تتلاقى مقولة الأديب والشاعر السوري محمد الماغوط، "عمرها ما كانت مشكلتنا مع الله، مشكلتنا مع الذين يعتبرون أنفسهم بعد الله"، مع عبارة قالها الشاب الأردني سامر (40 عاماً): "لو كان الله يعاملني كما عاملني مجتمعي، لكان أخذ أمانته وقال يلا نتحاسب، لكن الله أعطاني فرصةً، فيما مجتمعي خوّل لنفسه أن يحاسبني!".
وسامر واحد من المتعايشين مع مرض الإيدز، الذين تواصل رصيف22، معهم/ ن لإعداد هذا التقرير، وما جاء في تجربته يؤكد على صحة تلاقي كلامه مع عبارة الماغوط. "لا أسمح لأي إنسان بأن يحكم عليّ بسبب سلوك مارسته في يوم من الأيام"، يقول وكأنه يضع حداً لأي أسئلة يمكن أن تتضمن حكماً أو وصماً خطأ بحقه. "يقولون عني مثلي؟ مطحنة جنسية؟ متعاطٍ؟ لا مشكلة. هذا لن يهزّ ثقتي بنفسي".
أصيب سامر بفيروس الإيدز حين كان عمره 23 عاماً، ويتعامل مع الأمر "مثله مثل أي فيروس يدخل الجسم، وأنا متعايش ومتصالح معه، وأعلم أن ربي سامحني". وهذه الثقة العالية بالنفس والشخصية القوية الموجودة لدى سامر اليوم لم تنشأ من فراغ، فالحال لم يكن هكذا أول اكتشافه بأنه مصاب، عندما شعر بأن ستارة الحياة أصبحت قاتمة السواد وأُسدلت في وجهه، وكان حينها ينتظر موته، وفق تعبيره.
أتعامل مع الإيدز مثله مثل أي فيروس يدخل الجسم، وأنا متعايش ومتصالح معه.
"اعتقدت أنني سأموت فوراً"
يسرد سامر: "كنت أعيش وأعمل في دبي، وعلى علاقة مع فتاة من جنسية أجنبية، وعندما ذهبَت مرةً لإجراء فحوص من أجل تجديد إقامتها، اكتشفت أنها مصابة بالإيدز، الأمر الذي دفعني لإجراء الفحص، لكن النتيجة التي أخبرني بها موظف المختبر لم تطمئنني بل جعلتني أنهار".
ويضيف: "خسرت شغلي، وسافرت بمحض قراري قبل أن يخرج قرار بتسفيري، وعدت إلى الأردن، وعندها أخبرت والدي وصديقي المقرب فقط، وعشت أياماً في انتظار موتي، حسب الفكرة التي نشأت عليها منذ صغري بأن من يصاب بالإيدز يموت فوراً".
لكن صديق سامر أخبره بعدم صحة هذه الفكرة، وأخذه إلى مركز مشورة تابع لوزارة الصحة. "هناك كان سؤالي الوحيد متى يموت المصاب؟ أما اليوم فأنا أمثّل الأردن في مؤتمرات خارجية عن فيروس الإيدز، وأصبحت مثالاً للمصاب الذي لا يخجل من إصابته، ويرفع معنويات المصابين ويفنّد الأفكار المغلوطة حول المرض، وبدأت أعمل بشكل فردي أو جماعي على التواصل مع مصابين من أجل تحفيزهم. تحولتُ إلى قنبلة من الطاقة الإيجابية".
تقاطع الحديث أصوات أطفاله وهم ينادونه، وبعد أن رد عليهم أكمل بابتسامة: "كثيراً ما أُسأل إن كانت العدوى انتقلت إلى أولادي. لحسن الحظ هم غير مصابين. بالفعل الله أعطاني فرصةً لأغيّر حياتي إيجابياً، إذ تزوجت وأنجبت طفلين مثل القمر".
يعدّ سامر نفسه قصة نجاح، ويقول: "في أي نقاش أخوضه عن الإيدز أفوز. حتى أني استطعت أن أؤثر على شيوخ دين، ولم يسبق أن سمحت لأي موقف بأن يؤثر بي سلبياً، وأنا على يقين بأن الله وضعني في هذه الحالة حتى أغيّر النظرة السائدة عن المصابين".
وفي الختام تحدث الرجل عن أبرز المواقف التي يتعرض لها مصابون أردنيون بالإيدز: "أغلبيتهم لا يعلنون عن الأمر خوفاً من وصمة العار. هناك فتيات مصابات لا يأخذن الدواء بسبب عدم وجود خصوصية لهن في منازلهن واحتمال تعرضهن للسؤال: شو هاد الدوا؟ وهناك فوبيا من البوح بالإصابة ومن الذهاب إلى مراكز أخذ الدواء خوفاً من أن يراهُنّ أحد".
