أشباح الغربة
بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل
محطة عابرة
أتممت في يوم بارد جداً الثالثة عشر من عمري، وبدأت الأسئلة التي لا إجابات لها ولاداتها بشكل متكرر خصب داخل عقلي الصغير، بدأت من بداية شروق شمس ذلك اليوم، حين ذهبت إلى المدرسة وأنا أرتدي بذلة الكشافة، المكونة من قميص وبنطلون لونهم بني ووشاح صغير ملون بألوان علم البلد، كان من المفترض أن يكون كربطة عنق لإعطاء البذلة الطابع الوطني، لكنه كان أصغر من أن يقوم بهذا الدور.
وقفتُ أمام عمود طويل في ساحة المدرسة مع اثنتين من زميلاتي في الصف، مريم وملك، لأرفع العلم ببطء أثناء تأدية طلاب المدرسة النشيد الوطني في طابور الصباح، ومريم وملك في الخلف يرفعون يدهم اليمنى في وضع التحية، حتى أنهي مهمتي المقدسة، ثم نردد ثلاث مرات تحية البلاد، وتصفق كفوفنا الصغيرة بإيقاع رسمي: "تك تك... تك تك...".
كانت جميع الطالبات في الطوابير ترتدي الزي المدرسي "المريول"، أما نحن الثلاثة فنرتدي بذلة الكشافة، جميع الطالبات في طوابيرهم التقليدية أما نحن في المقدمة، أمام عمود العلم، والمعلمات والمديرة، جميع الطالبات بنات هذه الوطن ونحن الثلاثة دخيلات عليه.
رحت أرفع العلم ببطء والريبة تصيب يدي برعشة تكاد تضرب مهمتي في مقتل. هذا يومنا الأول في دور الكشافة، يومنا الأول في الخروج من البيت دون المريول، وأظن أنه كان يومنا الأول في الشعور بالغربة، أو شعوري أنا على الاقل.
هذه هي مدرستي منذ سنوات ولم أشعر يوماً فيها بأي غربة، لكن التوتر لدغني بشكل قاسٍ لأول مرة يوم رفع العلم، فنحن الثلاثة غريبات، من جنسيات أخرى منذ أن ولدنا، فما الذي جد في ذلك اليوم؟ قمنا بمهمة رفع العلم لأننا الوحيدات في تلك المدرسة اللواتي استطعن دفع ثمن تلك البذل، التي ترقّي دورنا، من مجرد طالبات إلى طالبات بمرتبة الشرف، لتمثيل الوطن داخل مدارسه، وأظن أن هذا ليس ذنباً. كانت بذل الكشافة باهظة التكاليف بالنسبة لطالبات المدرسة الواقعة في إحدى القرى الفقيرة جداً في جنوب البلاد، القرية التي أنا ومريم وملك دخلاء عليها.
ظننت كثيراً أن المشكلة هي في كوني لامنتمية، لكن الوقت أهداني جوهر المشكلة، فجميع الأشياء تنتمي إلي بشكل زائف ناقص... مجاز أشباح الغربة في رصيف22
ما المشكلة في كون الغريبات يحيون علم بلاد أصحابها أفقر من شراء البذلة التي تهيئهن لهذا المنصب، وتتيح لهن منصباً أصغر، هو ترديد التحية خلفنا. اعتدت شكلي في تلك البذلة، رغم أنها كانت قصيرة على قامتي وضيقة بعض الشيء، واعتادتها مريم وملك أيضاً رغم انها كانت واسعة جداً على قامتهم، تعودنا وأحببناها جداً، واستمر دوامنا بها حتى وإن لم تكن على مقاسنا، حتى وإن اخبرتنا كل يوم أن قدرتنا على دفع ثمنها لا يعني أنها ملكنا، وتناسبنا، وتتوحد معنا، وتقبل بنا.
محطات الميلاد
تزوج أبي من أمي وتركوا الوطن خلفهم للبحث عن فرصة أفضل، وكانت فرصتهم الأفضل في هذه البلد الغريبة، في مزرعة للفواكه الشهية تقع في جنوبه، على أطراف إحدى قراه الفقيرة جداً، عمل والدي فيها كمهندس زراعي. كانت المعلمات والطالبات يبادلونني الحب، وكنت أشعر بالتميز أنا ومريم وملك لكوننا غريبات، تختلف ملامحنا عن جميع بنات القرية، وتثير خلفياتنا فضول المدرسة النائية. تعود أصول مريم إلى سوريا وملك إلى تونس، وتسكن كل واحدة منهم في مزرعة مجاورة للمزرعة التي أسكنها، وعلى أطراف نفس القرية التي نتعلم في مدرستها.
كان التمييز العنصري في المدرسة قائماً على أساس إيجابي بالنسبة لنا، حتى زميلاتنا وإن كن يشعرن بالضيق أحياناً من اختلاف تعامل المعلمات النسبي بيننا، لكنهن في النهاية لا يحملن لنا أي ضغينة أو أذى. كانت قلوبهن طيبة جداً.
بدأ ميلاد شعوري بالغربة حين تراجع مستوى درجاتي وأنا في الصف الثالث، وأصبحت شكوى المعلمات من شرودي وعدوانيتي دائمة، ثم تحولت لأمر ضاغط، بالأخص حين كانت تصل إلى بيتنا على فترات. أتذكر جيداً كيف كنت وقتها فريسة للخوف الذي تمكن مني منذ انتبهت لفكرة أن أمي حامل، حاولت كثير أمي أن تنجب بعدي، لكن الأمر فشل لسنوات، وبعد أن بلغت التسعة أعوام حملت بأختي. كنت أتجرع الحزن والخوف دون أن ينتبه أحد. أصبحت المرأة الحامل في عيني هي صاحبة أيام معدودة في الحياة.
توفيت إحدى معلماتي وهي تلد طفلها الأول وأنا في الصف الثاني، كوّن موتها داخلي أحفورة لشبح مرعب، حتى ملك التونسية صديقتي، فقدت أمها إثر مضاعفات ولادتها، فراحت الكوابيس اليومية تبثّ لي وفاة أمي إثر الولادة بسيناريوهات متنوعة. تراجعتُ في الدراسة كثيراً مع تقدم بطنها للأعلى، كل شيء حولي كان ضخماً مثل بطنها، ومخلوقاً من الظلام مثل جنينها، ويجبر على الصمت. كل ما كنت أستطيع فعله وقتها هو مراقبة حياة ملك التونسية اليتيمة وكيف تتعامل مع الحياة دون أمها، وكأنني أحاول بناء حصن منيع ليحميني مما ينتظرني.
توفيت إحدى معلماتي وهي تلد طفلها الأول وأنا في الصف الثاني، كوّن موتها داخلي أحفورة لشبح مرعب، فراحت الكوابيس اليومية تبثّ لي وفاة أمي إثر الولادة بسيناريوهات متنوعة
أشعر بالراحة وأنا أراقب حياتها التي تبدو مستقرة وعادية. أحاول غسل كأس الحليب وطبق الفطور بمفردي، أحاول غسل قطع الملابس الصغيرة على يدي، أحاول سرقة مقتنياتها لأظل محتفظة بها بعد رحيلها، أحاول أن أترك كل شيء وأجلس في حضنها، وأحاول أن أتقبل تعنيفها المستمر إثر كل هذا، وأتجاهل اتهاماتها لي بالدلال والبلادة والعدوانية التي كانت تطعنني، حتى ولدت أختي الصغيرة التي كرهتها اكثر من أي شيء وقتها وانتهى الكابوس، لكنني كنت قد أصبحت، وبشكل رسمي، على قوائم المتمردين المشاغبين. كل شيء معناه يصب على البلادة والرفض، رغم كل جهدي لنيل الحب والقبول.
كرهت المدرسة في تلك الفترة، لكن حبي لملك ومريم بشكل بالغ، وصديقاتي الأخريات، كان يساعدني على التعايش، لكنني سريعاً ما وقعت في فخ المقارنات مع مريم وملك، بالأخص لأن والدة مريم وزوجة والد ملك صديقتا أمي وجارتاها في المزارع المجاورة، وأيضا غريمتاها دون سبب يذكر. لم تصارحني أمي يوماً بأنها ترى ملك ومريم أجمل مني، لكنها كانت تنتظر تفوقي عليهم مع انتهاء كل فصل دراسي، حتى تظل الأفضل بين الأمهات في مجالسهن المنافقة، فتحولت العطلة الصيفية لكابوس طويل، أمضي نهارها بشكل مستمر دون كلل أو ملل، أجمع درجاتي المتوقعة، ودرجات ملك ومريم المتوقعة، أحاول أن أتكهن بفارق الدرجات الذي سيلحق بي أشد انواع العقاب، إثر احتفاظي المستمر بالمركز الثالث في تصنيف الأوائل على الصف، حتى وقعت كارثة خروجي من التصنيف، وحينها كان يجب علي أن أجد أي حيلة دفاعية لأنجو، فاحترفت الكذب، وكرهت نفسي لأول مرة في حياتي.
بلّغت عائلتي أنني من الأوائل، ثم وبشكل طفولي أعلنت هجوماً بلا أساس على مريم وملك، وأخبرت أمي أنني سمعت والدة مريم وزوجة والد ملك في بيتهم تنمّان عليها لأنهما تظنان أنها مزعجة وتافهة، ولا تملك قرارها بل هي لعبة في يد صديقتها أم مروان، لأقطع كل صلاتنا ببعض حتى لا تكتشف عائلي أنني أكذب. نجحت كذبتي الصغيرة وأظن أنها نجحت لأنها كانت صادقة جداً. نجحت وأصبحت وحيدة جداً في المدرسة رغم وجود صديقات أخريات حولي، أمثل أمامهن دور الأم الذي افتقده، من خلال تقديم الاحتواء الطفولي للتخفيف عنهن عبء مشاكلهن، وأمتلئ بشيء أرضي به غروري الصغير حتى أشعر بشيء من الجدوى، لكن ظلت مساحة مريم وملك الفارغة تأكل أي امتلاء أتناوله، لأظل في جوع مستمر، فكل شيء كان زائفاً، كراهيتي ونجاحي وعطائي.
ظننت كثيراً أن المشكلة هي في كوني لامنتمية، لكن الوقت أهداني جوهر المشكلة، فجميع الأشياء تنتمي إلي بشكل زائف ناقص. اعتدت أن أهدي زميلاتي ومعلماتي الفواكه الشهية كل أسبوع منذ دخولي الصف الأول في المدرسة، أحمل معي يوم الأحد أو الخميس أكياساً بلاستيكية مليئة بالثمار المتاحة في المزرعة حسب موسمها، فكان التفاح والدراق والمشمش والتين واللوز والبرقوق لا ينقطع عن فصلي، تأتي الطالبات ليساعدنني على حملها من السيارة ثم نتوجه نحو فصلنا، يسرن خلفي ببطء وهن حاملات الأكياس الثقيلة، أما أنا فكنت أسبقهن بخطوات قليلة، والعظمة وحقيبة المدرسة فوق ظهري تتربع، تنظر إلينا العاملات والطالبات الأخريات من الفصول المختلفة بانبهار وحسد، كمشهد مصغر لملكة دخيلة، تسير بعطايا قصرها بين أزقة فقيرة لبلد يحتله جيشها، تجلس زميلاتي في مقاعدهن بتودد وحب، لأبدأ في فتح الأكياس وتقديم ثمرة لكل طالبة، كان هناك دائماً كيس يظل مغلقاً من أجل صديقاتي المقربات، حتى تنال كل منهن ثمرة أخرى أو ثمرتين، كامتيازات إضافية لكونهن اخترن بشكل حر رفقتي.
كنت أحب الجميع، ورغم أن ملك التونسية ومريم السورية تعيشان أيضاً في مزارع مجاورة، وتتميز عن مزرعتي لأنها تنتج الفراولة والكريز، إلا أن عطائهما كان قليلاً، لا تقدمان إلا لبعض المعلمات المفضلات لديهما، والتي تجمعهما بعائلاتهم صداقات شخصية.
ذات يوم، ونحن في الصف السادس، اقترحت معلمة العلوم شفاء أن كل صف سوف ينتخب طالبتين تمثلانه أمام إدارة المدرسة، ويجب أن يتم ترشيح أربع طالبات لهذه المهمة، وبعد التصويت تفوز اثنتين منهن، فترشحت للانتخابات ومريم وملك وأمل، أخبرت عائلتي في المساء بما سيحدث، لكن اهتمامهم بجرح أختي الصغيرة التي سقطت من فوق الدرج وهي تلعب، أخذ كل مساحتهم، لم يهتم أحد بما أقوله سوى خالي حسن. كان عمره في بداية الثلاثين، وسيم وحنون، جاء المزرعة كعامل كهرباء فيها، بعدما أرسل له والدي عقد عمل حتى تتحسن أحواله المادية ويستطيع أن يتزوج نرمين خطيبته التي سمع المشرق والمغرب بقصة حبهما.
كانت فقرة القبل مقززة مبهمة بالنسبة لي وقتها، لا أدرك ما فائدتها أو أبعادها، حتى أنني شعرت بقرف بالغ يومها، جعلني أزيحه بغضب صغير، وغادرت دون أن نخطط للانتخابات... مجاز أشباح الغربة
مثّل حسن لي منذ مجيئه الخال والأب والصديق، أمضي في غرفته الواقعة في منطقة سكن العمال في المزرعة معظم أوقات فراغي. أظن لو لم يكن حسن معي في بيتنا يوم ولادة أمي لأختي الصغيرة كنت قد جننت من الانتظار والخوف.
ذهبت معه إلى غرفته بعد أن تناولنا العشاء في بيتنا لنخطط لبرنامج الانتخابات، لكنه أجّل التخطيط لساعة كاملة لأن موعد اتصاله الأسبوعي بنرمين قد حان. كان يخصص يوماً واحد في الاسبوع للاتصال بها، يشتري فيه رصيداً يكفي الحديث لمدة ساعة. كان ينظر لي بحب بالغ وهو يتحدث مع نرمين بلغة وكلمات لا أفهم معناها لكنها ذات وقع كبير على أي أذن تشتاق للحنان في حياتها، يقرأ لها أشعاراً يكتبها في دفتر صغير، ويسألها إن كانت سمعت أغاني جورج وسوف التي أهداها إليها مع مسجّل ضخم باهظ الثمن.
يطول حديثهم ويطول كل شيء جميل، كان أحياناً يرتب الغرفة ويجدل شعري، وأنا أكتب واجبي المدرسي بجواره، حتى ينقطع الخط بسبب نفاذ الرصيد، يضمني بعدها مباشرة لصدره، يحملني ويلقيني بحب فوق سريره، وملامحه الحنونة ما زالت تبث حنانها وتبث شيئاً آخر أعجز عن فهمه. يميل نحوي ويجعل جسدي الصغير تحت جسده، يتحسسه بشكل موتور، ثم يذهب في رحلة تقبيل لوجهي وعنقي ثم فمي. كنت أكره هذه الفقرة الدائمة التي يختم بها زيارتي له، والتي لا يقوم بها إلا في حالة كنا بمفردنا، فهو يتجاهلها في وجود عائلتي أو وجود إبراهيم شريكه في الغرفة، والذي كانت تكرهه أمي لأنها تسمع كثيراً عن حبه للنساء وتعدد زيجاته، ولأنه دائماً كان يعنفني ويكره وجودي في غرفتهم.
كانت فقرة القبل مقززة مبهمة بالنسبة لي وقتها، لا أدرك ما فائدتها أو أبعادها، حتى أنني شعرت بقرف بالغ يومها، جعلني أزيحه بغضب صغير، وغادرت دون أن نخطط للانتخابات.
بدأت الانتخابات واستطعت خلال الأسبوع أن آخذ وعداً من أكثر من نصف زميلاتي بالتصويت لي، وتمت الانتخابات بشكل سري، وعلقت النتائج بشكل علني، وكانت النتيجة هي تساوي الأصوات بين ملك التونسية ومريم السورية وبعدهم على التوالي أمل، أما أنا فأخذت صوتاً واحداً فقط وكان صوتي، كسر قلبي يومها لألف قطعة، ثم تاهت القطع عن بعضها وشعرت بالغربة، آلمني الخذلان لا الخسارة، كنت أحبس دموعي بمحاولة التوقف عن التنفس، لأمنع أي شيء من الدخول لقلبي حتى لا أنهار.
تألمت يومها، لكنني شاركت زميلاتي الاحتفال بنجاحهم، وتعاملت مع من وعدني بصوته ثم خلف بشكل طبيعي، لأنني أضعف من المواجهة والعتاب، فتطلب واحدة من زميلاتي الخائنات أن تنقل الواجب من دفتري، ثم تطلب أخرى أن تبقي دفتر رسمي وألواني معها يوماً آخر حتى تكمل ما بدأته، وأخرى تذكرني أن اليوم هو دورها في تبادل الفطور، وعلي أن آخذ الخبز المحشو بجبن الغنم الكريه وتأخذ هي الخبز المدهون بجبن المثلثات اللذيذ.
اعتمدت يومها نتيجة الانتخابات للثلاثة لمفاجئة تساوي الأصوات بين مريم وملك، شعرت المعلمة شفاء بكسرتي، فضمتني لممثلات الصف، وأعلنت في منتصف اليوم، أثناء الفسحة، وأنا آكل خبز جبن الغنم الكريه والحسرة تمضغني، أن الناجحات في فصلنا المرشحات الأربع. لم أفرح بالقرار يومها ووافقت عليه من أجل شيء مبهم، جائز أن يكون شعوراً داخلياً ضئيلاً جدً بالاستحقاق، فرحت بعدها أقوم بكل مهمات الثلاث ومهماتي من أجل أن أثبت جدارتي، فحملت عبئاً بالغاً، أتذكر بعدها مباشرة أن صفنا كان في رحلة للبحر، وتم تنبيهنا على أهمية الحفاظ على نظافة الأتوبيس، والتأكيد على أن هذه المهمة من مسؤولية ممثلات الصف.
امتلأ الأتوبيس بالرمال المعجونة بالماء المالح، بسبب خروج البعض من البحر والدخول اليه مباشرة، غمرت يومها منشفتي الخاصة بماء البحر، ثم دخلت إلى الأتوبيس ورحت أمسح بمنشفتي المغمورة أرضيته حتى تحول لونها للون الأسود، ورحت أكرر العملية حتى رضيت عن نتيجة نظافته، ثم تخلصت منها داخل أقرب صندوق قمامة حتى أتجنب عقاب أمي. تفقدت زميلاتي بعدها مع المعلمة شفاء للتأكد أن جميعنا هنا. كنت أشعر أن راحة الجميع مسؤوليتي، فأعطيت حذائي الرياضي لهناء زميلتي لأن نعل حذائها خلع في الماء حين تجولت داخل البحر به، واكتفيت بـشِبشِب البحر لأكمل به اليوم.
مرضت جداً يومها، وتقيأت بشدة وضربتني الشمس، فمضيت ما تبقى من الرحلة وحيدة في الأتوبيس، دون أن يعرض أحد أن يبقى بجواري أو أن يتفقدني بين الحين والآخر، أنقذتهم جميعاً من التوبيخ والعقاب بمنشفتي، ومنحت هناء إمكانية إكمال الرحلة والجولات دون عناء ومنحني الجميع التجاهل، وبعد العودة بيوم، تم نفيي من المنصب بسبب رفض مديرة المدرسة قرار المعلمة شفاء الذي بموجبه سُمح بوجودي بين المرشحات الناجحات.
محطات العودة للتيه
عدت إلى وطني مصر عودة نهائية بعد رحلة ثماني عشر عام في الغربة، حاولت فيها أن أتعايش معها بكل الطرق، حاولت أن أزرع نفسي التي تحتاج إلى ري مستمر في صحرائها، أحببت شاباً فيها وهجرني لأنني الغريبة، حتى أبي الذي كنت أظنه أقوى من الأيام، اكتشفت أنه يعيش القهر بكبر وصمت لأنه غريب، عدت لوطني بعدما أنهيت دراسة الثانوية العامة، عشت على أرضه وأكملت دراستي الجامعية في جامعاته، وانتهت من قاموسي أزمة غربة الوطن، لكنني اكتشفت منذ يومي الأول في وطني أن بداخلي علة ما، علة أحملها معي أينما ذهبت، وأن المشكلة ليست في اختلاف العلم المرفوع على قطعة الأرض التي أسكنها فقط. رحلت إلى الأبد كلمة "أنتِ مصرية" واستبدلت بتصنيفات أخرى لا حصر لها، ولا تقل قسوة عنها، صنفتني فئة عشت بينهم بـ "الصعيدية المنغلقة، ابنة المناطق الشعبية المتدينة أم التعليم المجاني" وفئة أخرى بـ "تربية بلاد الخارج المدللّة، الغنية، المتبرجة، المدخنة، صديقة فلان الفاسقة".
عدت لوطني بعدما أنهيت دراسة الثانوية العامة وانتهت من قاموسي أزمة غربة الوطن، لكنني اكتشفت منذ يومي الأول في وطني أن بداخلي علة ما، علة أحملها معي أينما ذهبت، وأن المشكلة ليست في اختلاف العلم المرفوع على قطعة الأرض التي أسكنها فقط... مجاز الغربة
أسقط في حجر التصنيف طوال الوقت، وكل شخص يصنفني حسب طريقته في الحياة وأفكاره ومعتقداته، أتمزق كخرقة بالية، يمطها كل من يمسك بها ليختبر جودتها، حتى فقدت كل خيوطها التي تجعلها متماسكة لتدل على هوية ذات معنى محدد وواضح. أمضي سنواتي وأنا على جبهة الدفاع المستميت عن نفسي، أحاول أن أحاور كل شخص بلغته ومعتقده، لأقول له من أنا وما هي حقيقتي، حتى ضاعت هويتي وضاع كل شيء ظننت طويلاً أنني سوف أعانقه حين أسكن أرضاً كتب اسمها على شهادة ميلادي.
لم تكن غربتي الحقيقة غربة الوطن، ولا مصيبتي هي العيش خارج أسراب الجماعة، بل الغربة النفسية، لا شيء بداخلي يتعرف على أخيه. أنا جزء من كل شخص مر في حياتي، أنا هم طوال الوقت، حتى أجد لنفسي مطرحاً في ظلهم، مطرحاً كرسيه من الحب وسقفه من القبول وبابه من الأمان، ففقدتني، ورفضتنني الجماعات التي حاولت أن أزرع جذوري في أرضها، لأنها لم تؤمن بأنني منها، لذلك هجرني حبيب مصري بأقسى طرق الهجر، وكرهتني صديقاتي المصريات دون ذنب يذكر، وخانتني عائلتي كما يخون الأنذال.
يجب أن تكون العودة الحقيقية ليست للبلاد، بل لداخلي، هذا الأصلح حتى أحبني وأعانقني وأقبلني، لأصبح صورة واضحة كاملة متماسكة لها أثر وأبعاد، من يشاء يقبلها ومن لم يشأ فله ذلك.
عشت طويلاً أعلق تيهي على شماعات الغربة، على ميلادي في أرض كل بشرها مثل أسراب الببغاوات، متشابهين في كل شيء، والمختلف بينهم قدره الجحيم، لكنني كنت مخطئة. اليوم أرى كل سكان الأرض ببغاوات ولا عيب في ذلك، جميعهم ببغاوات، ولكن ألوانهم مختلفة، زاهية، قادرة أن تعبر بقوة عن خلفية أصحابها، يرددون وراء بعضهم نفس المعتقدات، لكن كل واحد منهم يفصلها على مقاس عورته واحتياجه، العيب هو التيه الذي كان داخلي والذي اختزل وجودي كله في هيئة ظل ينتهي مع غياب النور، فأصبحت مثل برغل طري يتغذون عليه، مثل خيال هيئته فارغة يحمي محاصيلهم، مثل طقس يتغير مع ميل محور أرضهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون