حتى الآن، وفي المدى المنظور، لا يبدو أنّ آلة الحرب الروسية على أوكرانيا ستتوقف. باتت الكثير من دول العالم تعاني من تداعيات هذه الحرب الكارثية، خاصة على الصعيد الاقتصادي. ولكن الأمر في مصر، التي كانت تلقب قديماً بـ"سلة غلال" العالم، أكثر فداحة، ولا سيما بعد أن أصبح رغيف الخبز، الذي يطلق عليه المصريون "العيش"، في مرمى جيوش القيصر بوتين التي يتصدى لها الأوكرانيون بدعم غربي تحت شعار "لا تراجع ولا استسلام".
"عض قلبي ولا تعض رغيفي، إنّ قلبي كان على الرغيف رهيفاً". عبارة توارثها المصريون منذ القدم، وتعني أنه يمكن التسامح في أي شيء إلا في رغيف الخبز. فمن غير المقبول المساس به أو التفريط فيه، ويعتبر خطاً أحمر لا يسمح بتجاوزه مهما كان الثمن، لأنه ببساطة شديدة، يؤمّن للكثيرين حقهم في الغذاء. جاءت الحرب لتزيد من محنة الرغيف، إذ توقف استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا، اللتين كانتا تشكلان معاً 80% من جملة واردات القمح المصرية في 2021.
فرحة رمضان في مصر هذا العام تبدو ناقصة، فجيوب الكثير من المواطنين خاوية. لم تصمد الرواتب الهزيلة طويلاً أمام الارتفاعات الجنونية في الأسعار التي سبّبتها حرب بوتين
في مصر، ارتفعت أسعار الخبز غير المدعم بين 25 و 50 قرشاً، ويتباين السعر الذي يباع به من منطقة إلى أخرى. أما أسعار الخضر، فقد خرجت تماماً عن السيطرة خلال الأيام الماضية. سعر كيلوغرام الطماطم قفز إلى 20 جنيهاً، والباذنجان إلى 18، والخيار إلى 12، والفلفل إلى 20، وهو ما سبّب مقتل موائد إفطار المصريين في رمضان. وبات إعداد وجبة إفطار جديدة حملاً ثقيلاً يؤرق الكثير من البسطاء ومحدودي الدخل الذين أصبحوا يشكون من ضيق ذات اليد وحالتهم ازدادت سوءاً في شهر اعتادوا وصفه بـ "أبو الكرم".
ملابس العيد
فرحة رمضان في مصر هذا العام تبدو ناقصة، فجيوب الكثير من المواطنين خاوية. لم تصمد الرواتب الهزيلة طويلاً أمام الارتفاعات الجنونية في الأسعار التي سبّبتها حرب بوتين. ولم تستثنِ هذه الزيادات شيئاً، إذ طالت الطعام والمشرب والمأكل، وما زلنا نفاجأ بزيادة جديدة كلّ يوم.
متى ستتوقف هذه الحرب؟ ومن سينتصر فيها؟ والأهم من ذلك كله: "متى سيتوقف لهيب الأسعار حتى يتمكنوا من إعادة إصلاح ميزانياتهم المدمَّرة؟"
أحلام الغلابة البسيطة في وجبة إفطار شهية يجتمع حولها أفراد الأسرة في المساء، وشراء ملابس العيد للصغار، صارت صعبة المنال في أحيان كثيرة، لأنّ أسعار العديد من السلع باتت بمتناول الميسورين فقط. ورغم أن الحكومة تحاول تخفيف حدّة الأزمة من خلال طرح منتجات بأسعار مخفضة في بعض المناطق، لم يهدأ إعصار ارتفاع الأسعار حتى الساعة.
في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وتحديداً في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، مرت مصر بواحدة من أصعب الفترات في تاريخها على الإطلاق، نتيجة مجاعة دامت سبع سنوات. وعُرفت تلك الفترة بالـ "الشدة المستنصرية"، ووصل الحال بالناس، كما يروي المؤرخون، إلى أكل الميت، بل جرى اختطاف أحياء من الشوارع وأكل لحومهم. وقتذاك، تراجع عدد سكان البلاد بشكل كبير.
اليوم، يطلق الكثير من المصريين على الفترة الراهنة وصف "الشدة البوتينية"، بعدما وجدوا أنفسهم دون سابق إنذار يسددون، رغماً عنهم، فاتورة حرب مفتوحة يخوضها بوتين ضد أوكرانيا لأسباب لا يعرف حقيقتها الكثيرون.
متى ستتوقف هذه الحرب؟
أحاديث الحرب وتداعياتها تفرض نفسها بقوة على المصريين اليوم عندما يجتمعون في المساء لتناول إفطارهم. وباتوا جميعاً مشغولين بسؤال واحد، هو: متى ستتوقف هذه الحرب؟ ومن سينتصر فيها؟ والأهم من ذلك كله: "متى سيتوقف لهيب الأسعار حتى يتمكنوا من إعادة إصلاح ميزانياتهم المدمَّرة؟".
ربما لا يدرك بوتين أنّ المصريين اليوم هم أحد أكثر شعوب العالم رفضاً للحرب، بل يطالبون بوقفها اليوم قبل الغد
ربما لا يدرك بوتين أنّ المصريين اليوم هم أحد أكثر شعوب العالم رفضاً للحرب، بل يطالبون بوقفها اليوم قبل الغد، لأنهم وجدوا أنفسهم في عداد ضحاياها بعد ساعات من اندلاعها، وبخاصة بعد القفزات الكبيرة للأسعار، والتي خرجت تماماً عن السيطرة. وجاءت العقوبات الغربية على روسيا لتزيد من حدة الأزمة التي تلقي بظلالها الكثيفة على الاقتصاد العالمي.
على بوتين أن يعلم أمراً أظنّ أنه عاب عنه، وهو أن بعض محدودي الدخل في مصر وصل بهم الحال إلى رفع أيديهم للدعاء عليه عند كلّ إفطار. وذلك بعد أنْ تسبّبت حربه على أوكرانيا في زيادة معاناتهم وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل أن يجهزوا إفطاراً جديداً أو يتجهوا لشراء ملابس العيد الجديدة كما كانوا يفعلون سابقاً.
لا أدري هل سبب ارتفاع الأسعار في مصر ومختلف دول العالم تداعيات حرب بوتين فقط، أم هناك من يجيد توظيف الأزمة لمصلحته من تحت المائدة كما يقول المصريون. ولكن ما أعلمه، هو أنّ الحرب يجب أن تتوقف فوراً قبل أن يفقد العالم السيطرة على ملايين الجائعين. فالتاريخ علّمنا أن البطون الخاوية لا تتحسس أبداً مواضع خطواتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين