يوماً بعد يوم، تتأكد رؤية الخبراء ووكالات التصنيف الدولية حول عدم قدرة الاقتصاد التونسي على مجابهة التحديات القادمة مع تنامي المخاوف من عدم قدرة الحكومة على سداد الديون في آجالها بالرغم من المساعي التي تقاوم بها الدولة لتجاوز هذه الأزمة.
وعزز بنك مورغان ستانلي، أحد أكبر المؤسسات الاستثمارية المصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية، من هذه المخاوف، بعد إعلانه أن تونس قد تتخلف عن سداد ديونها في الوقت المحدد في حال تواصل انهيار المالية العامة، وعدم توصل الحكومة التونسية إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
أزمة خانقة
تعاني البلاد من أزمة مالية غير مسبوقة، إذ بلغ الدين العام 102.2 مليار دينار (34.6 مليار دولار)، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ما يعادل 81.47 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
تأتي هذه الأزمة المالية في وقت تئن فيه البلاد تحت وطأة أزمة صحية بسبب فيروس كورونا، وتذبذب من الناحية السياسية بعد انفراد رئيس الجمهورية قيس سعيّد بالحكم وحلّه البرلمان، كما يشهد الشارع التونسي حالةً من الغليان نتيجة عدم توفر بعض المواد الغذائية الأساسية مثل السميد والزيت النباتي والأرز مع ارتفاع غير مسبوق في الأسعار وتضاعفها بشكل غير طبيعي.
ويرى خبراء في الاقتصاد، أن الحرب الأخيرة التي اندلعت بين الجانبين الروسي والأوكراني، ستزيد من تدهور الأوضاع وستكون لها تداعيات وخيمة على تونس التي تستورد قرابة نصف حاجياتها من القمح من أوكرانيا وروسيا، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية.
مخاطر عالية
إلى جانب تحذيرات بنك مورغان ستانلي، قامت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش"، بتخفيض تصنيفها السيادي لتونس من (- بي) إلى (سي سي سي).
وقالت الوكالة في بيان لها، إن "هذا التصنيف يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي الذي يتطلب تقليص المعارضة الاجتماعية والاحتكاك المستمر مع النقابات، بالإضافة إلى قدرة الحكومة على سن تدابير توحيد مالية قوية".
وأضافت الوكالة أنه من المتوقع أن يستمر العجز في ميزانية تونس عند مستويات مرتفعة في حدود 8.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، مقارنةً بنسبة 7.8 في المئة العام الماضي 2021.
هذا التصنيف يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي
كما توقعت الوكالة، أن يصل حجم الدين العام إلى 84 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، وإلى 84.7 في المئة في 2023.
وكانت رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، قد أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عن شروع حكومتها في إعداد مشروع اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج جديد ستكون له إشارات إيجابية للمستثمرين الأجانب والبلدان الصديقة المستعدة لمساعدة تونس.
وأضافت بودن، خلال كلمة ألقتها، في إطار الدورة 35 لأيام المؤسسة، أن الدولة حريصة على دفع تعهداتها الخارجية من الديون في الآجال، نظراً إلى مستوى احتياطي العملة الموجودة في البنك المركزي.
إصلاحات عميقة
يؤكد صندوق النقد الدولي، أنه من الضروري اعتماد خطة إصلاح واسعة النطاق وذات مصداقية يدعمها المجتمع التونسي وشركاء التنمية الدوليون، للمساعدة في تحقيق نمو دائم واحتوائي وشامل على المدى المتوسط.
تشمل هذه الإصلاحات كتلة الأجور (وهي حالياً من أعلى الكتل في العالم)، وإصلاح منظومة الدعم، ودور المؤسسات العمومية في الاقتصاد، والقطاع غير الرسمي، والعدالة الضريبية، وإصلاحات مكافحة الفساد، ومناخ الأعمال.
تعاني تونس من أزمة مالية غير مسبوقة، إذ بلغ الدين العام 34.6 مليار دولار، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ما يعادل 81.47 في المئة من إجمالي الناتج المحلي
وقال ممثل صندوق النقد الدولي في تونس، جيروم فاشيه، "إن هذا البلد الذي يسعى إلى الحصول على مصادر تمويل دولية، شهد بعد بداية جائحة كوفيد19، ركوداً غير مسبوق منذ استقلاله"، مضيفاً أن انهيار الناتج المحلي جعل البلاد غير قادرة على استيعاب معدل البطالة الذي يتجاوز 18 في المئة، لذلك يجب الذهاب إلى إصلاحات عميقة وعاجلة.
وتسعى تونس، إلى خوض تجربة إصلاح اقتصادية جديدة مع صندوق النقد الدولي هذا العام، للحصول على قرض جديد بقيمة أربعة مليارات دولار.
سجال بين سعيّد والطبوبي
أمام كل التحديات والمخاطر التي تواجه البلاد، يواصل رئيس الجمهورية قيس سعيّد، صمته عن برنامجه وعن الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي في القريب العاجل، واكتفت الرئاسة ببيان مقتضب خلال اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الدولة برئيسة الحكومة نجلاء بودن.
وطالب سعيّد خلال هذا اللقاء، بأن تستجيب الحلول التي سيتم اقتراحها على صندوق النقد الدولي لمطالب الشعب التونسي، وألا يتم المساس بالدور الاجتماعي للدولة، وأن يتم تقاسم الأعباء بناءً على العدل والإنصاف.
تونس تمر بفترة صعبة زادتها الأزمة الصحية والحرب الروسية الأوكرانية تعقيداً، بالإضافة إلى سياسة الاقتراض الخطأ التي اتّبعتها الدولة منذ 2011، والتي ترمي إلى الاقتراض من أجل الإنفاق وليس من أجل الاستثمار
من جهته، طالب نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد)، خلال مداخلة عبر إذاعة موزاييك الخاصة، رئيس الجمهورية بتوضيح موقفه من مسائل حارقة وخيارات أساسية، على غرار رفع الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية، قائلاً: ''أريد سماع موقفه بوضوح بصفته المنتخَب من الشعب والمسؤول الأول عن السلطة التنفيذية، بكل صراحة وبوضوح تام حتى أتفاعل معه".
وسبق للحكومة إعداد وثيقة أولية لبرنامج الإصلاحات الهيكلية قدّمتها لشركائها الاجتماعيين، في انتظار التوافق حولها وتقديمها لصندوق النقد الدولي بهدف التوصل إلى اتفاق جديد.
السيناريو الأسوأ
يؤكد الخبير الاقتصادي، محمد الصادق جبنون، أن تونس تمر بفترة صعبة زادتها الأزمة الصحية والحرب الروسية الأوكرانية تعقيداً، بالإضافة إلى سياسة الاقتراض الخطأ التي اتّبعتها الدولة منذ 2011، والتي ترمي إلى الاقتراض من أجل الإنفاق وليس من أجل الاستثمار.
حول التهديدات التي تحدث عنها بنك مورغان ستانلي الأمريكي، يوضح جبنون لرصيف22، أن تونس ليست عاجزةً حالياً عن سداد ديونها، ولن تصل إلى المرحلة التي وصل إليها لبنان من حيث خطورة الاستدانة وعدم المردودية.
وطالب جبنون بضرورة القيام بإصلاحات عاجلة وضبط المالية العمومية وتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد، خاصةً مشكلة المؤسسات العمومية وخطورتها وعدم مردوديتها على الاقتصاد ككل وتحسين مناخ الأعمال.
ويؤكد جبنون، أن البلاد في حال تأخّرها عن سداد ديونها، فذلك لا يعني أنها مفلسة، إذ لا يوجد مفهوم لإفلاس الدولة، بل هناك ما يُعرف بالتعثر في الدفع والذي يمر عادةً عبر نادي باريس، وهو مجموعة غير رسمية مكونة من مسؤولين ماليين ممولين من 20 دولةً، يقدّمون خدمات مالية مثل إعادة جدولة الديون للدول المدينة بدلاً من إعلان إفلاسها أو تخفيف عبء الديون عبر تخفيض الفائدة عليها، وإلغاء الديون بين الدول المثقلة بالديون ودائنيها. والدول المدينة غالباً ما يتم التوصية بها أو تسجيلها في النادي عن طريق صندوق النقد الدولي بعد أن تكون الحلول البديلة لتسديد ديون تلك الدول قد فشلت.
ويرى جبنون، أن تونس حالياً ليست في حالة تعثر، لأنه لا يزال لديها الوقت الكافي للقيام بإصلاحات، وتالياً التوقيع على القرض مع صندوق النقد الدولي قبل بداية سداد الديوان عام 2023.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...