أشباح الغربة
بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل
لا أذكر أنني كنت أقطن في منزل خاص بي بالمعنى المتعارف عليه للمنزل. المكان الذي تتمكن من وضع لمساتك عليه. أن يحوي تفاصيلي وذوقي الخاص. لم أتمكن من القيام بذلك وسط كل المنازل المحملة بالجدران التي عشت داخلها. التي كانت خاوية في معظم الوقت من الأثاث أو بعيدة عن ذائقتي الخاصة.
أذكر فقط ذلك المنزل الذي صنعته داخل أحلامي. كل ركن فيه كان يحمل لوناً أو لوحة أو قطعة أثاث تحمل شيئاً مني ومن روحي. كان يحمل أثقال ألواني القاتمة الحبيبة إليَّ. الكتب التي كنزتها عبر السنوات في مكتبة خشبية أشرفت بنفسي على صنعها داخل عقلي. ألوان الجدار التي اخترتها بعناية وبذائقتي الخاصة. اللوحات، الكتابات على الحائط، الأشياء الصغيرة الموضوعة فوق الطاولات التي ابتعتها بنفسي كما أردت.
لما يئست من قدرتي على حصول ذلك المنزل الخاص بي، تخيلتني أغادره كما غادرت مدينتي الحبيبة الإسكندرية. وضعت باباً حديدياً ضخماً أمام بابه الخشبي، وأغلقته بقفل متين، قبل أن أغادر لبلد أخرى. كأنني خشيت أن يعبث أحدهم بمخيلتي ويعيد تشكيل مقتنياتي بالداخل.
أضطر لمغادرة الإسكندرية لمدينة أخرى تبعد مئات الكيلومترات عنها، لأضع أيضاً فوق مدينة طفولتي قفلاً ثقيلاً أفتحه بين العام والآخر. وأحياناً تمر أعوام كثيرة قبل أن أفكر في محاولة فتحه.
***
لم يكن أبي يحب السفر أو الخروج كثيراً. كان يحب المكوث في البيت الذي تربيت داخله، والذي لم أشعر يوماً أنني حقاً أنتمي له. كان كل ركن فيه يشعرني بالغربة وأنه ليس مكاني الحقيقي. ذوق والديَّ يملأ المكان. حتى غرفتي وضعوا داخلها الأثاث الذي كان بالنسبة لهم رخيص وعملي، ولون حائط أبيض لم أحبه قط.
أضطر لمغادرة الإسكندرية لمدينة أخرى تبعد مئات الكيلومترات عنها، لأضع أيضاً فوق مدينة طفولتي قفلاً ثقيلاً أفتحه بين العام والآخر. وأحياناً تمر أعوام كثيرة قبل أن أفكر في محاولة فتحه... مجاز أشباح الغربة
حين أضجر من المنزل، كنت أستلقي فوق السجادة السميكة ذات الألوان المتداخلة والتشكيلات غير المفهومة، وأحاول تخيل أنني أسير فوق السقف الواسع. المساحة الواسعة البيضاء التي لا تعوقها أي أثاث أو أشخاص. فقط النجفة كانت تبدو بزجاجها الكريستال كأنما برزت من الأرض وارتفعت وسطها لتضيء كل الفراغ الأبيض الموجود. أتخيل أنني أسير حولها فرحة، يصبح بإمكاني داخل مخيلتي أن ألمس الزجاج الكريستال وألتقط اللمبات المضيئة بسهولة.
في أيام رمضان وتجمعات العائلة، أنأى بنفسي بعيدة عنهم كلهم. أضع كرسياً بلاستيكياً قديماً في الشرفة لأقف فوقه. أطلّ من فوق السور وأضم كفي في وضعية الدعاء، كما علموه لنا في المدرسة، وأتمنى من الله أن أسافر. أسافر بعيداً وكثيراً. يوماً ما حين أكبر، لن أظل جالسة حبيسة الجدران كوالدي، سأمتلك جواز سفر مثل الكتاب المعجزة، سيجعلني أسافر وأرى كل الأماكن. لن أبقى في مكان واحد. سأجوب كل الأماكن دفعة واحدة.
تعجبني الفكرة كثيرا فأسري بها لأمي ليلاً وهي جالسة بجواري كي أنام. تخبرني أن أحذر دوماً مما أتمناه. أغمض عيني مدعية النوم، واستكمل نفس أمنياتي للسفر أسفل الغطاء دون أن تراني.
***
حينما وصلت مطار ذلك البلد الأوروبي لأول مرة في حياتي، كنت أشعر أن جواز سفري الخالي شبيه ببوابة إلكترونية ستفتح لي دول العالم كلها وقتما أريد. الشوارع القديمة المحملة بقصص وحكايات لم أعرفها قبلاً كانت كالحلم بالنسبة لي وأنا أرتادها. المكوث هناك مع أصدقائي الذين صاروا كعائلتي التي اخترتها بنفسي. الشوارع التي أسير داخلها برغبة مني وانطلاقة. كان الأمر أشبه بالحلم الذي يمضي لأيام قليلة بالخروج من المدينة التي عهدتها. أثناء عودتي مجدداً لمدينتي، ولمنزل والديَ الغريب عن روحي، كنت أحاول تخفيف وطأة الأمر بأن أعد نفسي بأن أحاول السفر كل عام.
يوماً ما حين أكبر، لن أظل جالسة حبيسة الجدران كوالدي، سأمتلك جواز سفر مثل الكتاب المعجزة، سيجعلني أسافر وأرى كل الأماكن. لن أبقى في مكان واحد. سأجوب كل الأماكن دفعة واحدة... مجاز في رصيف22
بمضي الأعوام تكاثرت السفريات. اختلف الأشخاص الذين أسافر معهم والأسباب التي أسافر من أجلها. أحياناً كنت أسافر للعمل، وأحياناً أخرى لتمضية الوقت مع الأصدقاء. تركت أخيراً منزل طفولتي والإسكندرية كلها، وذهبت لمدينة القاهرة للعمل في شقة مؤجرة، مؤقتة كما هي معظم حياتي.
***
داخل الشقق المؤجرة الكثيرة التي سكنت فيها، لم يكن فيها شيء ملكي حقاً. دوماً هي أشياء أضعها بالمكان لملء الفراغات، دون أن أفكر لأبعد من ذلك. إحساس يملؤني بأنني سأغادر تلك الشقة قريباً، في يوم لا أعلمه، لشقة غيرها في نفس المكان أو مكان آخر، فلا أبحث عن أغراض أشعر نحوها بالحميمية كيلا تضار أثناء النقل. لا أتحكم في ألوان الجدران التي حددها ناس سكنوا قبلي. لا أفكر حتى في دق مسمار في الحائط لتعليق لوحة تعجبني، خشية أن يتسبب في خسارة مبلغ من المال حينما أنتقل من المكان.
تصبح الأسابيع والأشهر التي تمر من حياتي كلها عبارة عن حقيبة سفر، أضعها في سيارتي وأتنقل بها من القاهرة للإسكندرية كل أسبوع. أشيائي المتناثرة بين بيتي المؤجر في القاهرة ومنزل أهلي في الإسكندرية تجعلني أتساءل أحياناً إن كنت أملك تلك الأشياء حقاً أم أنها مجرد ملابس وأشياء ابتعتها لإلقائها داخل حقيبة السفر. تصبح الحركة المكوكية بين المدينتين هي ملخّص حياتي دون أي قدرة على إبطاء الإيقاع المتسارع.
***
رغم ابتعادي كل تلك الأعوام عن الإسكندرية إلا أن ذكريات الأماكن التي كنا نرتادها أنا وحبيبي جعلتني لا أشعر أنني غادرتها حقاً. كأني يجب أن أعود كل نهاية أسبوع لنلتقي، أو لا أتمكن من مقابلته، فأسير في شوارع المدينة بين المقاهي مفتشة عن وجهه.
أشيائي المتناثرة بين بيتي المؤجر في القاهرة ومنزل أهلي في الإسكندرية تجعلني أتساءل أحياناً إن كنت أملك تلك الأشياء حقاً أم أنها مجرد ملابس وأشياء ابتعتها لإلقائها داخل حقيبة السفر... مجاز أشباح الغربة
ينتظرني أحياناً في محطة الرمل، داخل أحد المقاهي التي اعتدناها، وأحياناً أخرى، حينما تتعطل سيارتي، في موقف الحافلات، ليكون هذا هو لقائنا الوحيد هذا الأسبوع. أنتظره بحقيبة السفر على ظهري بعدما أصل إلى موقف الحافلات، يقابلني في عجالة ليعطيني كوباً من القهوة وهو يخبرني أنه منشغل أو أننا سنلتقي لاحقاً. ربما نفعل وربما لا. يمر يومي نهاية الأسبوع، لأعود مجدداً لشقتي الفارغة الموحشة التي صارت غريبة حتى عني في القاهرة.
أخبر نفسي أن ابتعادنا هذا سيزيد اشتياقنا، وأن حالة الانتظار والأيام التي ننجح في اختطافها هي حقاً ما يميزنا ويميز علاقتنا معاً ويزيدها صلابة. أحياناً حينما تبتعد عن شخص ما تزيد أحلامنا معاً، ما يزيد من رغبتنا حقاً بعدها في التواجد داخل مكان واحد. أعود لمنزلي الخاوي لأفرغ حقيبتي، لأدرك أن كل أطقمي ليست مكتملة. فهذه بلوزة جديدة لكني نسيت البنطلون الأزرق في الإسكندرية، لا أدري هل ستليق حقاً على البنطلون الأسود أم لا. وهذا الطقم ينقصه قرطين كنت قد ابتعتهما حديثاً ونسيتهما في غمرة تحضير الحقيبة بجوار الفراش الآخر.
***
أفكر في ابتياع منزل خاص بنا يحمل قدراً من روحينا لكنه يرفض. نفكر ضاحكين في وضعه على الطريق ما بين المدينتين. تبدأ لقاءاتنا تدريجياً في الخفوت في نهاية الأسبوع. تمر أشهر قبل من أن نتمكن من المقابلة داخل مقهى أو أي مكان آخر. أفكر في استكمال السفر. أن أزيد من أبعاد المسافة بيننا. ربما وقتها فقط يصير لذلك الغياب معنى ما. كان يحمل الإسكندرية داخله بطريقة أو بأخرى، احتجت أن أجعل لغيابنا حقاً معنى وسبباً، أن أذهب لخارج البلد كلها. ربما تنجح المسافة في إعطاء قلة اللقاءات سبب ما.
مازال المنزل الذي صنعته داخل مخيلتي هو أكثرهم واقعية وطمأنينة. هو ما يحوي روحي حقاً. أفكر اليوم في زيادة عدد اللوحات داخله. أقطن تلك البلد البعيدة ومازلت داخل رأسي. أغير من بعض الديكورات داخل منزلي الذهني. أفتح بدقة القفل الذي وضعته فوق الباب الحديدي وأفكر في الأشياء الجديدة التي سأقوم بفعلها بالداخل. سأغير اليوم لون الجدران لأن الألوان الفاتحة صارت هي الرائجة هذا العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه