شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في حضرة غياب إدوارد

في حضرة غياب إدوارد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 8 مايو 202203:00 م

كان لا بد لهذا المشروع، الذي من المُتوقّع أن يجوب العالم في الأشهر المُقبلة، أن تكون لحظته الأولى شاعريّة بعض الشيء، أو لم لا، مشهديّة، و"المُقدمة" كُتبت في نيويورك (كما هي الحال مع القصص الشاهقة بانفعالاتها)، منذ 3 أو 4 سنوات، حول وجبة الفطور.

عازفة الكمان والمؤلفة الموسيقيّة ليال شاكر، ومريم سعيد، زوجة الراحل الكبير إدوارد سعيد، تتبادلان الأحاديث الجانبيّة. ليال تضحك قائلة لمريم: "شوفي هذا المقال. كم هو مُضحك. وقد قال فيه الكاتب إنني كنت عضوة في الأوركسترا التي أسسها الموسيقي الكبير دانيال بارينبويم وعازف البيانو إدوارد سعيد. تصوّري يا مريم أن الكاتب وصف إدوارد بعازف البيانو". فشاركتها مريم ضحكتها وعلّقت قائلة: "ولكنه كان بالفعل عازفاً ماهراً ولكن قلائل الذين يعرفون عنه هذا التفصيل. وفي الواقع أملك العديد من التسجيلات في المنزل التي تُظهره وهو يعزف في حفلات وRecitals قدمها في جامعتي برينستون والجامعة الأميركية في بيروت. وبطبيعة الحال تستطيعين أن تستمعي إليها".

عازفة الكمان والمؤلفة الموسيقيّة ليال شاكر

عندما زارت ليال مريم في وقت لاحق وحصلت على التسجيلات التي لم تعرف الموسيقيّة الشابة أن مشروعاً ضخماً سينبثق منها: "اكتشفت أنني بالفعل كنت عضوة في هذه الأوركسترا التي أسسها إدوارد ودانيال، وتحمل اسم West Eastern Divan Orchestra. وكنت قد قرأت كتاب Parallels and Paradoxes الذي يرتكز على حديث بينهما. وفي الواقع، لطالما كان إدوارد سعيد جزءاً محورياً من حياتي الموسيقية، منذ أن فهمت الصلة بين الموسيقى والسياسة، واقتناعي بدوري المحوري كموسيقية في المجتمع، من التفاصيل التي اكتسبتها بفعل تعمّقي بفكره وعشقه للموسيقى. كنت أعرف أن الموسيقى تسحره، ولكنني لم أكن على يقين بأنه يعزفها أيضاً"، كما تروي لنا بين حفلة وأخرى حول العالم (ويُرافقها بطبيعة الحال شمس – شمّوسة، نجلها الصغير الذي تُرسل لي صوره وهو يحضر التمارين بتركيز قويّ).

كان إدوارد سعيد عازفاً ماهراً ولكن قلائل الذين يعرفون عنه هذا التفصيل. كان يعزف بحب. الموسيقى ليست مهنته. عزفه كان ينبع من الحب...

ومريم سعيد هي بطبيعة الحال، المؤتمنة على أعمال زوجها الذي يُعتبر من أكثر المُفكرين احتراماً في العالم العربي، وهي تُشرف على "أكاديميّة بارينبويم – سعيد" التي انطلقت فكرتها  في العام 1999، بعدما أقام الأرجنتيني/الإسرائيلي المؤيد للسلام والتفاهم مع الفلسطينيين، دانيال بارينبويم، والفلسطيني/الأميركي إدوارد سعيد (العقل الرهيب خلف عمل "الاستشراق") محترفاً في مدينة رام الله الفلسطينية، لمساعدة الموسيقيين العرب الشباب ودعمهم. وفي نفس العام، أسس الصديقان أوركسترا أطلقا عليها اسم The West – Eastern Divan Orchestra.

وفي العام 2016، أبصرت الأكاديمية/الحلم النور، وإدوارد سعيد لم يكن حاضراً بعد أن غيّبه الموت قبل 13 عاماً، ولكن مريم أخذت على عاتقها الاهتمام بأدق التفاصيل فيما يتعلق بأعمال زوجها وأحلامه التي لم يتمكّن من أن يُنهيها. وكان المفكر الراحل قد قال في مقابلة إن مريم هي ركيزة العائلة، ويُقال إنها كانت تتفهّم مزاجه وانضباطه الصارم في العمل، هو الذي عشق في الموسيقى شوبرت وباخ وغلين غولد.

مشروع في "حضرة الغياب" 

وبفضل وجبة الفطور الشهيرة في نيويورك، وُلد مشروع En Presence De L’Absence (عن كتاب محمود درويش "في حضرة الغياب") الذي عُرض للمرة الأولى في 20 آذار/مارس، بدعم من المورد الثقافي، في مهرجان Detours De Babel القائم في مدينة غرينوبل (جنوب شرق فرنسا). وفيه لمحة عن موسيقات العالم، ويستمر طوال 3 أسابيع في ما يُقارب 40 فُسحة ثقافية، وتُقام فيه أكثر من 80 حفلة واستعراض في 20 بلدة.

وفي هذا المشروع الضخم تُلقي ليال شاكر التحيّة للرجل الذي فتنها بإصراره على استخدام الموسيقى في خدمة المجتمع.

 وعلى خشبة المسرح، انصهرت التسجيلات الحصريّة التي تُسلّط الضوء على الشق الحساس من شخصيّة سعيد مع مؤلفات ليال، أضيف إليها مُقتطفات من خطابات للراحل. وأطلت شاكر على خشبة المسرح مع موسيقيين من مختلف أنحاء العالم، وأشرفت يمنى سابا على التصميم السمعي.

عندما زارت الموسيقيّة ليال شاكر زوجة إدوارد سعيد، وحصلت على تسجيلاته الموسيقية التي لم تكن تعرف أن مشروعاً ضخماً سينبثق منها. مشروع ستُلقي فيه شاكر التحيّة للرجل الذي فتنها بإصراره على استخدام الموسيقى في خدمة المجتمع

تروي لنا ليال بصوتها الخافت والأنثوي، أنها في ذلك النهار الذي حصلت فيه على التسجيلات التي تُظهر إدوارد سعيد من زاوية مُختلفة: "وصلت إلى المنزل وبدأت أشاهد الـDVD. كان سعيد يتمرّن على سوناتا مُخصصة لآلتي بيانو. وكان مع الموسيقي الثاني يعزفان سوناتا لشوبرت في مقياس الF Minor".

تأثرت الشابة كثيراً عندما شاهدت التمرينات التي قدمتها لها مريم: "نظرت إلى إدوارد وتأثرت جداً جداً. شعرت بما يُشبه الهشاشة والحميميّة والواقعيّة في إطلالته في التسجيلات. وكأن هذا الإدوارد الذي نعرفه كجمهور، هذه الشخصيّة العامة، هذا الرجل العبقري والقوي، هو مُختلف عن الرجل الذي جلس بتواضع مُطلق أمام الآلة، أمام الموسيقى، يقرأ النوتات الموسيقيّة، وكأنه يخاف أن يُخطئ. هذا الخوف المُحبب في عينيه وهو يُقلّب الصفحات (عتلان هم) الشق التقني. عازف هاو وبارع، لكنه ليس موسيقياً محترفاً".

تفاعلت ليال مع اللمسة الحقيقية في عزف الراحل الكبير: "كان يعزف بحب. الموسيقى ليست مهنته. عزفه كان ينبع من الحُب. عشق الموسيقى، وشعرتُ بأنني تأثرت كثيراً. وللحظة، طرحت على نفسي السؤال التالي: كيف أعزز هذا الشعور؟ كيف يُمكنني أن أنقل هذا الإحساس لأكبر عدد من الناس؟ كيف أستطيع أن أتشاطر هذا الشعور الذي انتابني مع الآخرين ليشمل خشبة المسرح؟ وبعدا صرت فكّر، وفكّر، وفكّر".

كانت ليال لا تعرف ما إذا كانت هذا التسجيلات ستحيا مُجدداً، وإذا ما كانت ستُصبح عنصراً حياً، والسؤال الذي هيمن على أفكارها كان التالي: "كيف أستطيع أن أعيد إحياء هذه التسجيلات؟".

تُعلّق ضاحكة: "رحتُ أتخيّل الأمور، طبقة فأخرى. تخيّلتُ نفسي وأنا أعيد مُعالجة هذه التسجيلات متوسلة التقنيّة الإلكترونيّة والتكنولوجيا بطريقة حديثة. أردتُ أصواتاً جديدة أن تخرج من التسجيلات، وكأنني أتلاعب بها. هذه التسجيلات الأقرب إلى مادة أوليّة حلمتُ بجعلها تتفاعل مع موسيقيين يعزفون مباشرةً على خشبة المسرح. كتبتُ مقطوعة موسيقيّة لرُباعيّة وتريّة أنا جزء منها، تتفاعل مباشرة مع هذه التسجيلات التي تُظهر سعيد وهو يعزف على آلة البيانو".

بالإضافة إلى تفاعل الرُباعيّة مباشرةً مع آلة بيانو لا يجلس عليها أحد، تتوسّط الخشبة: "تخيّلتُ نفسي أجلس مع الموسيقيين حول آلة البيانو الوحيدة (وصفتها بالعاميّة بالفاضية) التي ترمز إلى حضور سعيد الغائب. ومن هنا المقولة الأولى لمحمود درويش (في حضرة الغياب)، وفي هذه الحالة، غياب إدوارد".

وعملت ليال كثيراً مع يمنى سابا على الأنغام الإلكترونيّة، فإذا بالحلّة الموسيقيّة النهائيّة، رباعيّة وتريّة تنصهر مع الموسيقى الإلكترونيّة على الخشبة، وتنساب في إتجاه إدوارد سعيد الذي يترنّح خلف البيانو في التسجيلات.

تضيف شاكر: "عادةً عندما تعزف فرقة موسيقيّة حول آلة بيانو كبيرة (A Queue)، تُصدر أوتار الآلة أصداءً أو ترنّ وإن كان لا أحد يعزف عليها. وهذه الزاوية من المشروع أضفناها أيضاً ووضعنا ميكروفونات بالقرب من البيانو ليتمكّن المشاهد من أن يسمع الأوتار وهي تتحرّك وتُصدر أصداء ورنيناً. على الرغم من أن لا أحد يعزف على الآلة، ونحن نعزف حواليها".

وليكون للمشروع زوايا مُختلفة تجعله أكثر ثراءً، أضافت إلى التسجيلات، مُقابلات أجرتها مع بعض الذين أثّر فيهم إدوارد سعيد، بمن فيهم مريم: "أكيد مريم على اعتبار أنها كرّست حياتها لنشر رسالته ومشروعه الموسيقي على وجه التحديد. ثمة مدارس تحمل اسمه في فلسطين تُشرف عليها. وأخيراً أنشأت مدرسة جديدة تحمل اسمه واسم دانيال. كما أن الأوركسترا التي أسساها مُستمرة بفضل مريم. كما قابلت ابنته، نجلة، الروائيّة والممثلة. تحدثتُ أيضاً إحدى طالباته في جامعة كولومبيا التي أصبحت بدورها الآن أستاذة جامعيّة. وكان لي وقفة مع أستاذة في الأنثروبولوجيا درّست أيضاً الاستشراق كمادة. أردتُ الدردشة مع أشخاص يُريدون أن يُحافظوا على إرثه".

في المشروع الذي ننتظر بفارغ الصبر أن ينتقل إلى مختلف البلدان، نستمع إلى صوت إدوارد وصوت محمود درويش وهو يُلقي قصيدة "طباق" التي كتبها الشاعر أثر وفاة إدوارد.

هي قصيدة طويلة بدون شك ولكنها بغاية الجمال. ولتُنجز المشروع بأسلوب أنيق، استعانت ليال بموسيقيين مُتخصصين في الموسيقى الكلاسيكيّة، من لبنان وإسبانيا ومصر ولاتفيا.

 مريم سعيد لم تستمع بعد إلى المشروع/التحيّة ولكنها "على علم مُطلق بكل خطواته. وآمل أن ينتقل المشروع حول العالم. وهو بكل تأكيد لا يُشبه أي مشروع عملتُ عليه سابقاً. كنت سعيدة للغاية لأن المهرجان وثق بي وأعطاني كامل الموافقة لأخوض تجربة لم أقم بها سابقاً".

المشروع مُرفق بكُتيّب صغير ينطوي على حوارات أوسع مع الذين عايشوا إدوارد بطريقة أو بأخرى.

"في حضرة الغياب" مُوِّل من قبل مورد للثقافة ومفردات، كما "حصل على دعم من العالم العربي، وهذا يعني لي الكثير. لأنه سمح لي أن أركز على إنجازه برؤية كاملة خلال السنة ونصف السنة الأخيرة". من المتوقع أن يتم تسجيل المشروع في إطار ألبوم، وتُريد ليال أن يُرافقه كتاب يُشبه إلى حد بعيد المشروع الذي تصفه بأنه "ليس قطعة موسيقية واضحة أو مباشرة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image