شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حين جمع السوريون تبرعات لصالح الجيش... ظاهرة أمريكية في خمسينيات سورية

حين جمع السوريون تبرعات لصالح الجيش... ظاهرة أمريكية في خمسينيات سورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 13 يناير 202202:21 م

في مطلع الألفية، انتشر مفهوم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" (Corporate Social Responsibility) في المجتمعات الغربية، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية. أساس الفكرة تعود إلى سنة 1953، عندما وضعها الاقتصادي الأمريكي هاورد بوين، وهي قائمة على مساهمة الشركات الكبرى في بناء المجتمع، وقد تبنتها مؤخراً شركات عملاقة مثل مايكروسوفت وديزني وكوكاكولا.

ولكن وقبل ذلك بسنوات طويلة، ظهرت حالة مشابهة في سورية في منتصف الخمسينيات، عندما دُعي المجتمع التجاري والصناعي للمساهمة في نهضة الجيش السوري. كان هذا الجيش يومها يعتبر عمود الدولة السورية الحديثة، وكانت تقويته وتطويره مطلباً شعبياً، بهدف "حماية الاستقلال وتحرير فلسطين".

لم يكن الرئيس شكري القوتلي قد سمع بمفهوم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" عندما دعا إلى إقامة "أسبوع التسلح" في سورية.

أُلِّفت لجنة تحضيرية للمشروع، ضمت وزير الدفاع رشاد برمدا، وأمين سرّ "الأسبوع" نصوح بابيل (صاحب جريدة الأيام)، ومعهم مفتي الجمهورية الدكتور أبو اليسر عابدين، ورئيس مجلس إدارة الشركة الخماسية بدر الدين دياب، ومديرها العام عبد الهادي الرباط، ورئيس مجلس إدارة شركة السكر، حنين صحناوي، وعضوي مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، بدر الدين الشلاح، ونائب دمشق فخري البارودي، والمحامي رياض العابد، إضافة إلى مؤسس مشروع مياه عين الفيجة الرئيس لطفي الحفار.

في منتصف الخمسينيات، عندما دُعي المجتمع التجاري والصناعي للمساهمة في نهضة الجيش السوري. كان هذا الجيش يومها يعتبر عمود الدولة السورية الحديثة، وكانت تقويته وتطويره مطلباً شعبياً، بهدف "حماية الاستقلال وتحرير فلسطين"

قررت اللجنة إنشاء إذاعة خاصة لأسبوع التسلح، تبث يومياً من داخل أسوار دمشق القديمة، لتكون مسؤولة عن تحفيز الناس ونقل مجريات حفل الافتتاح على الهواء مباشرة من مدرج جامعة دمشق، الذي حدد تاريخه يوم 10 كانون الأول 1955.

دور البنوك والمصانع والشركات

دعا الرئيس القوتلي مدراء البنوك والشركات الكبرى في سورية إلى مكتبه، وطلب منهم التعاون مع لجنة أسبوع التسلح وتسهيل مهماتها في كافة القطاعات الاقتصادية. عُقد اجتماع عاجل في شركة الإسمنت برئاسة رئيس مجلس الإدارة، الحاج أمين دياب، الذي خاطب الأعضاء قائلاً: "الشركة تتبرع بثلاثين ألف ليرة سورية".

اقترح أحد الأعضاء أن يكون المبلغ خمسين ألفاً، وتتالت الاقتراحات لتصل إلى 125 ألفاً، فتكلم نصوح بابيل قائلاً: "إن شركة الإسمنت عنوان نجاح الشركات الوطنية، وهي إمام الشركات، فالمبلغ الذي تتبرع به سيكون قدوة للشركات المماثلة، ويتأثر به ما دونها من الشركات". أجابه فخري البارودي، بصفته عضواً في مجلس الإدارة: "أنا مع الأخ نصوح، فالحمد لله، إنّ الشركة تربح ولا نعرف بحسنة من تنجح وتربح. وهذا المال على كل حال يذهب إلى جيشنا وأبنائنا المرابطين في الحدود لحمايتنا والدفاع عنا. فيجب ألّا نبخل في هذا السبيل".

قرر المجلس أن تكون حصة شركة الإسمنت 200 ألف ليرة سورية، وبالفعل شجّعت بقرارها بقية الشركات الكبرى، فقدّمت كلاً من الشركة الخماسية وشركة السكر 200 ألف ليرة أيضاً، ليصل مجموع تبرعات الشركات الثلاث إلى 600 ألف. وجاءت بعدهم شركة المغازل والمناسج في دمشق بستين ألف ليرة، وشركة صنع الزجاج بثلاثين ألفاً.

لم يكن الرئيس شكري القوتلي قد سمع بمفهوم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" عندما دعا إلى إقامة "أسبوع التسلح" في سورية

أما مصرف سورية ولبنان (الذي سبق مصرف سورية المركزي) فقدّم 150 ألفاً، وبنك مصر - فرع دمشق تبرّع بأربعين ألف ليرة سورية. كانت أقصى التوقعات أن تصل قيمة التبرعات بنهاية الأسبوع إلى خمسة ملايين ليرة سورية، ولكن أمين سر المشروع نصوح بابيل قال لأعضاء اللجنة: "إذا كانت تقديراتنا للحصيلة لا تتجاوز خمسة ملايين، فالأفضل ألّا يكون هناك أسبوع تسلح".

يوم الافتتاح

في يوم الافتتاح بدأت التبرعات بالرئيس القوتلي نفسه، الذي قدم عشرة آلاف ليرة سورية إلى أسبوع التسلح، وتلاه الوزراء والنواب الذين تبرعوا براتب شهر كامل. ثم قدم رئيس مجلس إدارة البنك العربي، عبد الحميد شومان، 250 ألف ليرة سورية، ما أثار إعجاب الحاضرين. وكانت أجهزة الهاتف الموضوعة على المنصة لا تتوقف عن الرنين، فجاء اتصال من أحد أبناء دمشق، واسمه فريد كحالة، وهو مغترب في أميركا، خاطب الحشد قائلاً: "أكلمكم من سرير المرض، وكم كنت أتمنى لو قُدّر لي أن أشترك في هذه الحفلة الوطنية الكبرى.

أما وإن ذلك لم يتحقق، فأرجو قبول تبرعي لأسبوع الكرامة والمجد بمبلغ 30 ألف ليرة سورية". وقف شاب في مؤخّرة المدرج يدعى إحسان حجّار، وتقدم نحو المنبر وطلب إلقاء كلمة. أُذن له فقال: "لقد جمعت مبلغاً بسيطاً لأشتري به دواءً لابنتي الصغيرة المريضة، ولكنني الآن أفضّل أن أتبرع به لأسبوع التسلح، ولئن ماتت ابنتي أفضل بكثير من أن تموت أمتي". أخرج من جيبه خمس ليرات سورية وقدمها إلى اللجنة.

دعا الرئيس القوتلي مدراء البنوك والشركات الكبرى في سورية إلى مكتبه، وطلب منهم التعاون مع لجنة أسبوع التسلح وتسهيل مهماتها في كافة القطاعات الاقتصادية

نهض عدة أطفال من بعده بتشجيع من آبائهم وقدم كل واحد منهم حصالة نقوده إلى لجنة التبرع، آخرهم طالب من مدرسة طارق بن زياد، أبكى الحضور بقوله: "إنني ما زلت صغيراً ولا أستطيع أن أثأر لأبي الشهيد سليم القنواتي الذي استشهد في فلسطين، لكنني أملك في علبة التوفير 51 ليرة سورية أقدّمها الآن إلى أسبوع التسلح، وفي القريب العاجل سأحمل السلاح للثأر بنفسي لوالدي!".

دخل إلى القاعة عدد من المرضى من المشفى الوطني المجاور، ومعهم أربطتهم وأضمدتهم، وكانوا يتابعون مجريات الافتتاح عبر الإذاعة، وتبرّع كل واحدٍ منهم بخمس ليرات سورية.

جاء بعدها طالبات مدرسة التمريض من جامعة دمشق وتبرعت كل واحدةٍ منهن بعشر ليرات ومعهم مجموعة من الطلاب العرب المقيمين في سورية، فتقدم طالب تونسي بخمسة وعشرين ليرة سورية، وآخر عراقي بخمسة عشر ليرة سورية، وواحد لبناني بثلاثين ليرة. تلاهم عدد من السيدات يخلعن حليهم وأساورهم وخواتمهم ومجوهراتهم، ليقدموها إلى لجنة التبرعات.

ثم جاء تبرع عبر الهاتف من رئيس بلدية غزة في فلسطين، بقيمة مئة ليرة سورية، وتقدم بطل دمشق بسباق الدراجات رمضان أديب وتبرّع بدراجته، وتلاه بائع حلاوة يدعى "أبو سعيد" الذي قدم غلّة نهاره للمشروع، ومجموعها عشرون ليرة سورية، كما تقدم رجال عشيرة الحديدين برأس من الغنم من كل فرد، وقدموها لأسبوع التسلح.

آخر تبرعات اليوم الأول كانت من حكومة مصر، قيمتها 500 ألف جنيه، ومن الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً الذي تبرع براتب شهر كامل لصالح الجيش السوري

ومن اللفتات الجميلة أيضاً كانت مبادرة أحد موظفي وزارة الداخلية، واسمه خالد عمر باشا، الذي تبرع بنسبة 15% من راتبه لمدة سنة كاملة.

في منتصف الحفل، خاطب نصوح بابيل الحضور قائلاً: "مواطن دمشقي فاجأني صباح هذا اليوم بما سأفاجئكم به الآن. قال لي: يا صديقي، أتريد أن أقوم بواجبي بمناسبة أسبوع التسلح؟ وذلك بتقديم مبلغ كم كنت أتمنى لو أن الحال تساعدني على أكبر منه لما ترددت.

غير أن هذا المبلغ يتوقف على شرطين: الأول أن تكتم اسمي، وأن تُقسم لي على ذلك بالله العظيم. والثاني أن تضع الإيصال الذي يؤخذ من لجنة التسلح بالمبلغ في مغلف تحُكم إغلاقه وتُبقيه لديك حتى إذا كان عمرك أطول من عمري سلّمته بشخصك لورثتي أو أن توصي ورثتك بأن يسلموه لورثتي. وليس لي من وراء ذلك إلا أن نترك لأبنائنا أثراً طيباً يقتفونه، وعملاً صالحاً يجرون على غراره".

سلَّم الرجل مغلف مغلق للجنة التسلح، فيه خمسون ألف ليرة سورية، كتب عليه "متبرع مجهول". أكمل بابيل قائلاً: حيّاك الله أيها المتبرع المجهول، وأحسن إليك بقدر ما أحسنت إلى وطنك وجيشك وسمعة بلادك". تعالت صيحات "الله أكبر"، وعلّق الرئيس القوتلي: "إن شعباً يضمّ رجلاً يتبرع بخمسين ألف ليرة ويكتم اسمه شعب لا يقهر". في مذكراته المنشورة في الثمانينيات أفصح نصوح بابيل، المتقاعد يومها، عن اسم هذا المتبرع المجهول، وهو عبد الهادي الرباط، الصناعي الكبير وأحد مؤسسي الشركة الخماسية.

كان من المفترض أن يستمر حفل الافتتاح من الساعة الرابعة عصراً وحتى الثامنة مساءً، ولكنه مُدد إلى منتصف الليل بسبب الإقبال الشديد.

آخر التبرعات في اليوم الأول كانت من حكومة مصر، قيمتها 500 ألف جنيه، ومن الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً الذي تبرع براتب شهر كامل لصالح الجيش السوري. افتتحت بعدها التبرعات في سائر المدن السورية، وقدّم تجار حلب وحدهم ثلاثة ملايين ليرة سورية، أوصلت المجموع النهائي من التبرعات إلى خمسة وعشرين مليوناً، وضعت كلها في حسابات مصرفية قبل تحويلها إلى خزينة الجيش السوري.

كان سعر الصرف يومها (2،20 ليرة سورية  = 1 دولار أمريكي) أي أن قيمة تبرعات أسبوع التسلح كانت تعادل 11.3 مليون دولار أمريكي، وهو رقم فلكي بالنسبة لسورية سنة 1955.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image