أمي اسمها جميلة. أناديها أكثر الأحيان "جمّول". هي من مواليد السابع من شباط/ فبراير 1938، بحسب البطاقة الشخصية، ويمكن إضافة عامين زيادة بحسب قولها لأن جدي لم يُسجلها في نفس عام ولادتها.
أي شخص يقول أمامها إنّه يعاني من ألم في الرأس أو المفاصل أو المعدة وما شابه، تجيبه: "والله أنا متلك عم يوجعني"، مرددةً جُملاً فيها الكثير من الشعر والتكثيف والمبالغة في وصف حالتها، مثل "عَ كتر مو تعباني، حاسي جسمي متل الخيال" أو "والخضر أحياناً عقَدّ ما بِنوِجِع بحس إنو عم ينطفي ضوّ عيوني" أو "ما في مغزّ إبرة بجسمي إلا وعم يوجعني"، وتقصد أنّه لا يوجد مكان في جسدها إلا ويؤلمها حتى لو كان بحجم رأس الإبرة.
برأيها، عملها اليومي في المنزل هو السبب في أوجاعها، مع العلم أنّ كل الأعمال المجهدة من مسح وشطف وكنس وغسيل وترتيب وما شابهها تنجزها أخواتي وزوجة أخي وبناتهنّ.
منذ حوالي ستة أشهر تقريباً، وحوالي الساعة الثالثة صباحاً، فجأة سمعتها تصرخ: "يا ويلي... يا رامي... يا ويلي...". وبسرعة البرق ركضت نحو غرفتها، فرأيتها ممددةً على الأرض واضعة يدها على حوضها، وكلما حاولت الحركة تصرخ من شدة الألم. طلبتُ منها أن تبقى ساكنة ولا تتحرك، ثم اتصلتُ بأولاد أخي كي يأتوا، ودخلت على يوتيوب لأرى كيف يتم التعامل مع حالة سقوط كبار السن وتعرضهم للكسر. بعد مشاهدتي لعدة فيديوهات قمنا بإعادتها إلى فراشها.
كانت خائفة، وضغطها ونبضها مرتفعان. حاولت إقناعها بأن سقوطها ليس خطيراً وألمها هو نتيجة لرضٍّ بسيط في منطقة الحوض، ثم دهنت لها مكان الألم بمرهم وأعطيتها حبة مسكنة، ادّعيت أنهما فرنسيّا الصنع ومخصصَين لمعالجة حالات السقوط على الأرض لدى كبار السن، مؤكداً أنّه بعد نصف ساعة سيزول الوجع، وكان هدفي تخفيف حالة التوتر والخوف لديها.
طوال الوقت كان تقول: "انكسر حوضي، انكسر فخدي، وشحاري بدي موت". كلمة "وشحاري" تدل على حدوث مصيبة مخيفة وخطيرة ولا يمكن حلّها. في ما مضى، كان كسر الحوض لكبار السن تُطلَق عليه تسمية "كسر الموت"، أي أنّ مَن يُكسر حوضه سيموت خلال وقت قريب لا محالة، لأنه لا توجد طريقة لعلاجه، وأمي كانت تؤمن بهذا الكلام لأنّ جدتها سقطت وانكسر حوضها وماتت بعد ذلك بأيام، حسب روايتها، وهذا زاد من خوفها إلى درجة كبيرة.
لحظتها، كان عليّ أن أخترع قصة تثبت أن الطب يُمكنه فِعل المعجزات، وكانت جدة أحد أصدقائي وطبيب العظم صفوان يوسف الذي تحبه أمي وتثق به هما بطلا تلك القصة.
أخبرتها أن تلك الجدة سقطت منذ عام وتهشمت ساقها، وقام الطبيب صفوان ببترها من تحت الركبة، ثم أخذ من وركها عظمة صغيرة ووضع فوقها قليلاً من اللحم والشرايين والجلد وثبّتها على ركبتها، فنبتت لها ساق جديدة والآن صارت تمشي عليها بسهولة.
"بين غرفتي وغرفة أمي حوالي 25 خطوة. في كل ليلة حين تستيقظ بعد منتصف الليل، كانت تأتي إلى غرفتي لترى إن كنتُ ما أزال مستيقظاً أم لا. لخطواتها البطيئة المتعَبة إيقاع يذكّرني بمطلع أغنية وديع الصافي ‘الله يرضى عليك يا ابني... ضهري انكسر والهمّ دوّبني’"
بالطبع، لم أنسَ أنْ أخبرها أنّ تلك الجدة حين تهشمت ساقها نذرت خروفاً على أحد المقامات المختصة بأوجاع المفاصل. وعلى الفور، طلبت أمي منّي أن آخذها إلى عيادة الدكتور صفوان، ونذرت خروفاً على مقام الشيخ إبراهيم المختص بآلام الظهر والمفاصل. ومع الصباح، أخذتها إلى الطبيب وتبيّن أن مفصلها مكسور فتم إجراء عملية لها وإيفاء النذر في ما بعد.
منذ أنْ أجرينا العملية لأمي وحتى الآن، ما زالت تقضي معظم وقتها في السرير، وبالكاد تستطيع خدمة نفسها بالحد الأدنى. ما حدث لها أثّر نفسياً عليها وعلى العائلة كلها، وبشكل خاص أنا، لأنني أعيش معها ومع والدي في البيت ذاته. هذا البيت لحظة انكسر مفصل أمي مَالَ سقفهُ نحو الجنوب.
خلال الأشهر الستة الماضية، وبالرغم من أنّ أمي كانت تقوم وبشكل مستمر بتوجيه الملاحظات وتذكير أخواتي وبناتهنّ بالأعمال المنزلية التي يجب عليهنّ القيام بها، بقي المنزل بحاجة إلى حركتها فيه. مثلاً، خزان الماء على السطح يَفرغ من الماء في أكثر الأحيان، لأنّ لا أحد يمكنه أن يتذكر مثلها تشغيل مضخة المياه عند مجيء التيار الكهربائي الذي سينقطع بعد نصف ساعة، ولا أحد يخطر بباله أنْ يخبرني بأنّ اللبنة والخضروات والسكّر ومساحيق التنظيف وما شابهها على وشك النفاد كي أجلب بدلاً منها، وغير ذلك الكثير.
لا يمكن لأحد في الوجود أنْ يسدّ الفراغ الذي تركته أمّي في المنزل، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تعرف وتُجيب عن أي شيء، بداية من أين يمكن أن نجد فردة الجوارب الضائعة، ومفتاح المخزن في الطابق السفلي الذي يضيع دوماً، وانتهاءً بما نحتاجه من مؤونة الشتاء والصيف. ويمكنها بمجرد الدخول إلى المطبخ أن تعرف أن هناك صحناً أو فنجان قهوة مفقودَان، ويمكنها أيضاً أن تُخمن أن جرة الغاز ستنتهي بعد يوم أو يومين.
"حين تفتح أمي باب غرفتي وتراني مستيقظاً، تهز رأسها وتقول: ‘أوووف لساتك سهران!’... ثم تغلق الباب أكثر الأحيان وتغادر قبل أن أنطق بحرف واحد، لأبدأ بعدِّ خطواتها، وحين تصل إلى الخطوة الخامسة أو السادسة عشرة يغيب ذلك الإيقاع الذي أحبّه"
في ما مضى، حين كنتُ أفتح خزانة ثيابي ولا أعثر مثلاً على كنزتي، أسألها فتجيبني بأنها على حبل الغسيل أو في سلة الغسيل. وفي إحدى المرات سألتها عن قميصي الداخلي الرمادي والبوكسر الأزرق. فردّت بامتعاض: "شوف بأي بيت قلعتهن ونسيت تلبسهن، صرلي شهر ما شفتن بين الغسيل ولا بخزانتك!". فقلت لها ضاحكاً: "شو قصدك بهالحكي يا جمّول؟". ردّتْ: "روح دوّر عليهن بالشاليت (الشاليه) أو عند حدا من رفقاتك يلي بتنام عندهن بالمدينة".
بين غرفتي وغرفة أمي حوالي 25 خطوة. في كل ليلة حين تستيقظ بعد منتصف الليل لتدخل الحمام، كانت تأتي إلى غرفتي لترى إن كنتُ ما أزال مستيقظاً أم لا. لخطواتها البطيئة المتعبة إيقاع يذكّرني بمطلع أغنية وديع الصافي "الله يرضى عليك يا ابني... ضهري انكسر والهمّ دوّبني".
حين تفتح باب غرفتي وتراني مستيقظاً، تهز رأسها وتقول: "أوووف لساتك سهران! فتاح الشباك، الدخان متل الضباب بغرفتك، (وتقصد دخان السجائر) والله بعمري ما شفت متل نوعك بين البشر! بتسهر كل الليل وبتنام كل النهار!"، ثم تغلق الباب أكثر الأحيان وتغادر قبل أن أنطق بحرف واحد، لأبدأ بعدِّ خطواتها. وحين تصل إلى الخطوة الخامسة أو السادسة عشرة يغيب ذلك الإيقاع الذي أحبّه. منذ ستة أشهر وحتى الآن، تمر الليالي دون أنْ أتذكر مطلع أغنية وديع الصافي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.