هذه المقالة جزء من مشروع (جال) الذي يتعاون فيه "رصيف22 " وعدد من المنصات المستقلة في العالم العربي مع جامعات وأكاديميات حول العالم لنشر جهود الباحثين/ات الشباب وتقديمها للقارئ العربي، للإضاءة على المفاهيم البحثية، والمقاربات الجديدة التي تنتجها المؤسسة العلمية، وذلك لإغناء المحتوى العربي، وتشجيع الباحثين/ات الشباب على إطلاق أفكارهم/ن خارج الجدران الأكاديميّة.
يرتعد الجندي الأمريكي، مطلع الألفية الثالثة، حين يمشي على الأرض التي جاء لتحريرها، كوابيس الفلوجة ودمى الأطفال المتفجرة، والجثث الملغمة في كابول، تلاحق نهاره وليله حين يعود إلى "وطنه"، آثار اضطراب ما بعد الصدمة PTSD ما زالت مستمرة إلى الآن حتى بعد انتهاء زمن "خدمته"، فالجنود مكروهون من قبل أولئك الذي فرضت عليهم الديمقراطيّة بشاحنات الـHummer وبنادق الـM16. أما الضحايا الأبرياء اللذين يسقطون إثناء العمليات "النوعيّة" للقوات الأمريكية الخاصة، فهم "أضرار جانبيّة"، أما من يقتلون بناء على الشبهة فهم "Insurgents" كلمة لا تحدد العدو من الصديق، بل تشير إلى شبهة في أعين الجندي، قتل إثرها من اشتبه به، هذا إن تجاهلنا هجمات الدرون التي لا تميز بين الراعي وبين حامل الـRPG.
الجندي الأمريكي مدرّب بصورة مذهلة، ينفذ الأوامر والعمليات النوعيّة أمام أعين الرئيس، أي رئيس، يشاهد من مركز العمليات في البيت الأبيض، إنساني في بعض الأحيان، قد ينقذ طفلاً قتلت عائلته "بالخطأ"، الصورة التي تتكرر في الأفلام الهوليووديّة، الجندي الأمريكي لا يحمل أيديولوجيا، هو إنسانوي، يدخن سجائر اللاكي سترايك، ويحول قاعدته إلى حصن داخل المدينة التي يسيطر عليها.
في ذات الوقت، هو ضحية كحالة الذين نشر بينهم الديمقراطيّة، فأعداء الحرية في كل مكان، يختبؤون في الجبال وفي المنازل بين المدنيين، لكنه حفظ الدرس من فيتنام، لا يجوز إحراق "الجميع" وقصفهم بالنابالم، الحرب الجديدة أكثر إنسانويّة، والجندي الأمريكي يمثل الوعد بالحرية وإسقاط النظام الديكتاتوري وقامع النساء، وفتح الباب أمام المشاركة الجماهيرية في الحياة السياسية.
هذه السرديّة تنتشر على ألسنة السياسيين وفي الأفلام الهوليووديّة، وادعاء أن الجندي الأمريكي هو الأفضل والأكثر قدرة تكنولوجياً تقال علناً وجزء من الخطاب الرسميّ، هو "الجندي الذي يدخن المالبورو" لا الحارس الذي يذل ويبول على المساجين في أبو غريب.
الملفت أن هذا الجندي بحاجة دوماً لمترجم، يعجز عن التواصل مع "السكان المحليين"، هم دوماً يسيئون الفهم، ينفذ مهمتهم ولو عنى ذلك قتل رب أسرة للاشتباه به، فالوعد بالديمقراطيّة لا يعرف أسرة ولا قرابة، تلك الفئة التي يقدر بعض أفرادها فقط جهود "الأمريكان"، خصوصاً المتعاونين الذين يجدون أنفسهم بين نارين، الوعد بالكرت الأخضر حين انتهاء الغزو أو انتقام موعود من قبل الأقران بسبب التعامل مع "العدو"، مع ذلك الجندي الأمريكي لا يتدخل في التغيير السياسي، منظمات المجتمع المدني هي من تنشر القيم، وتوزع المساعدات، وتكسي الأطفال الذي فقدوا أسرهم.
صورة الآخر مهملة في الحكايات الأمريكيّة منذ الخمسينيات، هو جندي غير مؤدلج، بطل، ينفذ المهمة فقط، يخسر في فيتنام ويهدد سمعة المؤسسة العسكرية، بعكس نظيره، السوفيتي سابقاً، الأديولوجيّ، المحمل بالأفكار التي ينقلها بنفسه إلى الآخرين، الشعوب التي لابد من تحريرها وزرع الثورة فيها. هذا الجندي نراه في أفلام المغامرات السوفيتية، تلك التي ترسم صورة العالم "الآخر" غير المتحضر، ذاك الذي لم تصله "الثورة"، فإن كان سكان أمريكا الأصليون هم "أعداء" رعاة البقر في الغرب الأمريكيّ، فـ"سكان شرق آسيا" هم "أعداء" الجنود الحمر، حاملي الثورة والتحرر والواقفين إلى جنب العمال والمقموعين في سبيل تحرريهم، فالبلاشفة يسعون لتحرير "الشرق" من متمرّديه ورجعييه، أعداء التطور وقامعي الشعوب.
أفلام المغامرات السوفيتية ترسم صورة العالم "الآخر" غير المتحضر، الذي لم تصله "الثورة"، فإن كان سكان أمريكا الأصليون هم "أعداء" رعاة البقر في الغرب الأمريكيّ، فـ"سكان شرق آسيا" هم "أعداء" الجنود الحمر، حاملي الثورة والتحرر والواقفين إلى جنب العمال والمقموعين في سبيل تحرريهم
تتضح معالم هذا الشرق في فيلم "شمس الصحراء البيضاء" المُنتج عام 1969 للمخرج Vladimir Motyl، الذي نتعرف فيه على رحلة الجندي الأحمر فيودور شوخوف، في أواسط آسيا بداية سنوات العشرين من القرن الماضي. شارك شوخوف في عدد من الحروب في الشرق إلى أن قادته خطاه إلى تركستان، وهناك في مدينة متخيّلة لا أصل لها، يجد نفسه بمواجه "عبد الله الأسود"، قاطع الطرق ذي الحريم الـ9، والذي من أجل الحفاظ على سطوته، يتعاون مع البيض، الثوار الذين رفضوا الحكم السوفيتي ويريدون الحفاظ على استقلالهم.
لن نقارن بين النوعين السينمائيين، الشرق الروسي والغرب الأمريكي، بل سنبحث في الشرق الروسي نفسه عن الصورة الغرائبيّة لهذا الشرق، بأجناسه وشعوبه المختلفة، والتي تتضح ما إن نلقي نظرة على الشخصيات التي تختلف عن شوخوف بداية بشكلها، فالجندي الأحمر أبيض وأشقر وذو عيون زرقاء، أنيق دوماً، يؤنسه في ترحاله طيف حبيبته كاترينا، وطوال الفيلم، وعبر صوت الراوي، نسمعه يحدثها، إذ تراوده في أحلامه ويقظته، تمشي في حقل أخضر وتنظر موعد عودته.
هذا الدرب الذي يقطعه شوخوف يُرسم في شارة الفيلم كخط أحمر، مستقيم، واضح، فالجندي الأحمر لا يضيع، حتى لو كان يمشي في اللامكان بين كثبان الصحراء المتشابهة، روح الثورة وحلمه بالوطن يقودانه دوماً مهما واجه في الطريق من عقبات، بعد أن "انتهى الصراع الطبقي وحانت ساعة العودة إلى المنزل"، كما يقول في بداية الفيلم.
المرأة في الشرق
إن كان أبطال أفلام الكاوبوي ذوي محبوبة واحدة تنتهي حكايتهم معها بقبلة، فالجندي الأحمر ذو حبيبة تنتظره في المنزل بعد ترحاله الطويل، وهنا تتضح مفاجأة شوخوف حين يتعرف على الحريم الـ9 التابعين لعبد الله "الشرير"، اللاتي ما إن تقع أعينهن على شوخوف، حتى يُعلنّ أنه زوجهن الجديد، ويأسرن أحلامه في لحظة المواجهة، ليقدم لنا شوخوف متخيله عن "حريمه الأحمر"، ذاك الذي ما يلبث أن يتلاشى، فهو ذو معشوقة واحدة يشاركها العمل، أما الرغبة بالحريم فليست إلا رواسب من الماضي، فهن الآن "رفيقاته" حتى لو لم يقبلن بذلك.
