شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"الموت بالتقسيط"... قصة معاناة المحتاجين إلى زراعة الأعضاء في الجزائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 19 أبريل 202202:15 م

"ليس هناك شيء مؤلم في هذه الحياة أكثر من استنفاد جميع طرق العلاج، والعيش تحت المسكّنات والأجهزة الطبية في انتظار متبرع يعيد إليّ الحياة، والعودة إلى العيش بعيداً عن الإبر التي كانت تُغرَز في مناطق متفرقة من جسدي، وصوت جهاز دقات القلب وقياس الضغط الدموي وجهاز قياس السكر في الدم"، يروي بلال وهو شاب في العقد الثالث من عمره عن معاناته مع مرض القصور الكلوي.

ويقول بلال بصوت خفيض ومتقطع وممزوج بالألم والحسرة بسبب المرض الذي نخر جسده وجعله غير قادر على الوقوف، لرصيف22، إن العثور على متبرع تطابق أنسجته أنسجة المريض يُعدّ حلماً تحقيقه صعب المنال، لأن الجزائريين لا ينجذبون إطلاقاً إلى فكرة التبرع بالأعضاء حتى بعد موتهم.

نقص في التكفل

"الكثيرون مثلي لا يئنّون لأنهم وبكل بساطة تجاوزوا مرحلة الصراخ إلى مرحلة الصمت، في ظل غياب المتبرعين والتأطير الطبي المتخصص الذي يشرف على حالتنا المرضية في بعض المدن الداخلية والجنوبية، وندرة الأدوية، فأحياناً نضطر إلى اقتنائها بأثمان باهضة من دول أجنبية".

يردف قائلاً: "كل يوم أترقب اتصالاً من الأطباء من أجل زرع كلية، والتخلص من ألم الإبر التي تُحقن داخل وصلاتي الوريدية خلال كل جلسة غسيل، وهو أملي وأمل كثيرين مثلي".

ويُعدّ بلال واحداً من بين 26 ألف جزائري وجزائرية يخضعون حالياً لعمليات تصفية الدم، مع استفادة 2،500 شخص من عمليات زرع الكلى في البلاد، حسب ما كشفت البروفيسورة ابتسام عرباوي، المختصة بأمراض الكلى، ونائبة الأمين العام للجمعية العلمية الوطنية لتصفية وزرع الكلى، على هامش اليوم التحسيسي الذي نظمته الجمعية العلمية الجزائرية لتصفية وزراعة الكلى، بالتنسيق مع جامعة جزائرية، بحضور عدد من الأطباء والمختصين في إطار الاحتفالية باليوم العالمي للكلى.

ولا تقتصر هذه المعاناة على مرضى القصور الكلوي فحسب، بل تشمل أيضاً المصابين بالتليّف الكبدي، فالمئات منهم يتسولون لجمع المبالغ المالية اللازمة لإجراء عمليات زراعة الكبد في تركيا، وهو الوضع الذي ينطبق على كمال مزاري، المقيم في بلدة بن طلحة (الضاحية الغربية للعاصمة الجزائرية)، والذي يعاني من مرض في الكبد، ووضعه الصحي يتطلب تدخلاً عاجلاً نظراً إلى تدهور حالته الصحية، فهو حالياً في حاجة ماسة إلى إجراء عملية مستعجلة تُقدَّر تكلفتها بـ52 ألف دولار في تركيا.

"ليس هناك شيء مؤلم في هذه الحياة أكثر من استنفاد جميع طرق العلاج، والعيش تحت المسكّنات والأجهزة الطبية في انتظار متبرع يعيد إليّ الحياة، والعودة إلى العيش بعيداً عن الإبر التي كانت تُغرَز في مناطق متفرقة من جسدي، وصوت جهاز دقات القلب وقياس الضغط الدموي وجهاز قياس السكر في الدم"

وينتظر عبد القادر مبارك، من محافظة عين الدفلى، والذي يعاني هو الآخر من تليّف كبدي، الحصول على مساعدات أو تبرعات من فاعلي الخير لإجراء عملية جراحية عاجلة في تركيا أو الهند، بعدما وافقت المستشفيات هناك على القيام بها.

 وتشهدُ عملية زرع الأعضاء ومنح الحياة لأشخاص آخرين، نقصاً كبيراً في المستشفيات الجزائرية، بالرغم من كل الجهود التي تبذلها السلطات من أجل رفع نسبة المتبرعين سنوياً، من خلال تهيئة الأرضية اللازمة، كاستحداث بنك للأعضاء البشرية وسن التشريعات القانونية اللازمة لتأطير هذه العملية.

لكن هذه الجهود حدّتها عقبات كثيرة، أبرزها انعدام ثقافة التبرع في مجتمعنا مقابل الارتفاع السنوي المسجَّل في عدد المحتاجين، فالجزائر تسجّل ما بين 80 إلى مئة حالة عجز كلوي جديدة كل سنة، لكل مليون مقيم، وهو ما أكده المجلس الإسلامي الأعلى (هيئة حكومية)، إذ تأسف لكون هذه العمليات تعرف نقصاً كبيراً في المستشفيات.

غياب الإمكانات

وفي محاولة منه لنشر الثقافة بين الجزائريين، سيشرف المجلس الإسلامي الأعلى على تنظيم ملتقى لشرح موضوع التبرع بالأعضاء، وحث الجزائريين على هذه المبادرة بعد وفاتهم، بالتوقيع على سجل وطني يعطي الحق للجهات المختصة في التصرف بأعضائهم لإنقاذ حياة أناس آخرين.  

ويقول البروفيسور مصطفى خياطي، رئيس الهيئة الجزائرية لترقية وتطوير الصحة المعروفة اختصاراً بـ"فورام"، لرصيف22: "بالإضافة إلى صعوبة إقناع السكان المحليين الذين يتعاملون بحساسية مع مسألة نزع أعضائهم بعد الموت، يبقى الأمر أيضاً رهن ضبط الآليات التنظيمية والقانونية".

"فقانون الصحة الصادر في 2018، والذي تم بموجبه إطلاق سجل الامتناع عن التبرع بالأعضاء بهدف تسهيل عملية تحديد المتبرعين الميتين سريرياً لم يُجسَّد ميدانياً بعد، ولم يشرَّع العمل به".

وتنص المادة 362 من القانون الصادر عام 2018، على أن زرع الأعضاء أو الخلايا البشرية من أشخاص متوفين بهدف الزرع، لا يمكن أن يتم إلا بعد المعاينة الطبية والشرعية للوفاة، حسب المعايير العلمية المحددة من قبل الوزير المكلف بالصحة".

وتقول المادة ذاتها إن "النزع في هذه الحالة يمكن أن يكون، إذا لم يعرب في حياته عن امتناعه، ويمكن التعبير عن هذا الامتناع بكل الوسائل وبالأخص من خلال التسجيل في سجل الامتناع بكل الوسائل، لا سيما من خلال التسجيل في سجل الامتناع على مستوى الوكالة الوطنية لزرع الأعضاء".

ويُشير القانون إلى أن عملية التسجيل "محددة قانوناً"، وأن الفريق الطبي المكلَّف بالنزع، مطالب بمعاينة سجل الامتناع من أجل البحث عن موقف الفقيد.

ويذكر القانون أنه وفي حالة عدم التسجيل في هذا السجل، فإنه تتم استشارة الأفراد البالغين من عائلة الراحل، حسب ترتيب الأولوية التالية: الأب فالأم والزوج والأولاد والإخوة والأخوات، أو الممثل الشرعي.

"كل يوم أترقب اتصالاً من الأطباء من أجل زرع كلية، والتخلص من ألم الإبر التي تُحقن داخل وصلاتي الوريدية خلال كل جلسة غسيل، وهو أملي وأمل كثيرين مثلي"

ويؤكد مصطفى خياطي، أن الجزائر أظهرت اهتماماً ملحوظاً بعمليات زرع الأعضاء، لكنها لم تصل بعد إلى المعدلات العالمية المطلوبة، فهي تجري مثلاً مئة عملية لزراعة الكلى، بالرغم من أن الأمر يتطلب إجراء 1،500 عملية سنوياً.

"بالإضافة إلى ذلك، فإن عدد المختصين في إجراء العمليات قليل جداً، فالعملية معقدة وتحتاج إلى فريق طبي متكامل ذي كفاءات وخبرات عالية في فن التعامل مع الزراعة، انطلاقاً من الطبيب الجرّاح مروراً بالطبيب المسؤول عن الإنعاش والتخدير، وصولاً إلى الأطباء المساعدين وحتى الممرضين الذين هم أيضاً يحتاجون إلى تكوين وتأطير خاصَين، وهو أمر نادر في الجزائر، من دون أن ننسى الحديث عن توفير التجهيزات اللازمة لإجراء العملية الجراحية التي يتطلب إجراؤها ثلاث ساعات فقط بعد وفاة الشخص المتبرع".

خياران أحلاهما مر 

ويوضح مصطفى خياطي، رئيس الهيئة الجزائرية لترقية وتطوير الصحة، أن المستشفيات لا تملك قاعدة بيانات للمرضى المصابين بالفشل الكلوي مرتبةً حسب الأولوية.

وتقول رئيسة الجمعية الجزائرية لمساعدة مرضى زرع الكبد، زهية بكة، لرصيف22، إن المرضى بين خيارين أحلاهما مر: إما السفر إلى الخارج وهو خيار يندرج في خانة المستحيل بالنسبة إلى كثيرين، والجمعية تضطر في معظم الأحيان إلى إطلاق نداءات لجمع التبرعات، أو مواجهة الموت بالتقسيط.

وتُعدّ تركيا من أبرز الدول التي يتوجه إليها الجزائريون لزراعة الكبد، كما توضح زهية بكة، لأنها أقل تكلفةً من فرنسا وبلجيكا. أما في حالة استحالة جمع الأموال، فيجد المريض نفسه مجبراً على الانتظار إلى غاية برمجته في المستشفيات الجزائرية، لكن إذا كان لديه احتمال للشفاء.

"وزادت الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة كورونا، الأمور تعقيداً بالنسبة إلى المرضى، فعمليات زرع الكبد التي كانت تجرى توقفت، فمنذ سنة 2019 لم تجرِ أي عملية في الجزائر في ظل انعدام وجود جرّاحين مؤهلين للزراعة".

وتضيف زهية بكة، أن هناك جرّاحاً واحداً يجري هذه العمليات، وهو البروفيسور عبد الكريم بوجمعة، رئيس مصلحة جراحة الكبد والمسالك الصفراوية في المستشفى الجامعي في رين في فرنسا، برفقة عدد من الأطباء لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وكلهم جُنِّدوا في غرف الإنعاش لمواجهة كوفيد19.

"ومنذ عام 2003، أجرى الفريق الجزائري برئاسة البروفيسور عبد الكريم بوجمعة، نحو 55 عمليةً ناجحةً، لكن بعض الذين استفادوا من عمليات الزرع فارقوا الحياة منذ بداية الجائحة بسبب مضاعفات دواء أمينو سوبريسور، الذي يخفض مستويات المناعة في جسم الإنسان".

وتقترح زهية بكة، وضع مخطط وطني شامل ومفصّل وواضح للتكفل بهذه الشريحة من المرضى مع تسطير إستراتيجية واضحة وإحصائيات دقيقة وفعالة للملفات الطبية مع ضبط الأولويات.

تشهدُ عملية زرع الأعضاء ومنح الحياة لأشخاص آخرين، نقصاً كبيراً في المستشفيات الجزائرية، بالرغم من كل الجهود التي تبذلها السلطات من أجل رفع نسبة المتبرعين سنوياً، من خلال تهيئة الأرضية اللازمة

"ومما زاد من معاناة مرضى الفشل الكلوي والتليّف الكبدي، غياب التكفل من قبل الضمان الاجتماعي بمصاريف العلاج أو الجراحة خارج الوطن والذي يقتصر في الوقت الحالي على الأطفال فحسب".

وتشير رئيسة الجمعية الجزائرية لمساعدة مرضى زرع الكبد أيضاً، إلى غياب العتاد الطبي الذي يخفف ولو بشكل مؤقت من معاناة المرضى، مثل غياب الخيوط الطبية الخاصة بربط دوالي المريء، وكذلك الأدوات الجراحية الخاصة بتسيير عملية التخلص من الأحماض.

وتدعو في النهاية زهية بكة، إلى إطلاق حملة واسعة لإقناع الجزائريين بالتبرع بأعضاء موتاهم، لأن الدين الإسلامي لا يحرّم مثل هذه العمليات حتى أن القانون الجزائري يجيزها، وهو ما يؤكده نقيب الأئمة في الجزائر، جلول حجيمي، الذي يقول لرصيف22، إنه ثمة اتفاق على جواز نقل بعض الأعضاء كالكلى والكبد من الحي إلى الحي، ومن الميت إلى الحي، لكن الدين الإسلامي حرّم زرع العورات المغلظة (الأعضاء التناسلية).

وفي انتظار التفاتة السلطات وتكثيف حملات التبرع، ينتظر آلاف المرضى في الجزائر بصيص الأمل الذي قد يبعث فيهم حياةً جديدةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image