شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما منح الشيخ جائزة

عندما منح الشيخ جائزة "ووكمان" لطفل آخر... والمزيد من الأسباب التي هجرت المساجد لأجلها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 7 أبريل 202210:46 ص

الأفلام الأجنبية التي كانت تُعرض على القناة الثانية للتلفزيون السوري في السنوات الأولى من تسعينيات القرن الماضي، كانت سبباً في تحوّل "آلة الووكمان"، إلى أحد أحلامي التي كنت أراها عظيمةً بسبب الفقر. كنت أمنّي نفسي بها وبدراجة هوائية لأسمع ما أشاء من الأغاني بسمّاعتين على رأسي وأجول بالدراجة. ولأن مصروفي اليومي مقرون بـ"ليرة أو ليرتين"، في ذلك الوقت، فقد كان مؤشراً لاستحالة طلب مثل هذين الحلمين من أبي، لذا اكتفيت بهما خيالاً.

وكغيري من أبناء الحي القديم، كنت أرتاد المسجد لأشارك في دروس "تحفيظ القرآن"، على يد شيخ يلقّننا السور من "جزء عم"، في محاولة منه لنتمّ حفظ الجزء مع أحكام التجويد من دون أن يُتعِب نفسه، ويشرح ما نحفظ، لنفهم ما يريده الله من نصوصه المقدسة. وحين اقتربنا من إتمام الجزء، أعلن الشيخ عن مسابقة ستُجرى في نهاية الأمر، رافعاً يده التي تحمل جهاز "ووكمان"، أمام أعيننا، قائلاً: "وهذه ستكون الجائزة للأول"، وحدد لنا أسبوعاً لمراجعة الجزء، والتمكن من حفظه وإحكام تجويده في أثناء القراءة.

ولأني كنت معتاداً على الحصول على "الدرجة الأولى"، في صفّي المدرسي، آمنت بأني سأصل إلى حلمي بمجهودي الذاتي. وفي يوم التسميع كنت على استعداد تام للتحدي، لكن الجائزة في نهاية الأمر راحت إلى ابن "السيد خلوف"، رجل الدين الذي بنى المسجد بالرغم من أن الفائز تلعثم أكثر من مرة في الحفظ، وأخطأ في أحكام التجويد في أكثر من موضع، بعكسي أنا إذ أثنى عليّ الحاضرون بمن فيهم "السيد"، الذي قرر أن يمنحني جائزة ترضية لا تعدو كونها "بطاقة دخول إلى المسبح لمرة واحدة بقيمة 25 ليرةً سوريةً"، أي ما يعادل نصف دولار أمريكي حينها، وقد شكلت هذه الحادثة على بساطتها أزمة ثقة، بالنسبة إلي، بعدالة المسابقات ومنظّميها. هكذا كنت أظن أول الأمر، لكن اكتشفت لاحقاً أن الأزمة كانت في ثقتي بما يقال وما يُحفَّظ للأطفال في المساجد عموماً.

 في يوم التسميع كنت على استعداد تام للتحدي، لكن الجائزة في نهاية الأمر راحت إلى ابن "السيد خلوف"، رجل الدين الذي بنى المسجد بالرغم من أن الفائز تلعثم أكثر من مرة في الحفظ، وأخطأ في أحكام التجويد في أكثر من موضع

الشيخ فوق السطوح

بعد فترة بسيطة لم تتجاوز الأسابيع، كنت قد وجدت شيخ المسجد ومؤذنه "أبو محمود"، يتلصص من فوق سطح المسجد على ابنة الجيران "رغدة"، وقد رفعت فستانها إلى أعلى فخذيها لتقوم بتنظيف فسحة منزلهم بالمياه. وحقيقة الأمر أني كنت قد صعدت إلى سطح المسجد بحثاً عن الكرة التي وصلت إليه نتيجة ضربة قوية، وحين وجدت الشيخ وقد تجمّد بالقرب من الجدار الصغير الذي يفصل الطرف الشرقي لسطح المسجد عن بقية منازل الحي، اقتربت منه لأعرف ما الذي حوّله إلى حالة السكون المطلق، بالرغم من شدة الشمس، فإذ بي أتحول إلى شريك له في التلصص على جارتنا التي لم يزِد عمرها عن 16 عاماً حينها. وحين شهقت لهول المشهد البهي، عادت الحياة إلى جسد الشيخ، وبدأ يبحث عما يضربني به وأنا أفرّ عبر سلّم الحديد إلى الحي، وكل ما أسمعه هو شتمه أمي، فخفت من دخول المسجد ثانيةً كي لا أقع بين يدي "أبو محمود"، الذي إن حاولت رواية ما كان يفعله لأحد، لكنت نلت تعنيفاً شديداً، فكيف لصبي في عمر الحادية عشرة أن يشكك في قدسية صاحب الصوت الرخيم الذي يوقظ الحي كل فجر؟

بعد فترة، كنت قد وجدت شيخ المسجد ومؤذنه، يتلصص من فوق سطح المسجد على ابنة الجيران، وقد رفعت فستانها إلى أعلى فخذيها لتقوم بتنظيف فسحة منزلهم بالمياه.

أفلام رعب مباشرة

لم أعد أدخل المسجد، لكني لم أكن لأغيب عن "حلقات الذكر" و"الموالد" التي تقام في الحي أو في المناطق القريبة، والأمر يعود إلى بحثنا كصبية عن "صرّة الملبّس"، وقطع الحلوى الأخرى التي تُقدَّم إلى حاضري المولد أو الحلقة الدينية التي يكون فيها للناقرين على الدفوف المكانة العليا كونهم المنشدين الذين سيطربون أرواح الحاضرين بشيء من "الذكر ومدح النبي"، إلى أن يصل بهم الحال إلى الإيمان المطلق.

ومع تطور الأمر وإمكانية حضوري الحلقات حتى وقتٍ يتخطى الساعة الثامنة مساءً، بتّ أشاهد أشخاصاً يصلون إلى حالة يمكن أن أصفها حالياً بـ"الغياب عن الوعي"، إذ لم أكن أملك لها تفسيراً في ذلك الوقت، فهم يخرِجون أدواتٍ حادةً من "أسياخ المعدن المدببة الرأس"، تُعرف باسم "الحربة"، متعددة القياسات من حيث الطول والسماكة، ليقوموا بطعن أنفسهم في مناطق البطن والخاصرة واللسان، ثم إن بعضهم كانوا يستخدمون الخناجر والسيوف في ممارسة هذا الطقس الذي يبدأ بالصلاة على النبي والتكبير، والغاية أن يثبت الحاضرون مقدرة الله على حمايتهم لفرط إيمانهم، حتى أن بعضهم كانوا يستخدمون الأفاعي الطويلة والغليظة التي يخرجونها من كيس كبير وهي تتكتل فوق بعضها، فينتقي منها الحاضرون ما يريدون ويبدؤون بلفّها حول أعناقهم وتحريضها على لدغهم في مناطق مثل العنق واللسان والشفة، والغرض أيضاً إثبات إيمانهم المطلق بقدرة الله، وغالباً ما كنت أهرب حين يستبدّ بي الرعب، ولعلّي بسبب تلك الحلقات لم أقدر على متابعة أي فيلم رعب هوليوودي الإنتاج، إذ تكونت لدي صورة ما تزال تحكمني، بأن كل شيء قابل للحدوث في هذا العالم، وبعد سلسلة من هذه الحلقات التي أكدت لي أن من يمارس هذه الطقوس ما هو إلا مجنون، قررت ألا أعود إليها.

الأساطير

في عمر الخامسة عشر، بت أعمل خلال فصل الصيف في السوق لأجمع مصروف المدرسة، وقد تعرفت إلى "الزهمولي"، الرجل الأخرس الذي يُروى عنه أنه وصل إلى المنزل فوجد زوجة أخيه تبكي لأن رضيعها سقط في النهر، فاقترب من الضفة وصفّق بيديه، فإذا بالطفل يخرج من تحت الماء ضمن سرير مصنوع من الخشب البنيّ اللون والبهيّ الصنعة، وقيل إن الطفل كان يضحك لأمه، وحين التفتت المرأة لتشكر شقيق زوجها على المكرمة لم يقدر على الإجابة، ففقد قدرته على الكلام، وكانت لهذا "الزهمولي"، الذي لم أجد معنى لاسمه، عادة شراء قنديل كل يوم، يملؤه بزيت الكاز ليتركه يطوف في النهر كنوع من النذور أو وفاء الدين لـ"الخضر عليه السلام". والخضر نبي تعتقد غالبية الطوائف الإسلامية أنه ما زال موجوداً على الأرض، وطقس "الزهمولي"، كان يستمر بالرغم من أن النهرين الوحيدين الموجودين في المحافظة التي يعيش فيها كانا يجفّان بشكل جزئي أو كلي خلال فصل الصيف، ومع ذلك يصرّ سكان المدينة على شراء القناديل له، أو بيعه إياها بسعر رخيص، ولم أكن أعرف أي إيمان مطلق بهذا الرجل الذي يقترب منه الكل ليمسح على جبينه أو يده، أو يطلب من "الزهمولي" أن يباركه بـ"نفخ الهواء على وجه الباحث عن البركة". أما أنا فكنت أهرب دوماً من الحي كلما رأيته مقبلاً نحو مكان عملي، ولا أدري حتى يومنا هذا لماذا كنت أخافه.

القداسة تأتي من عدم إمكانية تحريف الكلمة عن مسارها وعلى هذا الأساس فإن أي نص يمكن أن يُحرف مساره يفقد القدسية

ترافق انتقال أهلي للسكن في حي جديد مع انتشار الفضائيات الدينية، وذلك في أثناء وصولي إلى المرحلة الثانوية في الدراسة. عدت حينها إلى حضور "صلاة الجمعة"، برفقة أبناء الحارة الذين تحولوا إلى شركاء في لعب كرة القدم وورق الشدة وكتابة رسائل العشق إلى فتيات الحارة الصغيرة، وكان الأمر يختلط عليّ في تفسير المقدّس من النصوص الدينية حين أسمع أكثر من تفسير للآية الواحدة من شيخ المسجد والفضائيات وكل من يرغب في التفسير، وظل الخوف من التفاسير يرافقني إلى أن بدأ الحدث السوري الذي اعتمد من رغب في تأزيمه على تفسير النصوص المقدسة وفقاً لرغبات المتطرفين، فلم يعد ثمة نص مقدّس بالنسبة إليّ، فالقداسة تأتي من عدم إمكانية تحريف الكلمة عن مسارها وعلى هذا الأساس فإن أي نص يمكن أن يُحرف مساره يفقد القدسية، وإن كان البشر قادرين على فعل ذلك بـ"كلام الله"، فإن أي حديث له علاقة بالسياسة أو الاقتصاد أو الثقافة قابل للتحريف أيضاً.

سلطة المتدينين

هجرت المساجد وأنا صغير لسبب مركّب، أوله التعرض للظلم على يد شخص ثبت لي لاحقاً أنه متحرش وشهواني وقد يمارس عادته السرية في محراب المسجد إن اقتضت شهوته ذلك، وتخليت عن لذة "صرّة الملبّس"، في حلقات الذكر والموالد، خشيةً من أفعالهم الوحشية التي تقارب في مضمونها الشعوذة والسحر لإثبات قدرة من يصف نفسه بالقادر على كل شيء، وقد ثبت لي لاحقاً أن شخصاً يمارس مثل هذه الأفعال ليثبت إيمانه للحاضرين، ما هو إلا باحث عن سطوة دينية تمكّنه من فرض ما يريد على مريديه والمؤمنين به في ظل عجزه عن التمتع بالسلطة السياسية. وقد بنيت قناعةً لاحقاً بأن السلطة الدينية أشد في تأثيرها وحكمها للمجتمعات، وتنافس السلطات السياسية في أي دولة على الأرض لكون الإنسان يميل بطبيعته نحو الغيبيات والتسليم بالقدرات الخارقة، ولهذا تتحالف السلطات السياسية دوماً مع المتدينين لتضمن ولاءهم لها بما يمنع حدوث أي توتر... كما أن الناس قد يبحثون عمن يعلّقون آمالها على رضاه، مثل "الزهمولي"، الذي لم أعِ إلى اليوم كيف يمكن أن أصدّق ما رُوي عن حياته وقد رأيته يقضي حاجته في العراء من دون وجود الماء ليتطهر، فكيف سيصلّي؟ ثم هل يحتاج الله إلى بشريّ يكون مترجماً ومفسراً لكلامه الذي وصفه الله نفسه بـ"أفصح القول"؟

ثم هل يحتاج الله إلى بشريّ يكون مترجماً ومفسراً لكلامه الذي وصفه الله نفسه بـ"أفصح القول"؟

إن تشكيل وعي بضرورة قوننة عمل المؤسسات الدينية، ومحاسبة من يفسر النصوص وفقاً لهواه أو ميله السياسي، والدفع بتهمة الشعوذة نحو كل من يقوم بممارسة طقس يعرّضه للخطر أو يثير الرعب تحت مسمّى الدين، مع تقليم أظافر رجال الدين ومنعهم من رسم خريطة سطوتهم على جسد الثقافة العربية، وجلد طبيعة المجتمع الميال إلى التدين، تُعدّ من أهم أسس المدنية بوصفها حلاً لما يعيشه العالم العربي من أزمات تتراكم بسبب السلطة التي يمنحها المتدينون لأنفسهم للسيطرة على المجتمعات، وإحلال ما يناسبهم وتحريم ما يهدد سلطتهم، حتى وصل بهم الأمر إلى تصوير أنفسهم قائمين على حفظ الله ودياناته، مع أنهم يلقّنون الأطفال في المساجد أن "الحافظ"، من أسماء الله الحسنى، وهو "خير الحافظين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard