"تأدب أنت في حضرة القرآن الكريم، لا ترفع صوتك، إلتزم بالقواعد، جميع القواعد"، فماذا لو كانت قواعد التجويد والترتيل القرآني وما يحكم القراءات تشبه مقامات الموسيقى؟
ماذا لو لطمنا التاريخ بأسماء مشايخ تحركوا بحرية متنقلين بين القراءة والأذان وبين الموسيقى؟
هذه الأسئلة الشائكة أثارها الروائي الطبيب محمد إبراهيم طه في روايته "شيطان الخضر" الصادرة حديثاً عن دار النسيم في القاهرة.
وظف النص هالة التقديس الشعبوي حول رجال الدين في الريف والقرى، وما تجره من صب الأسرار العائلية وربما الزوجية في أذان شيوخ المساجد وخطباء الجمعة الذين لا يتوانون أحياناً عن استخدامها في تحقيق المكاسب
العبرة بالجوهر
بسردية مشحونة بالنغم والألم يسوق طه إلى قارئ ملول قضية تلحين القرآن الكريم من خلال بطل الرواية القارئ الشاب خضر الصغير، الذي يحاول بآلته البسيطة العزف بجلال ليثبت ما هو مثبَت بالعمل ومنكَر بالقول: "التجويد حلية التلاوة وزينة القراءة".
عن الحلال والحرام، تساءل خضر الصغير ببراءة شاب تشكّل وعيه الفطري خارج إطار المؤسسة التعليمية: "هل هذا حرام؟". ليبادره الشيخ بإجابة أغلقت باب النقاش وفتحت باب العقل: "وهل في ما سمعته أذى للأذن؟"
يقول خضر: "لا، بل جمال".
الأسس واحدة، موسيقى ومقامات. فلماذا تحلل هنا وتحرم هنا؟
و"يوسف المنعكش"، هذا البسيط الهائم على وجهه. يرى بالبصيرة وشفافية الروح في عوالم رقراقة كعوالم أهل الله الصالحين، زاهداً في الدين، يقترب منه بقلبه، مهملاً الشكليات. وهنالك الممرضة "صبا"، النموذج الصارخ لتدين القلب ووصل الحقيقة بالجوهر، والتي تحث خضر على تحقيق حلمه بتلحين الآيات، مستشهدة بالجمال والحب.
اشتبكت الرواية مع جمود الخطاب الديني المتمثل في شيخ الجامع ذي اللحية الطويلة الكثة، والمؤذن "سفيان العربي"، أبيض الثياب أسود القلب، الذي خطط بمكر شيطان للنيل من خضر وإحراق بيته، بل حرقه هو نفسه، فمات العربي محترقاً بنفس المادة التي أعدها للتخلص من خضر بعد أن انفجرت في جسده. مات بعد أن حرّض الصغار قبل الكبار على وصف خضر بالشيطان، والكتابة على ظهر بيته "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء- 76)، فكانوا يسمونه بيت الشيطان!
ممارسات انتهازية
وظف النص هالة التقديس الشعبوي حول رجال الدين في الريف والقرى، وما تجره من صب الأسرار العائلية وربما الزوجية في أذان شيوخ المساجد وخطباء الجمعة الذين لا يتوانون أحياناً عن استخدامها في تحقيق المكاسب.
عدا فضح بعض الممارسات الانتهازية التي تمارس باسم الدين وتحت ستار كفالة اليتيم، وهي في جوهرها تكسّب "فهلوي"، في إسقاط واعٍ على بعض الجمعيات الخيرية، ومؤسسات الإتجار في الموت والفقر والعوز، عبر شخصية الشيخ "الحسيني أبوراس"، الذي تكفل خضر ليس من باب المحبة وكفالة اليتيم، وإنما من باب حصد المنافع عبر هذا الشبل الحافظ لكتاب الله، كـ"الفرخة التي تبيض ذهباً"، إذ يكسب خضر كل مسابقات القرآن وتتدفق الأموال على الحسيني.
يذكر التاريخ محاولات بعض الموسيقيين تلحين الآيات مثل الموسيقار محمد عبد الوهابوالكويتي عبدالله الرويشد الذي أهدر أحد الشيوخ دمه بسبب ما أشيع عن اعتزامه تلحين الفاتحة
في كل رواية يبهر محمد إبراهيم طه قراءه بطرق غير المطروق، وفي هذه الرواية ألقى قنبلة بإذابة الحواجز بين التلاوة والغناء، انطلاقاً من أن المقامات واحدة، والقواعد الموسيقية متشابهة. يتلو أعمدة التلاوة والتجويد المصريين الآيات التي تصف الحزن والندم من مقام "الصبا"، ومن "النهاوند" حين يتعرضون لآيات بها حب واشتياق. أما "العجم" فيستخدم للمناجاة واستشعار الهيبة، و"البيّات" للعراقة والأصالة والحديث عن التفاخر والمباهاة، و"السيكا" لإظهار الفرحة والسرور، و"الحجاز" للحنين والشوق والتأمل، ومقام "الرست" لإظهار قوة الصوت وتمكنه، ويستعرض به القراء "عضلات" صوتهم التطريبية وطبقاته. وبدون اتفاق معلن، يتبارى أصحاب الأصوات القوية في القراءة به، أما "الكرد" فهو للتعبير عن العذاب والحرقة والألم.
الأنغام والمقامات حاضرة في الرواية من أولها إلى آخرها. وجميع المفردات منتقاة بعناية لخدمة النص، حتى اسم حبيبة الخضر "صبا"، وهو أحد مقامات الغناء.
يرصع طه نصه ببعض أشعار وتواشيح تجعله قطعة موسيقية وفنية فريدة أشبه بلوحة.
لا يلجأ الكاتب إلى البناء السردي النمطي بالكشف عن المصائر في نهاية الرواية وإغلاق أقواس السرد، بل يطرح المصائر مبكراً موفراً على القارئ الملول عذاب الانتظار، فيما القارئ المتذوق يستمتع بالرواية من دون اللهاث وراء الأحداث.
" شيطان الخضر" نص تجريبي بامتياز، يتعامل مع مناطق احتقان فكري وفلسفي قابلة للانفجار، كانت بالفعل محور انفجارات وفتاوى وغضبة أزهرية وسلفية حتى مطلع الألفية، في وقت شهدت مصر مداً سلفياً قوياً كفّر التجويد واحتفى بالترتيل غير المنغم، وصارت أصوات قراء السعودية ترتفع في شوارع مصر بدلاً من أصوات أعمدة التجويد المصري كالشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ محمود خليل الحصري والشيخ محمد رفعت والشيخ علي محمود وغيرهم.
لكن هذا القنبلة، استوعب دويها تقنيات سردية تخرجها بنعومة من منطقة الصراخ المفتعل لمنطقة الهمس المحبب، فيستخدم الكاتب الأحلام كقماشة سردية واسعة غير قابلة للتمزق والإهتراء، إنما تتمدد مع جسد النص بمرونة، إذ تتيح مساحات شاسعة للتخييل والشطح الروحي والفكري.
ليست للرواية فصول وتقسيمات، بل لا يحتوي النص المطبوع على فهرس، ولا عناوين فرعية أو عتبات للنص. تنساب الكتابة في تدافع كموجات متدفقة، لا تأخذك فيها تقسيمات ولا تعكر صفو المزاج القرائي الرائق وقفات.
مجرد محاولات
بعيداً عن النص، وقريباً من المعنى، يذكر التاريخ محاولات بعض الموسيقيين تلحين الآيات مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تبنى فكرة تلحين القرآن الكريم، وحجته إن الآيات بها تعبيرات عن العذاب والرحمة والغفران والجنة والنار، وهذه المعاني يؤديها القراء على نفس النمط، بيد أن التلحين يسهل توصيل المعنى. واعتبر الأمر "تدبراً للقرآن". في كتابها "عبد الوهاب" نوهت الكاتبة لوتس عبدالكريم بوجود تسجيلات لمحاولات عبدالوهاب تلحين القرآن.
وكانت هناك محاولات أخرى لموسيقيين آخرين، منهم عبدالله الرويشد الذي صدرت فتوى بإهدار دمه في مطلع الألفية بعد ما ترددت أخبار عن محاولته تلحين سورة الفاتحة. وتعرض الموسيقار مارسيل خليفة لتهديد مماثل عندما وضع مقطوعة مستوحاة من السرد القرآني لقصة النبي يوسف.
علماً أن بعض أقطاب الغناء والتلحين في مصر كانوا شيوخاً أزهريين مرتلين ومجودين للقرآن الكريم، منهم الشيخ أبي العلا محمد المعروف بأنه أحد أهم أساتذة أم كلثوم، والشيخ سلامة حجازي، ومحمد القصبجي، والشيخ سيد درويش مؤسس الموسيقى المصرية الحديثة، ومحمد عثمان وغيرهم، وهؤلاء جميعهم تربوا في الكتاتيب الشعبية لتحفيظ القرآن، وكان معظم مشايخها على دراية واسعة بالمقامات الموسيقية ومنشدين.
تزيل الرواية الحدود الفاصلة بين التلاوة والغناء، والمقامات الموسيقية والتجويد والترتيل، وتصل إلى أن القواعد الحاكمة لهما هي واحدة، منبعها المقامات والقواعد الموسيقية، وأن القيود المفروضة على القرآن والإنشاد مجرد حواجز وهمية لا تتفق والمنطق الإنساني. فالروح تطرب لجملة لحنية وتنتشي مع آية مرتلة، ففي كلتيهما نزهة للنفوس وراحة للأرواح.
في مشهد لافت يأخذنا الكاتب لمفارقة، إذ ضبط يوسف المنعكش صوت الراديو في الجامع، ورفع من قوة الميكرفون ليعلو صوت نجاة الصغيرة في نفس اللحظة التي تعلو فيها تواشيح الخضر "إلهي ما أعظمك في قدرتك وعلاك"، وكان معظم رجال القرية قد التقوا في هذه الليلة لصلاة الفجر. فهل أطربهم صوت نجاة أم خشوع خضر؟
"شيطان الخضر" هي الرواية السادسة لطه بعد: دموع الإبل، باب الدنيا، البجعة البيضاء، إمرأة أسفل الشرفة، العابرون، سقوط النوار. وهو حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 2001، وجائزة الشارقة عام 2000، وجائزة يوسف إدريس عام 2008، وجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2013.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه