرة بين الحين والآخر. يقول لرصيف22: "ليس لدي مكان لأذهب إليه. كل أهالي القرية غادروها بسبب الحرب، هناك أراضٍ احترقت ولم يبقَ لدي شيء، ولكني لن أغادر".
أعلن الجيش التركي مؤخراً، عن عملية جديدة سُمّيت بـ"قفل المخلب"، لاستهداف مواقع ومعسكرات "الكردستاني" في الجبال الحدودية
ويترك الصراع المستمر في شمال العراق، أثراً كارثياً على سكان المناطق الحدودية مع تركيا، حيث صارت الحياة الطبيعية شبه معدومة لسكان العديد من القرى، بسبب استمرار المواجهات بين قوات الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني المنتشرين في الجبال، والذين تتهمهم تركيا بالتمرد عليها منذ عام 1984.
وأعلن الجيش التركي مؤخراً، عن عملية جديدة سُمّيت بـ"قفل المخلب"، لاستهداف مواقع ومعسكرات "الكردستاني" في الجبال الحدودية، في عملية ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، مع استمرار المحاولات التركية للتقدم في الداخل العراقي، وتشريع عملياتها العسكرية ضد الـPKK، والتي تعدّها أنقرة دفاعاً عن النفس، في مواجهة خطر يهدد أمنها القومي.
في ظل هذا الواقع، يعيش زيا منتظراً تغيّر الأحوال، ويحاول الحفاظ على ما تبقى من "ماشية" في القرية. يعاني في سبيل البقاء، فيما تزوره زوجته بين الحين والآخر للاطمئنان عليه. أما بقية سكان القرية، فصاروا يترددون عليها بين الحين والآخر لتفقد منازلهم وأراضيهم التي لم يعد بإمكانهم الاستثمار فيها.
يروي زيا كيف تعرضت جلكي لسقوط عدد من القذائف الصاروخية والهاون في محيطها خلال القصف الأخير، الذي يتواصل أيضاً على "هرور" و"كيستا" المحاذيتَين، وقرى أخرى في قضاء زاخو وناحية كاني ماسي، متسبباً بهجرة عشرات العوائل لمنازلها، وتركها قرى بأكملها خاليةً ومهجورةً، من دون آمال بالعودة الآمنة للعيش فيها، وتحديداً القرى المسيحية المنتشرة على طول السلسلة الحدودية، والتي تعرضت منذ عام 2014 وحتى الآن لسلسة من الهجمات والتداعيات كانت نتيجتها الهجرة القسرية للنسبة الأكبر من سكانها باتجاه زاخو ودهوك، ومنهم من يتحضرون للهجرة إلى خارج العراق.
ليس لدي مكان لأذهب إليه. كل أهالي القرية غادروها بسبب الحرب، هناك أراضٍ احترقت ولم يبقَ لدي شيء، ولكني لن أغادر
"تحيط النقاط التركية بنا من جميع الجهات، وحين لا تستطيع الدخول إلى بيتك وقريتك، فأنت تختصر هويتك وتاريخك وانتماءك، فتصبح غريباً في وطنك، نحن لاجئين في أوطاننا"، يقول رافي وهو اسم مستعار لأحد سكان قرية جلكي، في حديثه إلى رصيف22، عن المعاناة التي تسبب لهم بها الصراع الدائر هناك.
يصف هجرة المسيحيين "السريان والآشوريين"، القسرية من تلك المناطق قائلاً: "في سياسات الكبار دائماً الحلقات الضعيفة تدفع ضريبة الحرب، ونحن دائماً كنا خشباً لحروب لم تكن لنا فيها ناقة ولا جمل، وكل سياسات المنطقة تصبّ في مصلحة الغرباء والشعوب تكون الضحية الأولى".
وتُعدّ جلكي واحدةً من القرى الشاهدة على مأساة حرب تتجدد بين الحين والآخر، إذ إنها انقسمت في السابق إلى جزئين "جلكي العليا وجلكي السفلى"، إلا أن الجزء الأول من القرية تعرّض للحرق والهدم، ولم تصل إليه الخدمات، ما منع السكان من العيش فيها. أما القسم الآخر فغادره السكان نهائياً قبل عام من الآن، بحسب تأكيد أحد السكان الذي يترددون على القرية بين الحين والآخر لرصيف22، والذي تحفّظ عن ذكر اسمه خوفاً على أمانه وعائلته.
حال جلكي المسيحية يتشابه وحال هرور التي تسكنها غالبية من "المسلمين" الرافضين الخروج، بالرغم من تعرضها هي الأخرى لقصف بشكل شبه يومي، طال منازل عدة في الأيام الماضية، كذلك قرية كيستا التي هجرها سكانها ليلة الثلاثاء المنصرم، أما قرية شرانش في دهوك أيضاً، فقد تحولت إلى قرية بلا حياة، ولم يتبقَّ فيها أحد من سكانها المسيحيين.
حال جلكي المسيحية يتشابه وحال هرور التي تسكنها غالبية من "المسلمين" الرافضين الخروج، بالرغم من تعرضها هي الأخرى لقصف بشكل شبه يوم
وفي هذا الإطار، انتقد رئيس حركة بابليون، ريان الكلداني، تهجير قرى مسيحية بالجملة في محافظة دهوك أمام مرأى ومسمع العالم والجهات المعنية من دون تحريك ساكن، مؤكداً في بيان صحافي، أن الصراع الدائر بين حزب العمال الكردستاني والأتراك أدى إلى إخلاء نحو تسع قرى مسيحية ضمن حدود قضاء زاخو بالإضافة إلى إخلاء أكثر من خمسين قريةً أخرى في سلسلة خامتير الجبلية في إقليم كردستان، مشيراً إلى أن اعتداءات الجيش التركي اشتدت في دهوك في السنوات الأربع الأخيرة، ولغاية الآن لم يتم تعويض أهالي الأماكن المتضررة. كما طالب الكلداني الجانب التركي وحكومتي المركز والإقليم بضرورة التدخل لعودة أهالي تلك القرى وإعادة افتتاح الكنائس وتوفير الحماية اللازمة لهم .
وبالرغم من المطالبات العديدة لكلا الحكومتين، سواء على مستوى التمثيل الرسمي أو على مستوى الأوساط الشعبية، إلا أن شيئاً لم يحصل، سوى إصدار الدولة العراقية، يوم الثلاثاء 19 نيسان/ أبريل الحالي، بياناً رسمياً رافضاً للعمليات العسكرية التركية، وأكدت فيه وزارة الخارجية العراقية، أن الحكومة ترفض "رفضاً قاطعاً، وتدين بشدة العمليات العسكرية التي قامت خلالها القوات التركية بقصف الأراضي العراقية في مناطق متينة، والزاب، وأفاشين، وباسيان في شمال العراق، عبر مروحيات أتاك والطائرات المُسيَرة". وأضاف البيان، أن "العراق يعدّ هذا العمل خرقاً لسيادته، وحرمة البلاد، وعملاً يخالف المواثيق والقوانين الدولية التي تُنظم العلاقات بين البلدان، كما يخالف أيضاً مبدأ حسن الجوار".
كما استدعت الخارجية العراقية، السفير التركي في بغداد علي رضا كوناي، وسلمته مذكرة احتجاج شديدة اللهجة على خلفية الخروقات والانتهاكات المستمرة للجيش التركي، مطالبةً إياه بسحب القوات التركية كاملةً من الأراضي العراقية.
بيانٌ ومطالبةٌ تجاهلهما الأتراك، لا بل شكر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الحكومة العراقية المركزية وحكومة كردستان، قائلاً إنهما تدعمان "المعركة التي نخوضها ضد الإرهاب، قائلاً خلال اجتماع لنواب حزبه، إن بغداد وقادة إقليم كردستان يدعمون الحملة العسكرية التي تشنها تركيا براً وجواً، تحت شعار "قفل المخلب".
تحيط النقاط التركية بنا من جميع الجهات، وحين لا تستطيع الدخول إلى بيتك وقريتك، فأنت تختصر هويتك وتاريخك وانتماءك، فتصبح غريباً في وطنك، نحن لاجئين في أوطاننا
ولا يبدو كلام أردوغان مستبعداً، إذ كشفت مصادر مطلعة في أنقرة أن كردستان العراق تنسق مع الجانب التركي في هذا الخصوص وتساعدها وتمنع مرور عناصر "العمال الكردستاني" إلى الإقليم، مشيرةً إلى أن العملية التركية الأخيرة في شمال العراق، نُفِّذت بعد زيارة نادرة إلى تركيا قام بها رئيس وزراء منطقة الحكم الذاتي الكردية العراقية، مسرور بارزاني، ورحب خلالها عقب محادثاته مع الرئيس التركي "بتوسيع التعاون لتعزيز الأمن والاستقرار" في شمال العراق.
وإلى حين التوصل إلى حلٍ بين حكومة المركز والحكومة التركية، واتّضاح موقف حكومة الإقليم، تزداد المخاوف من إخلاء القرى الحدودية يوماً بعد يوم، وخاصةً القرى المحيطة بجبل كيستة، والتي يهددها خطر استمرار المعارك والمواجهات بين الجيش التركي والـPKK، خصوصاً مع إقامة الجيش التركي تسع نقاط عسكرية جديدة في تلك المنطقة.
وبحسب المعلومات، فإن 12 قريةً تتبع لناحية كاني ماسي أُخليت في وقت سابق خلال عمليات "مخلب البرق والصاعقة"، من أصل 76 قريةً بينها 20 قريةً مسيحيةً و12 قريةً مسلمةً مختلطةً، والبقية قرى مسلمة، ومنها "هرور" التي يحذر سكانها من احتمال تهجيرهم قسراً في حال استمرار القصف العشوائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 22 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري