منذ بدايات القرن العشرين سطع نجم المدرسة المصرية لتلاوة القرآن الكريم، وكان لها الريادة والصدارة حتى وصول المد الخليجي إلى مصر في الثمانينيات والتسعينيات، والذي صاحبه غزو تسجيلات المقرئين الخليجيين، ولا سيما السعوديين، ذات الإيقاع السريع، والتي تتلى على مقام موسيقى واحد.
ونشأت مدرسة التلاوة المصرية على يد عدد من الآباء المؤسسين، أبرزهم: الشيخ أحمد ندا، وكان من أعمدة هذه المدرسة ونجومها: الشيخ محمد رفعت، الشيخ مصطفى إسماعيل، الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الشيخ محمد صديق المنشاوي، الشيخ محمود علي البنا، الشيخ محمود خليل الحصري، الشيخ محمد محمود الطبلاوي.
في كتاب "مزامير القرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة"، الصادر عن منشورات إبييدي للنشر، في يناير/ كانون الثاني 2022، يُقدم لنا الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، عبر 208 صفحات من القطع المتوسط، تاريخ المدرسة المصرية للتلاوة في تجربة جديدة، ترتكز على علاقة هؤلاء القُرّاء بالموسيقى والغناء، وتأثيرهما على تلاوة القرآن، مستعيناً بمقابلات أجراها الكاتب وشهادات لبعض مشاهير الأدب والفن.
في مقدمة الكتاب يقول إن مصر عاصمة دولة التلاوة، وأن مدرسة القرآن المصرية كانت وما زالت الأولى والأهم والأكثر تأثيراً بكل ما تتفرد به من بصمة خاصة في فن الأداء، وما تتميز به بالحفظ التام ،والتمكن وحلاوة الصوت الذي يصل بالمعاني إلى شغاف القلوب.
حكايات مؤسس "دولة التلاوة"
يبدأ الكتاب بالحديث عن القارئ الشيخ أحمد ندا، موضحاً أنه المؤسس الحقيقي لـ"مدرسة تلاوة القرآن المصرية"، وهو بمثابة من كتب دستور "دولة التلاوة"، وقد امتاز بعذوبة الصوت وقوته، وبطريقته في قراءة القرآن، التي استحوذت على قلوب المستمعين، فذاعت شهرته حتى أصبح أغلى مقرئ في عصره بمصر.
قفز أجر ندا خلال سنوات معدودة من خمسة جنيهات إلى 100 جنيه في الليلة الواحدة، ويظل يجوب أقاليم مصر لتلاوة القرآن في قصور الباشوات والأعيان، ليصبح بعدها من أثرياء القوم، وينتقل من حارته في القاهرة إلى قصره الجديد الذي بات يجتمع فيه الشعراء والأدباء ورجال الحكم والسياسة.
وامتلك الشيخ عربة "حنطور" تجرها ستة خيول، تشبه تلك التي يركبها الخديوي عباس حلمي الثاني، والذي أصدر فرماناً بمنع الشيخ من التشبّه بموكبه، وإلزامه بأن يكتفي بعربة بحصانين فقط، لكن تلك الواقعة تسببت في زيادة شعبية ندا.
يجمع عنوان الكتاب بين لفظي القرآن والمزامير، بينما ترتبط الأخيرة في الأذهان بمزامير داود الملك، وربما ترمز أيضاً إلى المزامير كأداة موسيقية، وهي الفرضية التي يؤكدها المحتوى الذي ربط بين فن التلاوة وبين فن الموسيقى والغناء، بعيون مختصين ونجوم
ولا يفوت المؤلف أن الشيخ أحمد ندا رفض أن يقوم بتسجيل القرآن الكريم بصوته على أسطوانات، بحجة أن الأسطوانة التي ستحمل صوته قارئاً للقرآن لا تليق بجلال كتاب الله، لاسيما أنها معرّضة للإلقاء في أماكن لا تتفق مع قدسية القرآن وجلاله، وبالتالي لم تصل أي تسجيلات لتلاوة الشيخ إلى الأجيال التالية.
ورغم اعتباره للشيخ ندا مؤسساً للمدرسة المصرية إلاّ أن الكتاب لا يغفل دور أسماء أخرى اشتهرت خلال القرن العشرين في عالم تلاوة القرآن، مثل: الشيخ يوسف المنيلاوي، الذي عاصر الشيخ ندا، والشيخ محمد القهاوي، المقرئ المفضل للزعيم الوطني سعد زغلول، والمثل الأعلى للشيخ محمد رفعت، والشيخ منصور الشامي الدمنهوري، والشيخ محمد عمران، والشيخ حمدي الزامل، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ راغب مصطفى غلوش، والشيخ طه الفشني، والشيخ محمد الفيومي، والشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، والشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ أحمد الرزيقي.. إلخ.
شيوخ التلاوة وعشق الموسيقى
قد يبدو عنوان الكتاب يحمل شيئاً من التناقض، لأنه يجمع بين لفظي القرآن والمزامير، بينما ترتبط الأخيرة في الأذهان بسفر المزامير، أحد أسفار التناخ اليهودي والعهد القديم أو مزامير داود الملك، وربما ترمز أيضاً إلى المزامير كأداة موسيقية، وهي الفرضية التي يؤكدها مضمون الكتاب نفسه الذي ربط بين فن التلاوة وبين فن الموسيقى والغناء.
ويقدم الكتاب تحليلاً موسيقياً خاصاً بكل صوت لكل مقرئ من أعلام التلاوة السبعة، مخصصاً لكل منهم مساحته، مظهراً نقاط قوته والمقامات التي يتألق فيها، موضحاً مدى فرادة أسلوبه من خلال شهادات يستعرضها مؤلفه وينقلها على لسان موسيقيين محترفين؛ إذ قدم تحليل كل من المطرب الكبير محمد ثروت، والموسيقار هاني شنودة لصوت الشيخ محمد رفعت، بجانب تحليل الموسيقار منير الوسيمي لصوت الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، مؤكداً أن الكثير من قرّاء القرآن الكريم في مصر درسوا المقامات الصوتية والغنائية.
كانوا يعشقون الموسيقى، ويدرسونها بشكل احترافي، محمد رفعت كان "سمّيعاً"، ويقتني أعمال بيتهوفن وموتسارت، والشيخ مجمود البنا درس المقامات الموسيقية، وعبد الوهاب وصف الشيخ الطبلاوي بـ"صاحب النغمة المستحيلة"
ويفاجئ الحكيم قراء كتابه بكون الشيخ القارئ، محمد رفعت، كان "سمّيعاً" من طراز رفيع للسيمفونيات العالمية، وحرص على اقتناء أعمال عملاقي الموسيقى بيتهوفن وموتسارت، وأن الشيخ محمود علي البنا كان قد درس الموسيقى ومقاماتها، دراسة احترافية على يد الملحن الشيخ درويش الحريري، الذي كان أستاذ الموسيقار محمد عبدالوهاب، موضحاً كيف كان المطرب عبد الوهاب نفسه معجباً بالشيخ الطبلاوي، ويطلق عليه لقب صاحب النغمة المستحيلة.
أما الشيخ القارئ مصطفى إسماعيل، فيكشف الكاتب عن علاقته الوطيدة بكوكب الشرق أم كلثوم، بحكم جيرتهما وأن المطربة الأشهر في عصرها، لطالما دعته لتناول الطعام في فيلتها بالإسكندرية لتسأله في نقلات المقامات التي أتقنها الشيخ، لافتاً إلى أن الشيخ عبد الباسط سبق أن حضر حفلاً موسيقياً لكوكب الشرق في مسرح الأزبكية، بالطبع كان ذلك قبل عقود من وصول المد الوهابي إلى مصر، والذي يقتضي تحريم الفن والغناء والموسيقى والمعازف.
الصوت الباكي
خصص مؤلف كتاب "مزامير القرآن."، فصلاً كاملاً للحديث عن المقرئ الشيخ محمد صديق المنشاوي، الملقب بالصوت الباكي، ومقرئ الجمهورية العربية المتحدة، والذي كان أحد أعلام تلاوة القرآن المجود على مستوى العالم العربي والإسلامي.
ويصف الكتاب المنشاوي بأنه "واحد من العلامات الكبرى في دولة القرآن المصرية، رغم أنه كان أقصرهم عمراً، إذ رحل قبل أن يكمل الخمسين، لكنه استطاع أن يكون صاحب مدرسة وطريقة، حاول كثيرون تقليدها، مشيراً إلى أن الفترة منذ منتصف الخمسينيات حتى منتصف الستينيات كانت هي ذروة تألق الشيخ المنشاوي، فذاع صيته في العالم الإسلامي، وقرأ في الحرمين المكي والمدني، وتعددت رحلاته إلي المسجد الأقصى وطاف العالم الإسلامي، وكان جمهوره يحتشدون لسماعه في مسجد الزمالك إذ يقرأ كل جمعة.
ويستشهد المؤلف برأي خبير الأصوات والمقامات والقراءات صفوت عكاشة، في صوت المنشاوي كقارئ للقرآن، والتي يوضح خلالها أن الشيخ ينتمي لمدرسة الأحكام المُحكمة في التجويد، ومخارج الحروف والقراءات المتواترة السبع أو العشر، مشيراً إلى أن صوت المنشاوي لم يكن بحاجة إلى وقت للتسخين قبل القراءة، فهو صوت سلس، ومرن، ونقي بالفطرة، في قراره دافئاً وحنوناً يذيب القلوب، وفي جوابه يحتفظ بكل الخشوع والروحانية.
كان المنشاوي يبدأ قراءته من مقام البياتي كباقي القراء، ثم ينتقل إلى أي مقام يتراءى له، حسب معنى الآية التي يقرأها، كما لم يكن يلتزم بترتيب المقامات كما يفعل باقي القراء، وكان أيضاً مميزاً في مقامات النهاوند، الراست والسيكا .
أول تسجيل إذاعي للقرآن
وأفرد الكاتب جزءاً كبيراً من كتابه "مزامير القرآن"، للحديث عن القارئ الشيخ محمد رفعت، صاحب أول تسجيل إذاعي للقرآن، الذي عُرف بــ"قيثارة السماء"، مشيراً إلى أن أغلب المهتمين بالموسيقى كانوا يكتبون عن صوته، ويعملون على فك طلاسم شفرة الموسيقى القرآنية، إذ كان الشيخ أحياناً يقلب العبارة على مختلف الوجوه النغمية، ليضع بذلك المعنى في مرآة نغمية جديدة كل مرة تكشف جانباً خفياً مستتراً من المعنى.
ويستشهد الكاتب برأي الروائي المصري الراحل خيري شلبي، الذي وصف صوت الشيخ بأنه سيمفونية القرآن، والتفسير الموسيقي له، وأنه تفسير عبقري فذ، يضيء المفردات بمجرد نطقها، ثم يعيد فيلمّ المفردات كلها في جملة نغمية، تتضمن جوهر المعنى الكلي للجملة القرآنية، ليتحول المعنى إلى نشيد وجداني يرفرف عليه علم السماء.
أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب كانا حريصين على الاستماع إلى تلاوته للقرآن.
كما تناول الكتاب مقتطفات من سيرة الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي أصبح أبرز نجوم دولة التلاوة لأكثر من ربع قرن، بسبب صوته المكتمل الجمال والقوة في جميع درجاته، وإحساسه العالي بكل ألفاظ القرآن ومفرداته، مشيراً إلى أن أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب كانا حريصين على الاستماع إلى تلاوته للقرآن.
ويتطرق الكتاب لسيرة الشيخ محمود خليل الحصري، الملقب بحارس القرآن ووزير دولة التلاوة، بسبب أداءه الفذ، وقراءته المتقنة، والتزامه الصارم بالأحكام، والذي اُعتبر صاحب مدرسة في التلاوة، هي الميزان الذي يحتكم إليه.
ويركز الكتاب على مسيرة الشيخ محمد محمود الطبلاوي، الذي اعتُبر آخر حبة في سبحة المقرئين العظام، بسبب صوته الذي يمتاز بالحلاوة والطلاوة، ما جعله أغلى مقرئ في مصر، وبلغت شهرته أن طلبه العاهل الأردني الملك حسين للتلاوة في عزاء والدته الملكة زين، وأحضره الرئيس السوري حافظ الأسد ليقرأ في عزاء ابنه باسل.
بجانب تناول الكتاب لجانب من سيرة الشيخ محمود علي البنا، أحد أعلام هذا المجال البارزين، الملقب بأمير قرآن الفجر، وملك القفلات، والذي درس علوم المقامات على يد الشيخ درويش الحريري.
رد اعتبار للمدرسة المصرية
صحيح أن هناك كتباً سبقت "مزامير القرآن" في تناول تاريخ مدرسة التلاوة المصرية، أبرزها: "ألحان السماء" للكاتب الراحل محمود السعدني، "عباقرة التلاوة في القرن العشرين" للصحفي شكري القاضي، "نجوم العصر الذهبي لدولة التلاوة" للكاتب نبيل حنفي، و"القرآن بصوت مصر" للمؤلف أبو طالب محمود، "سفراء القرآن الكريم" للإذاعي أحمد همام، إلاّ أن أيمن الحكيم قدّم زاوية تحليلية جديدة عن علاقة العظماء السبعة لدولة التلاوة بالموسيقي، وتحليل أصواتهم وفقاً للمقامات، من خلال متخصصين مع رصد مقتطفات تاريخية عن حياتهم.
وفي النهاية، يمكن اعتبار هذا الكتاب الممتع بمثابة رد اعتبار من الكاتب لمدرسة القرآن المصرية، التي تتعرض من سنين طويلة لحملات شرسة لصالح مدرسة القرآن الخليجية ونجومها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...