أكثر سؤال كان يوجه إليّ هو كيف أُصبت بالفيروس؟ هذا هو الهم الشاغل لمجتمعي، ولم يسألني أحد عن حالتي النفسية التي تردّت كثيراً إلى حد أنني حاولت الانتحار، ولم يفكر أحد في أن يقدّم لي يد العون
"الطبيب وبّخني"
تتعايش رانيا (اسم مستعار)، مع الإيدز منذ العام 2017، إذ أصيبت بالعدوى من زوجها قبل طلاقهما، والأمر كلّفها خسارات عدة على رأسها وظيفتها.
"أخبرت والدتي بإصابتي بعد ثلاثة أشهر من اكتشافي إياها. حاولت التعايش مع مرضي، وحرصت على ألا أكشف عنه في شركة الاتصالات التي أعمل فيها، خوفاً من فصلي، لكن زميلةً لي أفشت السرّ، ربما لأنني كنت متفوقةً عليها في المبيعات"، تقول الفتاة ذات الأعوام السبعة والعشرين.
"لم أستسلم" تشير رانيا في حديثها. "لا ألوم المجتمع بسبب جهله لمرض الإيدز ونظرة العار من قبله إلى كل مصاب. ألوم الدولة التي لم تساعد على تغيير هذه الصورة المغلوطة، وكأننا عبارة عن عدوى متنقلة تسبب الوفاة لكل من يلمسها، وانعكاس لمرآة الجنس والعيب والكفر".
وتختم: "أنا لا أخشى البوح بإصابتي خوفاً على رزقي فحسب، لكني أخاف من سماع كلام قد يجرحني".
"عشان إيش ومين أحرم أولادي مني؟"؛ هكذا سأل شادي (39 عاماً) نفسه، عندما استوعب الخطأ الذي كان سيرتكبه عندما حاول الانتحار بعد اكتشاف إصابته بالإيدز عام 2019، عن طريق تناول كميات كبيرة من الدواء، قبل أن تنقذه زوجته.
ويحكي لرصيف22: "في ذلك العام جاءني عقد عمل في السعودية، وأجريت فحوصاً من بينها فحص الإيدز وفق شروط العقد، وبعد يومين استدعاني المختبر وأخبروني بإصابتي. صُدمت وذُهلت وانهرت، وما زاد الأمر وطأةً، الطبيب الذي تحدث معي في مركز المشورة التابع لوزارة الصحة، بأسلوب قاسٍ جداً، كأنه وكيلي أو ولي أمري، فانهال عليّ بالاتهامات، وسمح لنفسه بأن يتدخل في حياتي الخاصة، حتى أنه هددني بإخبار زوجتي بإصابتي إذا لم أبلغها. ذلك الطبيب لم يكن يعطيني المشورة، كان يعاقبني!".
انهال عليّ الطبيب بالاتهامات، وسمح لنفسه بأن يتدخل في حياتي الخاصة، حتى أنه هددني بإخبار زوجتي بإصابتي إذا لم أبلغها.
تقدم شادي بشكوى ضد الطبيب إلى وزارة الصحة، وتخلى عن مركز المشورة، واتجه إلى مركز خاص اسمه "سواعد التغيير". "هناك قدّموا لي يد المساندة، ولم يطلقوا عليّ أحكاماً قاسيةً، حتى أنني وثقت بهم لإبلاغ زوجتي، وهو ما فعلوه بطريقة لطيفة جداً".
يقول شادي: "أكثر سؤال كان يوجه إليّ هو كيف أُصبت بالفيروس؟ هذا هو الهم الشاغل لمجتمعي، ولم يسألني أحد عن حالتي النفسية التي تردّت كثيراً إلى حد أنني حاولت الانتحار، ولم يفكر أحد في أن يقدّم لي يد العون، لذلك قررت ألا أُبلِغ الشركة التي أعمل فيها حتى لا يؤثر ذلك على رزقي، ولأنني ملتزم جداً بالعلاج فلا خوف على زملائي".
"قاتل، ومرض عاطل، والجنس"، وغيرها من الأحكام والأفكار المغلوطة حول الإيدز وفق ما يقوله شادي، الذي ما يزال حتى اليوم يواجه صعوبات مع بعض أفراد أسرته الذين قاطعوه، ويختم: "إذا أقرب الناس إلي تخلوا عني، شو ضل بهالدنيا؟".
ممارسات تمييزية
جميع هذه الحالات التي تواصل رصيف22 معها من المتعايشين مع الإيدز، من مرتادي مركز "سواعد التغيير"، وفي مقر المركز المعني بتقديم العون الوقائي والنفسي لهذه الفئة، التقى رصيف22 مديره عبد الله الحناتلة.
تأسس المركز عام 2012، مع ملاحظة القائمين عليه أن جهود وزارة الصحة في ما يتعلق بمصابي الإيدز علاجية فقط، ويغيب الجانبان الوقائي والنفسي تماماً.
"كل المفاهيم المتعلقة بمصابي الإيدز خطأ. تمتلئ ثقافة مجتمعنا بالتابوهات، سواء كانت عن السياسة أو العادات والتقاليد أو الجنس، ومثل أي مجتمع محافظ، ترتبط النظرة إلى مرض الإيدز بالجنس، ونحن نعيش تحت حكم منظومة اجتماعية واصمة ومميِّزة ضد أي شخص يتحدث في الجنس"، يقول الحناتلة مؤكداً أن الشخص المتعايش لا يشكل أي خطورة على أي إنسان حتى على الشريك الجنسي إذا كان ملتزماً بالعلاج، وهو ما يرفض المجتمع تصديقه.
لا ألوم المجتمع بسبب جهله لمرض الإيدز ونظرة العار من قبله إلى كل مصاب. ألوم الدولة التي لم تساعد على تغيير هذه الصورة المغلوطة، وكأننا عبارة عن عدوى متنقلة تسبب الوفاة لكل من يلمسها، وانعكاس لمرآة الجنس والعيب والكفر
ويشير المتحدث إلى أن أكثر الأماكن التي يتعرض فيها المتعايشون للوصم والتمييز هي أماكن تقديم الخدمات الطبية، ويضيف: "حتى بعض الأطباء لديهم معلومات مغلوطة حول الإيدز، ويساهمون إلى حد كبير في تعزيز الوصمة المجتمعية، وهنا يعيش المصابون تحدي الوصمة الذاتية. فيصبح لسان حال المصاب: ألوم نفسي حتى أرضي المجتمع. أنا يلّي جبته لحالي، وبدي أسكت عشان المجتمع يرحمني".
ويسرد المتحدث حكايات عن المتعايشين مع الإيدز، منها شاب ضربه أخوه وطرده وحرمه من الميراث، وهدد بفضحه في القرية، وفتاة طلبت منها ممرضات في المستشفى التي ذهبت إليها بسبب مرض عضوي، عدم الجلوس في غرفة المراجعين، وسيدة ذهبت إلى المستشفى بمخاض الولادة، وعندما وصلت رفضوا إدخالها لأنهم اكتشفوا إصابتها، وبعد وساطات وافقوا على الأمر، لكنها خرجت بعد الولادة من دون أن يقدّم لها أحد أي مشورة طبية. "كل الكادر الطبي الذي دخل عليها كان لديه سؤال واحد: كيف أُصبتِ بالإيدز؟ نسوا كل شيء عن الرعاية الطبية، وركزوا على سبب إصابتها!".
وهنا يعلّق الحناتلة بالقول: "المرأة بشكل عام في مجتمعنا تتعرض لعنف مبني على النوع الاجتماعي، فما بالك عندما تُصاب؟ تصبح مشكلتها مضاعفةً، وتتعرض لمزيد من العنف. هناك أزواج نقلوا العدوى إلى زوجاتهم ومارسوا العنف ضدهن عند اكتشافهم الأمر".
كما يشير إلى أن إدارات السجون الأردنية تعلّق أوراقاً يُكتب عليها "مصاب بالإيدز"، على أبواب زنازين المصابين، وفق رصده في أثناء زيارات أجراها لهذه الأماكن، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يصل إلى عزل المصاب انفرادياً، وهذا في حد ذاته "عقوبة مضاعفة" كما يقول.
هناك أزواج نقلوا العدوى إلى زوجاتهم ومارسوا العنف ضدهن عند اكتشافهم الأمر.
وعن عدد المصابين بالإيدز في الأردن، يبيّن أنه ومنذ العام 1986 حتى اليوم، توجد 518 إصابةً وفق إحصائيات وزارة الصحة، وهناك 60 إلى 80 شخصاً سنوياً يطلبون إجراء فحوص، وهنا يقول: "لا شك في أن دور الدولة في الجانب العلاجي ممتاز، فالعلاج مجاني، لكن في الجانب الوقائي هو ضعيف جداً. هذه الشريحة مظلومة جداً، وتنتهك حقوقها مع سبق الإصرار والترصد ووسط صمت المجتمع".
للمرضى كامل الحقوق وفق القانون
وفي ما يخص البعد القانوني المتعلق بالانتهاكات التي تقع على مصابي الإيدز، يقول المحامي محمد الناصر في حديث إلى رصيف22: "المتعايشون مع فيروس نقص المناعة المكتسب هم أشخاص لهم جميع الحقوق، فلكل إنسان الحق في الحياة والعمل والمأكل والمشرب والمسكن الملائم وغيرها، والقوانين في الأردن لم تستثنِ متعايشي الفيروس من أي حقوق بل على العكس، فمثلاً المادة السادسة من الدستور الأردني نصت بشكل واضح: الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين".
وأضاف المحامي أن مشكلة الوصمة والتمييز التي تواجه المتعايشين تسبّب حاجزاً بينهم وبين وصولهم إلى حقوقهم، بالرغم من أنهم أشخاص أولى بالحصول على الرعاية الصحية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 21 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com