شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل أشكر سائق السرفيس عندما أنهي رسالة الماجستير؟

هل أشكر سائق السرفيس عندما أنهي رسالة الماجستير؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 25 أبريل 202209:24 ص

تستطيع أن تكتشف أو أن تستشعر مستقبلك منذ تخرجك من الجامعة. وكأي مهندس يتخرج في بلدي ويعلم في قرارة نفسه أنه من الطبقة الفقيرة التي سُحقت تقريباً في زمن الحرب، تستطيع أن تدرك أن مستقبلك غير موجود.

يحاول الفقراء دائماً الدفاع عن طموحاتهم، ويعتبر هذا التحدي سيرورة الحياة. بمعنى آخر، يكون الفقير هو البطل في تلك المسرحية لكنه بطل مسحوق يموت في النهاية، على خلاف الأفلام العربية التي اعتاد آباؤنا حضورها. المضحك المبكي أننا واكبنا المسلسلات التركية، لذلك سنبقى نعيش في الأحلام الوردية.

لم يسدِ لي أحد معروفاً بقدر سائق السرفيس، فهل أستطيع يا ترى أن أشكره في صفحة الشكر عندما أنهي رسالة الماجستير؟ 

ذات يوم وقفت وصرخت: لماذا يا أمي؟ لماذا قلتِ لي في اليوم الأول من عامي الدراسي في كلية الهندسة المعمارية إنني هنا سأحقق أحلامي؟ لا أزال أذكر كيف كنتِ تبتسمين وترسمين لي طريقاً من الحرير. كنتِ تقولين: "تدرسي تنجحي. تتخرجين وتعملين وتشترين السيارة التي كانت حلم العائلة الفقيرة، وتأتين إلى البيت تأخذيني معك في نزهة".

كم هذا جميل يا ماما. في تلك اللحظات أحسست أن الحياة تستطيع أن تعطي المدينة حياةً عادلة. أمي لا تكذب، أمي لا تكذب. نعم أمي لا تكذب.

تخرجت وعرفت أن الحياة ليست عادلة وأن الألوان ليست فعلاً ملونة. أسكن في بلدة تبعد عن مكان عملي حوالى ثلاثة أرباع الساعة، ولكنها تعادل مئات اللحظات وأنا أنتظر السرفيس. كل الناس تريد مغادرة ديارها في الوقت نفسه من اليوم. حشود كبيرة تنتظر السرفيس، وأنا أقف وحيدة. أحاول جاهدة تذكير نفسي بأنّي تلك الطالبة المجتهدة المهندسة حالياً. لماذا لم يقل لي أحد إن العمارة للأغنياء؟ لا أستطيع فتح المكتب الخاص بي. اضطررت للعمل موظفة في الحكومة براتب لا يغطي رحلة الذهاب والإياب من بيتي إلى العمل. كما أنّي أدرس الماجستير في مدينة أخرى أسافر إليها دائماً. لطالما تذكرت أغنية فيروز: "أهلي ندروني للطرقات".

ذات يوم وقفت وصرخت: لماذا يا أمي؟ لماذا قلتِ لي في اليوم الأول من عامي الدراسي في كلية الهندسة المعمارية إنني هنا سأحقق أحلامي؟ لا أزال أذكر كيف كنتِ تبتسمين وترسمين لي طريقاً من الحرير

أضحك برغم الشدة. لا يوجد أمل للمحاولة في هذه الحياة مرات أخرى سوى الماجستير، فأنا الآن أعيش من أجله.

هل يستطيع الإنسان أن يسكن طريقاً يوصل بين ثلاثة أماكن في نفس الوقت؟ تتوالى السنون وأنا على هذا المنوال. أحاول، ومحاولتي كلها في سبيل دراستي، تارةً لأتذكر أنّي مهندسة، وتارةً لأتذكر أنّي إنسان. لا أعلم هل سبب الشقاء هو الحرب أو نقص المازوت لسيارات الأجرة، أو هو رغبة الناس بالعيش والعمل في المدينة، أو ربما هو الطموح.

أو ربما نستطيع القول، كما كُتب في كتاب القراءة في مرحلة الابتدائية، إنّ الكاتب قد نسب سبب شقاء الطفل المتشرد إلى القدر.

أحاول، ومحاولتي كلها في سبيل دراستي، تارةً لأتذكر أنّي مهندسة، وتارةً لأتذكر أنّي إنسان. لا أعلم هل سبب الشقاء هو الحرب أو نقص المازوت لسيارات الأجرة، أو هو رغبة الناس بالعيش والعمل في المدينة، أو ربما هو الطموح

في تلك السنوات، تنسى لبعض الوقت الأحلام الكبيرة التي حاولت دائماً اللحاق بها، فقد سقط سهواً موضوع شراء سيارة الأحلام. لا أدري هل هذا الموضوع هو الذي تخلى عني عندما رأى حالتي أو أنّه السباق مع الأيام، وانشغالنا في التفكير بكسب لقمة العيش.

ما يهم طبقتنا الفقيرة الطموحة، هو ألّا ترمقها بتلك النظرة المتحسرة، حاول، ثم حاول، ثم حاول، ربما في نهاية الأيام، سترمقها بنظرات مختلفة، لكنك ستقول: لقد حاولت.

هنا سنعلم أن الحياة لا تُبنى على تلك المعادلة الجميلة التي تكلمت عنها أمي. الحياة سلّم تستطيع صعودها بقفزة واحدة، أو درجة درجة، أو بأي شكل آخر. المهم، أو ما يهم طبقتنا الفقيرة الطموحة، هو ألّا ترمقها بتلك النظرة المتحسرة، حاول، ثم حاول، ثم حاول، ربما في نهاية الأيام، سترمقها بنظرات مختلفة، لكنك ستقول: لقد حاولت.

عندئذ، ستتأكد أن تلك الرحلة اللعينة التي أدمت قلبك وسحبتك إلى الهاوية في بعض اللحظات، وأضحكتك في ثوان أخرى على أمرٍ صغير، لم تكن رحلة لتحقيق الأحلام أو المتطلبات التي توارثتها أحلام العائلة، كالجندي الذي يستلم العلم من صديقه الذي أصيب في الحرب. لا، ليست كذلك. هي رحلة للبحث عن نفسك فقط.

ماذا حدث؟ لماذا انقطعت سلسلة أفكاري؟ نعم لقد جاء السرفيس أخيراً.

جاء السرفيس، نعم، وسط الحشود. أحد ما يدفعني. عفواً، لقد علق جزداني. لحظة. ناداني السائق وحجز لي المقعد. شعرتُ بفرحة عارمة. لطالما كنت المفضلة لدى سائقي السرفيس، لصغر حجمي وضآلة وزني، ولأنهم يرونني باستمرار فأصبحوا يعرفونني.

على الأقل إنهم لاينكرون، هل تسمعين يا أمي؟ هم لا ينكرون!

الحياة لا تُبنى على تلك المعادلة الجميلة التي تكلمت عنها أمي. الحياة سلّم تستطيع صعودها بقفزة واحدة، أو درجة درجة، أو بأي شكل آخر

جلست وأنا أشعر بالامتنان. لن أتأخر عن الدرس المكلفة به في مرحلة الماجستير، لقد أنقذني.

أعود لأتذكر خلال رحلة حياتي من التخرج إلى الآن: لم يسدِ لي أحد معروفاً بقدر سائق السرفيس، فهل أستطيع يا ترى أن أشكره في صفحة الشكر عندما أنهي رسالة الماجستير؟ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image