يسعى الجندي الأحمر لتحرير "الحريم" وتحويلهنّ إلى "رفيقات" ذوات حقوق متساويّة مع الرجال
خارج حلم شوخوف، أي في "الوقع"، المرأة (الشرقية) ترتدي البرقع، لا وجه لها، تتكشف فقط أمام "الزوج"، سواء كان عبد الله أو شوخوف، فالزوج هنا السيّد لا الرفيق، أما هن فمن وجهة نظرهنّ، سواء كن تحت إمرة عبد الله أو حماية شوخوف، لسن إلا متاعاً، سلعاً بانتظار أن يحملها أحد، بل إن إحداهن تستغرب من الأخلاق الجديدة، تلك التي تضعها في موقع الطفلة ذات 15 عاماً والتي لا تصلح لأن تكون زوجة.
أما الصدمة الأكبر فهي اكتشاف النساء أنه في ظل "الأخلاق الجديدة" لا يجوز لرجل واحد أن يكون له أكثر من امرأة واحدة، يساعدها ويحبها، هي رفيقة الدرب والعاملة ومدللة الأحلام، بل نقرأ بوضوح في إحدى اللافتات، حيث اختبأ شوخوف والحريم من عبد الله، ما يلي: "لا للحقد، المرأة أيضاً إنسان".
شعارات التحرر والروح الثورية التي نسمعها على لسان الجندي تغذي عقول النساء، لكن دون أي فائدة، فهن "عاملات" يعددن المهام التي يقمن بها ويرونها سبب وجودهن، وما إن تقع أعينهنّ على عبد الله حتى يهرعن إليه بوصفه السيد، الذي قرر في عدة مرات قتلهن جميعاً دون أن يهدد ذلك ولاءهن ،بل إنه قتل واحدة منهن قرب النهاية كي يتنكر بزيّها، فلا اختلاف على صورة الحريم أبداً، هي مرسخة وواضحة وكأن الشرق يحوي الحريم/ الأغراض فقط، هن كتلة واحدة مطيعة، أما البلاشفة فلهم الرفيقات/ العاملات، اللاتي يعشن باسم الحب لا الشبق والغواية.
لابد من الإشارة إلى النص الأصلي للفيلم كان يحوي فقرة ختاميّة كان من المفترض أن تظهر على الشاشة، مفادها أن شوخوف التقى في ترحاله لاحقاً "الحريم" اللاتي حررهن، لكنهن هذه المرة، يعملن على بناء جسر اسمنتي فوق قناة ما.
البطل الفرد روح الثورة
يُمثل الجندي الأحمر شوخوف، قرين الكاوبوي، نموذجاً للرجل الواحد القادر على حل كل المشاكل، فهو يعطي الدروس الأيدولوجية، وينصح الرفاق، هو محنك في القتال وصاحب مهارات قادر على مواجهة كل الصعاب، ويتمكن من الفرار مهما تعرض للأسر، دبلوماسي، واع بمسيرته ورحلته على "الخط الأحمر"، أحلامه بسيطة وفي متناول اليد، فبعد كل الحروب التي خاضها، لا بد من استراحة. هو ليس جندياً عادياً، بل وحسب قوله: "جندي واع بالصراع الطبقي"، والأهم، يُميز الأعداء والأصدقاء بدقة، "يتملك المعرفة بالشرق"، ذاك "الإشكاليّ" الذي لا بد من مراعاة خصائصه، فكل جندي أحمر ثورة بوجه جموع البيض المتمردين والبرابرة، ورسالته واضحة يقولها للحريم الأضعف في الفيلم: "رفيقاتي النساء! الثورة حررتكن، لا سيد لكنّ، نادوني برفيق".
يُمثل الجندي الأحمر، قرين الكاوبوي، نموذجاً للرجل الواحد القادر على حل كل المشاكل، فهو يعطي الدروس الأيدولوجية، وينصح الرفاق، هو محنك في القتال وصاحب مهارات وقادر على مواجهة كل الصعاب
أخلاق الشرير
لكنّ، من هو عبد الله؟ زعيم عصابة متعددة الجنسيات "آسيويين، قوقاز، قوزاق وبعض البيض"، وبالطبع مسلم، إذ يردد لأسيره: "الله قال، اركب حصانك وخذ ما شئت"، لا يتضح مصدر هذا الكلام ( قرآن أم حديث)، لكن ما يمكن قراءته، أن عبد الله يتحلى بأخلاق البداوة، أي أخلاق ما قبل الإسلام ربما، إذ لا أرض ثابتة تحته، مقاتل رحّال، ينهب ما يراه وعلاقاته قائمة على أساس المصالح، وخلاصه بركوب البحر والرحيل.
عبد الله سيد حريمه حتى لو أسر أو ضرب أو تحررن من سطوته، دموي إلى حد أنه قادر على نسف نسائه وحرقهم كطعم من أجل فراره، عارف بالصحراء، لا يضيع، قد يقع في كمائن لكنه خبير بالكثبان، ويتمكن في كل مرة من الفرار إلى حين يقتله سوخوف في مواجهة بينهما، وهنا يمكن أن نقرأ العلاقة بين الجندي الأحمر وعبد الله، الأول يقوده الوعد بالحرية والثاني العبوديّة، ومهما كان عبد الله مخادعاً وحذقاً فلا يمكنه الصمود أمام سطوة الجندي الأحمر الذي تقوده الثورة لا الرغبة بالتملك.
المتحف والثقافة المحليّة
يجد شوخوف نفسه بداية الفيلم في متحف سبق للسوفييت أن "حرروه"، ويعد حينها القيّم عليه بأنه سيحافظ على ما فيه ويحترم تقاليده، في رسالة مبطنة لشعوب الشرق، أن تحريرهم لا يعني القضاء على ثقافتهم المحليّة، بل توظيفها ضد الأشرار أنفسهم، كما نرى حين اختبأ شوخوف في إحدى العربات الأثرية ليوقع بعبد الله، الذي لم يتوانَ عن قتل أمين المتحف.
هذه العلاقة بين المحليّ و"البلشفي" تتحرك طوال الفيلم، إذ يريد الجندي الأحمر فقط قلب النظام الطبقي وتحرير الناس، لا القضاء على خصوصيتهم واستعبادهم، كما يفعل البيض وعبد الله الأسود، وهنا يظهر الشخص المثير للاهتمام، مسؤول الجمارك المنفي بافل، الذي راكم ثروة و رفض الانضمام إلى أي واحد من الأطراف المتصارعة بعد الحرب الأهليّة، والذي ينتهي به الأمر غرقاً في قاربه المحمّل بثروته، وهنا يتكشف الشرّ الأكبر في المكان، ذاك الذي يرفض الدخول في الصراع الطبقيّ ويقف على الحياد مكتنزاً المال، والذي قتل، ولو بصورة غير مباشرة، من قبل الجندي الأحمر.
بافل لا أخلاقي بالرغم من وقوفه إلى جانب شوخوف، ولا يشفع له تاريخه كجنديّ أحمر سابق، لا أخلاقيته هذه تأتي من كونه تخلى عن مبادئ الثورة ولاحق الثروة التي غرقت معه، والأهم كان المسؤول عن تأمين السلاح لـ"الثوار" ضد الحمر، هو لم يُقتل وجهاً لوجه، بل اختفى أثناء هربه في البحر، وكأنه كـ"خائن"، لا يستحق حتى شرف المواجهة.
الرقابة الحمراء
لابد أن نشير أيضاً أن الموقف الرسمي من أفلام "الويسترين" الأمريكيّة "الغريبة عن الأخلاق الشيوعيّة"، فتبني نماذجها لم يكن عابراً، إذ تعرض الفيلم إلى عدة مستويات من الرقابة، إذ لم يحذف فقط من النص ما ذكرناه سابقاً عن مصير الحريم، بل حذف أيضاً المشهد الذي تنتحب فيه "الحريم" على جثة عبد الله، إلى جانب أكثر من 20 تعديلاً على الفيلم بعد تصويره.
هذه التعديلات هدفها تقديم الجيش الأحمر بوصفه مُحرراً لا غازياً يرفضه السكان الأصليون، والأهم على العصابات أن لا تظهر كفرق وطنية للدفاع عن أرضها، بل كـ"أشرار" يريدون استعباد الشعب، وهذا ما حصل حين تم تحميل مصطلح "بازماشي" معانٍ سلبيّة، تجعل من الموصوفين فيه قطاع طرق لا مدافعين عن أرضهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون