كنت أشاهد مسلسلي الكوميدي المُفضل "الكبير أوي - الجزء السادس"، حين استوقفني أحد المشاهد: زوجة الكبير مربوحة، وفي محاولة لإغرائه على غرار الأفلام الجنسية، ارتدت زيّ ممرضة.
كان مشهداً عادياً، أضحكني قليلاً وغاب عن ذاكرتي بعد ثوان، لكن في اليوم التالي فوجئت بالنقيب العام للتمريض المصري، الدكتورة كوثر محمود، ترفع دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لوقف عرض المسلسل، بتهمة الإساءة الواضحة للممرضة المصرية. ثم تدرك فجأة أن ذلك نمطاً.
الجميع يشعر بالإهانة… بدأها الإسلاميون
أشهر المظلوميات المتعلقة بتشويه الصورة أو تقديم صورة مغلوطة، هي للإسلاميين. دأبوا طوال عقدين على اتهام الأعمال الفنية بتشويه صورتهم، سواء بإظهارهم على أنهم متكاسلين في عملهم، فالإسلامي في الكوميديا والدراما هو الذي يترك دوامه ليؤدي فرض الصلاة ويعطل مصالح المواطنين، كما في فيلم "الإرهاب والكباب" للمخرج وحيد حامد، أو فيلم "طيور الظلام" لحامد أيضاً، والذي صوّر الإسلاميين على أنهم لا يتوانون عن الوصول لأهدافهم وأغراضهم بطرق غير شرعية، سواء عبر الرشوة أو الخدمات المشبوهة؛ أو فيلم "حسن ومرقص"، الذي صوّرهم على أنهم متشددون وإرهابيون.
تلك المرة، المتهم الأكبر كان الفنان عادل إمام، والذي لاحقته الدعاوى القضائية، وآخرها حكم محكمة "جنح الهرم" التي حكمت عليه بالسجن ثلاثة أشهر، بتهمة الإساءة المتعمدة للإسلاميين وتشويه صورتهم، في عدد من أفلامه.
وضع المجلس الأعلى للإعلام 13 معياراً يجب ألا تخالفها الأعمال الدرامية في رمضان 2022، قال عنها إنها ضرورية لأجل الحفاظ على القيم المجتمعية وحرمة الشهر الكريم، ليكون الضحية الأولى لتلك المعايير مسلسل "دنيا تانية"، من بطولة الفنانة ليلى علوي
الإهانة المباحة والإهانة غير المباحة
بعد عام 2013 بدأت الكرة تنتقل إلى ملاعب أخرى، كملعب الصحفيين على سبيل المثال. ففي فيلم "الممر" 2019، يطلّ الفنان المصري أحمد رزق في دور مراسل حربي، إلا أن الصورة التي ظهر بها لم تعجب الصحفيين المصريين. وقد أدانت نقابة الصحفيين الفيلم على لسان عضو مجلسها، حسين الزناتي، معتبرةً أنّ العمل صوّر المراسل على أنه "ساذج وسطحي". غير أنّ أحداً لم يتقدم ببلاغ إلى النائب العام بتهمة تشويه صورة الصحفيين، فالفيلم كان يحظى بدعم مباشر من القوات المسلحة.
أما في حالة القوات المسلحة فالشعور بالإهانة مُباح، كما حدث على خلفيّة عرض العمل المسرحي "سليمان خاطر"، حيث سارعت إلى حبس المخرج أحمد الجارحي، ومؤلف المسرحية وليد عاطف، بعد بلاغ من المحامي سمير صبري والمُلقّب بـ "سمير بلاغات"، من كثرة البلاغات التي يتقدم بها.
مع العلم بأن المسرحية عُرضت قبل عامين من القبض على المخرج والمؤلف على مسرح الأنفوشي بالإسكندرية، وهو مسرح مملوك من الدولة، لكن لم تتحرك الدولة ضد المسرحية، إلا بعد بلاغ "سمير بلاغات". لم يُقبض عليهم فحسب، بل أوقف عرضُها على خشبة المسارح، وحذفت من على قنوات يوتيوب وكل المنصات الأخرى.
ماذا عمّا هو غير محسوس، مثل قيم الأسرة المصرية؟
الحفاظ على قيم المجتمع أولوية قصوى، يبدو ذلك جليا من خلال الترندات الأخيرة التي تتحدث عن "انتهاك قيم المجتمع"، وتمتلئ بها أدراج البلاغات، حتى أن النيابة دأبت باستمرار على تذييل بياناتها بتحذير من المساس بقيم المجتمع.
تقدم المحامي سمير صبري ببلاغ ضد مسلسل "فاتن أمل حربي" بدعوى تعمّده تشويه صورة رجال الدين، وتضليل الشريعة والتعدي على الثوابت الدينية، بالتوازي مع بيان الأزهر الذي هاجم المسلسل هجوماً لاذعاً
من الواضح أنّ الأمر على درجة عالية من الأهمية، إذ إن المجلس الأعلى للإعلام وضع 13 معياراً يجب ألا تخالفها الأعمال الدرامية في رمضان 2022، قال عنها إنها ضرورية لأجل الحفاظ على القيم المجتمعية وحرمة الشهر الكريم، ليكون الضحية الأولى لتلك المعايير مسلسل "دنيا تانية"، من بطولة الفنانة ليلى علوي، والذي صدر قرار بوقف عرض حلقته الأولى لانتهاكه قيم المجتمع، عبر تناوله مشاهد تتحدث عن "زنا المحارم"، رغم أنه لم يعرض مشاهد صريحة.
كما لم يسلم مسلسل "انحراف" من طلبات الإحاطة العاجلة في مجلس النواب، بسبب "إساءته لقيم المجتمع". وبمراجعة طلب الإحاطة هذا، تجد أن الطلب قُدّم لأنّ الحلقة الأولى من المسلسل تضمّنت مشهداً يصور شخصية الطبيبة النفسية حور، والتي تقوم بدورها الفنانة روجينا، وهي تعد العدّة لتسميم زوجها بسبب كرهها الشديد له.
في خانة القيم المجتمعية يندرج موضوع ازدراء الأديان، ويتولى المحامي سمير صبري هذه المرة أيضاً الأمر نيابةً عن الأزهر، فيتقدم ببلاغ ضد مسلسل "فاتن أمل حربي"، من تأليف إبراهيم عيسى وبطولة نيللي كريم، بدعوى تعمّده تشويه صورة علماء الأزهر ورجال الدين، وتضليل الشريعة والتعدي على الثوابت الدينية، بالتوازي مع بيان الأزهر الذي هاجم المسلسل هجوماً لاذعاً.
الدولة في مواجهة العشوائي والفلاح
الدولة نفسها بكل أجهزتها تشعر أحياناً بالإهانة، كما حصل مع فيلم "ريش" الذي عُرض في مهرجان الجونة 2021، وقيل إنه يسيء إلى صورة الدولة بتسليط الضوء على العشوائيات. ولم يتوقف الأمر عند تقديم المحامي صبري بلاغاً ضد الفيلم واتهامه بتشويه صورة مصر، بل تعدّاه إلى تحرك برلماني عاجل ضد عرض الفيلم، وطلبات إحاطة لوزيرة الثقافة ورئيس الوزراء.
بدورهم، شعر أهالي مدينة بورسعيد بالإهانة من مسلسل "توبة" للفنان عمرو سعد، فهم اعتبروا أنّ صورة المدينة في المسلسل لا تعكس صورة بورسعيد الحقيقية، وأصرّوا على أن لا مناطق عشوائية هناك كما في المسلسل، ووصل بهم الأمر إلى حدّ المطالبة، من خلال السوشال ميديا، بوقف عرض المسلسل، لأنّ إحدى الشخصيات فيه كانت تبيع ملابس مستعملة في ميناء بورسعيد، وهو أمر يقولون إنه لا يحدث هناك!
لأهل الريف المصري أيضاً حصّتهم من الشعور بالإهانة، وذلك بسبب مسلسل "راجعين يا هوى" بطولة خالد النبوي، لأن أحد مشاهده صوّر الرجل الريفي على أنه عنيد ويرغم بناته على الزواج.
إلا الشرطة، فلها بيت يحميها
"أنا فاهم إن أي شيء يمس القوات المسلحة أو الشرطة هو شيء مزعج، ويجب وضع حد أو رادع له"، يقول المذيع المصري الشهير والمحسوب على النظام، عمرو أديب
"أنا فاهم إن أي شيء يمس القوات المسلحة أو الشرطة هو شيء مزعج، ويجب وضع حد أو رادع له"، يقول المذيع المصري الشهير والمحسوب على النظام، عمرو أديب.
مقولة أديب تلخص ما سيطال كل من يجرؤ على المساس بصورة الأجهزة الأمنية في أي عمل فني، لذلك فهي الوحيدة التي لم تشعر بالإهانة. على عكس ما كان يحصل قبل عام 2014، حيث كان عادياً أن يتناول عملٌ ما صورة ضابط الشرطة بشكل كوميدي ساخر، مثل شخصية الضابط تيسير فهمي في مسلسل "الرجل العناب".
أو أن يُظَهَّر على أنه فاسد ومُرتَشٍ، مثل شخصية أمين الشرطة في فيلم "هي فوضى".
لكن بعد عام 2014، باتت شخصية رجل الشرطة في الأعمال الفنية ذات تيمة واحدة: شخص شريف، منزه، يحمي ويعظ ويأتي بالحق لأصحابه.
لم يقدمهم أي عمل فني في إطار غير هذه التيمة، بل بالغوا في إظهار فضيلتهم. يكفي أن تشاهد هذا المشهد من مسلسل "الاختيار 2"، حيث يحقق ضباط الأمن الوطني مع تكفيري، وحين رفض التجاوب والرد، قرّر أحد الضباط الصلاة ركعتين "ليدعو الله كي يفك لسان التكفيري ويجعله يتحدث!".
أو المشهد الذي بدا فيه دفاع أمين الشرطة عن موقف حبيبين في الشارع ضد تدخّل الضابطين فيما يفعلاه، غريبا بعض الشيء. سوف تفهم لماذا يعد المشهد غريباً حين تحاول السفر إلى شرم الشيخ أو دهب في جنوب سيناء، بصحبة صديقتك أو حبيبتك.
كل الأعمال الفنية بعد عام 2014 تناولت صورة رجل الشرطة بطريقة جيدة، من "كلبش" و"الاختيار" بأجزائهما الثلاثة، وفيلم "المهمة"، وغيرها، من دون أن يمرّ عمل واحد يسخر أو يصور الواقع على الأرض.
لكن ما هو الواقع؟
في عام 2014، أثناء عملي الصحفي الميداني، كنت أتواجد في قسم شرطة إمبابة بمحافظة القاهرة، للاطلاع على تفاصيل القبض على ناصر البرنس، صاحب أشهر مطعم بالقاهرة، في قضية لحوم فاسدة. شاهدني أحد الضباط بينما أتحدث مع المتهم. فأمر اثنين من أمناء الشرطة باحتجازي، ثم أعطاهم إشارة ما، توقعت منها أنهم سيقومون بتفتيشي، مثل هذا المشهد.
لكني فوجئت بمشهد قريب من هذا..
المفارقة أن المتهمين الجنائيين المتواجدين بالحجز، كانوا يشاهدون أمناء الشرطة أثناء اعتدائهم علي، ويبدو أن الأمر لم يعجبهم، لأنه حين فُتح باب الحجز لإيداعي بجانبهم، حاول بعض هؤلاء الجنائيين الاعتداء على أمناء الشرطة انتقاما لما فعلوه بي. شعرت بالخطر تجاه الشرطة، بينما شعرت بالحميمية تجاه المجرمين الجنائيين، والذي شرع أحدهم في مواساتي وتهدئتي وعرض علي آخر السجائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...