لم تهتم سارة أحمد بالنظرات الوقحة التي واجهتها أثناء عملها في ورشة والدها لإصلاح السيارات. فلديها أسبابها المنطقية لاختيار هذا العمل، كونها حاصلة على دبلوم تجاري متوسط تندر معه الفرص المجزية أو تلك التي توفر باباً للترقي. طموحها جعلها تتحمس لأن تعرض على والدها أن يعلّمها حرفته. تردد الأب في البداية، لكنها تمكنت من إقناعه. تقول: "تعلمت الميكانيكا على يد والدي، ومن حبي له، أحببتها ووهبت حياتي لها".
ترعرعت سارة، وهي أكبر أخوتها وأخواتها، في محافظة الدقهلية ذات السمت الريفي المحافظ، تقول: "بعد تدريب والدي لي، حصلت على تدريبات متخصصة في كشف الأعطال".
واجهت سارة في البدء انتقادات و"تنمُّراً" ممن ينظرون إليها باعتبارها "مسترجلة" تقتحم مهنة مخصصة للرجال. ورغم أنها ليست الأولى التي احترفت مهنة إصلاح السيارات، إذ سبقتها كثيرات في الدلتا والصعيد، فإن عمل النساء في الورش لا يزال يعد تصرفاً يناقض ما اتفقت عليه المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري، وهو أن الحِرف التي تحتاج جهداً بدنياً شاقاً أو مهارة ودقة، هي حِرف يجب أن يحتكرها الرجال، "قالوا لي لا يمكن تكملي! حتة بنت زيك هتشتغل إزاي في الميكانيكا؟"، تردد سارة.
كان التنمر وتشجيع أبيها دافعين قويين لأن تواصل سارة تعلم أسرار الحرفة، حتى وُفّقت في أن تسافر إلى إحدى الدول العربية للعمل في صيانة السيارات. وهي تعمل حالياً على إدخار المال من أجل تحقيق حلمها بالحصول على توكيل صيانة للسيارات في مصر، كي تعود وتعيش إلى جوار أسرتها.
سارة ليست الأولى التي احترفت مهنة إصلاح السيارات، إذ سبقتها كثيرات في الدلتا والصعيد، لكن عمل النساء في الورش لا يزال يعد تصرفاً يناقض ما اتفقت عليه المجتمعات العربية، وهو أن الحِرف التي تحتاج جهداً شاقاً أو مهارة ودقة، يجب أن يحتكرها الرجال
أصل صعيدي
"اعتقدوا إني بتدلع ومش بتاعة شغل، ومش ممكن ست تعمل في تلك المهنة الصعبة التي اقتصرت لسنوات طويلة على الرجال"، تقول أمل عيد ابنة محافظة بني سويف الصعيدية عن عملها في مهنة "منجد أفرنجي"، إذ كانت أول امرأة تعمل في هذه المهنة بمصر.
مثل سارة أحمد، حصلت أمل عيد على دبلوم فني تجاري لا يتيح لها فرصة عمل جيدة، لهذا لجأت بعد زواجها واستقرارها في القاهرة بعيداً عن محافظتها الصعيدية المحافظة، إلى تعلم حرفة التنجيد على يد أحد أقاربها، كي تستعين بعائدها في تحمل أعباء الحياة ونفقات الأبناء، عقب انفصالها عن زوجها الأول. تقول: "أصبحت أول منجدة إفرنجي في مصر، لكن البداية لم تكن سهلة، ظللت عاماً كاملاً أتعلم أصول المهنة على يد أحد أقاربي، وواجهت صعوبة كبيرة في تدبير المال اللازم، واضطررت إلى الحصول على قروض خشيت أن أتعثر في سدادها فيكون مصيري السجن، لكن الله سلّم".
قالوا لي "همّ الرجالة خلصوا عشان تنافسينا؟"
عن الصعوبات تقول أمل: "لم يدعمني في بداية مسيرتي زملائي وسمعت عبارات غريبة مثل: هي بتدلع. إزاي واحدة ست هتشتغل في مهنتنا الصعبة دي؟ هما الرجالة خلصوا عشان تشتغلى انتي؟ هذا إلى جانب رفض الموردين في البداية توريد الخامات بالأجل، يا كاش يا مفيشّ إلى أن تحسنت الأمور نوعاً ما".
مع نجاح آمل البطئ بسبب المعوقات، أدرك الموردون الذين رفضوا معاونتها أن أرباحهم مضمونة عند التعاون معها. تضيف: "لما ذاعت سمعتي في السوق، أحسن الموردين معاملتهم لي. واستغرق الأمر وقتاً حتى اقتنع الزبائن أن كوني امرأة لا يؤثر في قدرتي على العمل، وأني أكثر التزاماً من زملائي بالمواعيد وجودة التسليم، خاصة مع اعتمادي على النساء فقط في العمل معي. والنساء عموماً يملن أكثر إلى الالتزام بالدقة والمواعيد وجودة التنفيذ والتفاصيل".
وتواصل: "الناس كانوا بيتفاجئوا إن الشغل مصمم على مستوى راقي". لكن المعوقات لا تنتهي، فقد القت الأزمة الاقتصادية بظلالها على نشاط أمل. تشرح: "في مشكلة سيولة، البنوك بقت متشددة في منح القروض وانا عليّ مديونيات". تخشى أمل أن الوضع الاقتصادي وتراجع الطلب وتراكم ديون الخامات التي يجب عليها دفعها للموردين في ظل التباطؤ، قد يؤدي ذلك كله إلى وقف العمل وإغلاق الورشة وفقدان من يعملن معها من السيدات. تقول: " قد اضطر إلى غلق الورشة التي بنيتها بعرقي وتعب سنين، ولا أعرف من أين أنفق على اطفالي".
ربع قرن مع "الدوسر"
"زوجي له الفضل في تعلمي مهنة (الدوسر)، وهي إحدى حرف صناعة الأثاث. زاولتها 25 عاماً، ولكني اضطررت إلى غلق الورشة بسبب غلاء الخامات خلال الأشهر الأخيرة"، تقول هند محمد البالغ عمرها 49 عاماً، والتي تحملت مسؤولية ورشة زوجها بعد وفاته كي تتمكن من إعالة أبنائها الأربعة.
تعيش هند وتعمل في محافظة دمياط المعروفة بصناعة الأثاث، والتي تشهد ورش الأثاث فيها منافسة الاستيراد وكيانات تصنيع كبرى مملوكة للدولة أو مدعومة منها. وزاد تفاقم الأزمة الاقتصادية الحالية وتراجع استيراد الخامات الأولية وانخفاض قيمة الجنيه في إضافة أعباء إلى عاتق أصحاب الورش وعمالها حتى اضطر الكثير منهم إلى الإغلاق. تقول: "كنت أساعد زوجي رحمه الله، إلى أن تعلمت أصول المهنة، وبعد وفاته بت المسؤولة عن الورشة من الألف إلى الياء وتخصصت في تصنيع (الدوسر) وهو مسمار خشبي يستخدمه النجارون في عمل الانتريهات والصالونات كما يستخدمه مهندسو الديكور".
لا تخفي آية إحباطها من استهانة الزبائن والموردين بها لأنها أنثى، خاصة أنهم لا يكتفون بالتضييق عليها في عملها، وإنما تواجه تنمراً موجهاً نحو نوعها الاجتماعي بالأساس
بدأت ازمة هند في نهاية العام 2018. توضح: "ارتفعت أسعار الخامات فوق طاقتي، فأغلقت الورشة ولم أستطع الاستمرار، رغم أني كنت ربة عملي لمدة ثماني سنوات استطعت خلالها أن أضيف إلى شبكة الزبائن عشرات المصنّعين والمهندسين من مختلف المحافظات. لكن أسعار الكهرباء والخامات أخذت تقفز حتى تجاوزت قدراتي. فاتورة الكهرباء وحدها قفزت إلى 2000 جنيه شهرياً لتبتلع أرباحي. الآن بعد أن كنت أدير ورشتي اضطررت إلى العمل في أحد مصانع الملابس حتى أتمكن من الإنفاق على أبنائي الأربعة".
جلطة فاستقلال
"إصابتي بجلطة في الشريان الرئوي واحتجازي بغرفة العناية المركزة فترة طويلة، كانت دافعاً كي أخطو خطواتي الأولى في العمل في مشروعي الخاص". تقول آية مطر التي تخرجت في كلية التجارة، قسم إدارة أعمال جامعة دمياط. في البداية ظنت أن تميزها من خلال الالتحاق بالشعبة الإنجليزية سيكون كفيلاً بخلق فرصة عمل جيدة في تخصصها، لكن الرياح لم تأت بما اشتهته سفنها. وتضيف: "تعلمت الفوتوشوب والتصميم. استغللت ورشة والدي لأطور عملي، صممت المجات (فناجين خزفية) والتيشرتات ويونيفورم حفلات التخرج، وحولت الورشة إلى مكان لتصميم وبيع المنتجات التي باتت تحمل علامتها التجارية".
وتكمل: "صديقتي هي شريكتي في العمل. بعد أن كتب الله لي النجاة، قررت أن أتحدى نفسي، وأطلقت على المشروع براند (حياة) تيمناً بعودتي إلى الحياة وتخلصي من قيود الوظائف".
لكن الجلطة الشريانية لم تكن آخر مشاكل آية. تضيف: "واجهنا عدم تقدير من قبل العملاء والموردين، فتارة يرفعون أسعار الخامات علينا أو تأتي متأخرة، مما دفعني أحياناً للشجار أو تقليد صوت الرجال لكي يهتموا، أو أكذب فأدعي أن المدير رجل"، حينها تتغير معاملة الموردين فوراً مع آية وصديقتها عندما يظنون أنهما مجرد مساعدتين لصاحب العمل الرجل. وتضيف: "هذا إلى جانب خسارة 30 ألف جنيه لعدم سداد الزبائن مستحقات الشغل، وحينما طالبتهم بالسداد كان ردهم ‘هاتي لنا راجل نتفاهم معاه’".
لا تخفي آية إحباطها من استهانة الزبائن والموردين بها لأنها أنثى، خاصة أنهم لا يكتفون بالتضييق عليها في عملها، وإنما تواجه تنمراً موجهاً نحو نوعها الاجتماعي بالأساس.
"قالوا لي اقعدي في البيت"
في القاهرة، بدأت سعدة حجاج عملها في مهنة ميكانيكا السيارات. ومثل غيرها من النساء اللواتي عملن في مهن يعدها للرجال لأنها تحتاج إلى القوة العضلية وتتنافى مع "الأنوثة"، واجهت سعدة معوقات جمة: "قالوا لي اقعدي في البيت كفاية عليكي المطبخ. كنا خلصنا منكم في الشارع لما هتطلعوا لنا في الورش كمان؟" على حد قولها.
حصلت سعدة البالغة من العمر 36 عاماً على إجازة في علم النفس من كلية الآداب في جامعة عين شمس. وهي معروفة باسم "الأسطى سوس". تقول: "تعرضت لمواقف تنمر كثيرة من الزبائن في بداية عملي في مهنة ميكانيكا السيارات. لم تكن خطتي العمل في هذه المهنة، وجاء عملي فيها مصادفة بعد تعرضي لحادث شنيع تهشمت فيه سيارتي، وكانت بحاجة للصيانة. وجدت مدى معاناة السيدات إذا رغبن في صيانة سياراتهن من تحرش وابتزاز مادي وعيرهما، ففكرت: لماذا لا تكون هناك ورشة يتولى بها نساء إصلاح سيارات النساء ويقيهن شر التحرش والاستغلال؟" .
تختم سعدة: "كل المواقف كانت دافعاً لي لتعلم الميكانيكا، إلى جانب عملي الأساسي كمديرة إدارية في إحدى الشركات الكبرى، حيث افتتحت ورشتي في مصر الجديدة، وأصبحت من أمهر "الميكانيكية" في القاهرة، وبات لي زبائن من جميع المحافظات، أطلقوا علي لقب ‘الدكتورة الميكانيكية’، لأنني أتعامل مع السيارة وكأنها كائن حي، كالمريض الذي يحتاج إلى العناية والعلاج".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...