شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن الرجل الذي كان أبي قبل أن يرتاد المساجد

عن الرجل الذي كان أبي قبل أن يرتاد المساجد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 22 نوفمبر 202010:58 ص


هل سمعتم قبل اليوم عن تديّن اختطف أباً من ابنته؟ عن تديّن أسقط رجلاً من منزلة الأبوة ليغدو مجرد ذَكَر أمام ابنته؟ الأب بالنسبة لنا نحن الفتيات هو الرجل الأول الذي نضع ثقتنا فيه، الرجل الأول الذي نشعر معه بالأمان. بعد ذلك نقيس كل الرجال من خلال نظرتنا إليه.

ماذا سيحلّ بفتاة إذا كان والدها غير جدير بالثقة ولا يبعث على الأمان، وإذا تغيّرت نظرته لابنته من نظرة أب لابنة إلى نظرة ذكر لأنثى، حتى ولو لم يبدّل هذا الأب في تصرفاته كأب، وبقي حنوناً وعطوفاً ومحبّاً؟

بدأت قصتي عام 2016، عندما تعرّض أخي الذي يصغرني بسنتين لإصابة خطيرة أثناء عمله تسببت له بشلل نصفي. في البداية كان لدينا أمل بالطب والعلم. أخبرَنا الأطباء أنه سيتحسن بغضون ستة أشهر، لكن مضت سنة وسنتان ولم يتحسّن لا بل حدثت معه مضاعفات وانتكاسات، جعلت أمر شفائه صعباً.

أمام ذلك، لم يكن لأبي إلا التوجه إلى الدين، عسى أن يشفي أخي. كان أبي رجلاً مؤمناً لكنه لم يكن متديّناً، يصوم ويصلي ويقرأ القرآن لكن في البيت ولم يكن يذهب إلى المسجد أو يحضر خطباً ودروساً دينية.

بدأ أبي يتردّد على الجامع في كل أوقات الصلوات، حتى صلاة الفجر، وهنا بدأ يتغيّر. أصبح متزمتاً، وطوال الوقت يقرأ كتباً دينية بصوت عالٍ، حتى نسمع جميعاً.

في أحد أيام صيف 2018، كان الطقس حاراً والكهرباء مقطوعة وكنت أرتدي ثياباً خفيفة (قميصاً بدون كمّ وشورت يصل حتى الركبة). دخل أبي إلى المطبخ أثناء تحضيري القهوة ونظر إليّ وضحك قائلاً: "شو بابا عالبحر؟"، "إي صار عرقنا مرقنا"، وأخذ فنجان قهوته وذهب.

مساء ذلك اليوم بالتحديد، بدأ أبي يحضر درساً دينياً في جامع حارتنا الدمشقية، موعده يومياً بعد صلاة المغرب، وبدأت تصرفاته تتغيّر معنا أنا وأخواتي مباشرة. لم أعرف ماهية تلك الدروس لكن من تصرفاته معنا أدركت فحواها.

عاد أبي من الجامع وجهّزَت أختي العشاء. جلس الجميع حول المائدة. وبينما كنت أدخل من باب غرفة المعيشة، نظر أبي إلي مصعوقاً وأغلق عينيه بكلتا يديه لا يريد أن يراني، وقال لي: "روحي البسي اتستري، عيب تطلعي قدام أبوك وأخوك بتياب مو محتشمة". نظرَت أمي وإخوتي إليه غير مصدّقين ما قاله، بينما وقفت أنا متسمّرة في مكاني غير مصدّقة أن أبي يصف ما أرتديه بأنه "غير محتشم" وقبل ساعات فقط كنا نضحك على ثيابي.

وضَعَت أمي الخبز من يدها وقالت له: "شو في يا رجال؟ طول عمرن بناتك بيلبسو هيك بالبيت"، فأجابها بأنه بدءاً من اليوم لن يقبل أن نرتدي أمامه وأمام إخوتي الذكور ثياباً قصيرة وإلا سيكون له حديث آخر معنا.

لم أتناول العشاء مع عائلتي في تلك الليلة لأنني رفضت فكرة الاحتشام أمام والدي. عدت إلى غرفتي وحاولت جاهدة نسيان الأمر والتركيز في كتاب "الهويّات القاتلة" لأمين معلوف والذي كنت أقرأه، لكن صورة أبي وهو يغلق بكلتا يديه عينيه حتى لا يراني لم تفارق مخيلتي. ظلت يداه تغلقان عينيه.

بعد حين، جاءت أختي الصغرى لتخبرني ما سبب تصرّف والدي الغريب. ما أخبرتني به لم يكن كلاماً، بل كان زيتاً مغلياً سكبته عليّ وهي مقتنعة بأن موقفه صحيح وينم عن إيمان وخوف من الله.

قالت إن شيخ المسجد أخبرهم أن على الفتاة أن تحتشم أمام والدها وأخيها حتى لا يشتهيانها. ما إنْ نطقت بهذه الكلمة حتى بدأت أتقيأ. ظللت أتقيأ لخمس دقائق. وكأنّي لم أكن أريد إفراغ معدتي بل أردت تقيّؤ ما سكبته أختي على أذنيّ. أردت أن أتقيأ من مخيلتي صورة أبي وهو يغلق بكلتا يديه عينيه حتى لا يرى جسمي.

بينما كنت أتقيأ، تذكّرت حادثة جرت قبل شهرين، حين أصبت بذات الرئة ومكثت في المستشفى ثمانية أيام. كان والدي يساعدني على دخول الحمام، وكان يساعد والدتي في تغسيلي. عندها كان ينظر إلى جسدي العاري نظرة أب لابنته، نظرة مليئة بالأبوة ومليئة بالعاطفة والحب الأبوي، كان يحب أن يمشط لي شعري وأن يجدله.

"بينما كنت أدخل من باب غرفة المعيشة، نظر أبي إلي مصعوقاً وأغلق عينيه بكلتا يديه لا يريد أن يراني، وقال لي: ‘روحي البسي اتستري، عيب تطلعي قدام أبوك وأخوك بتياب مو محتشمة’"

لم أنم في تلك الليلة. بقيت مستيقظة حتى الصباح، أفكّر بالدروس الدينية التي تغسل عقول الناس الطيّبين أمثال أبي. كيف زرع شيخ الجامع في عقله أنه إذا شاهد ابنته بثياب "غير محتشمة" قد يشتهيها؟ وكيف لأبي، هذا الرجل الطيب، أن يصدّق أن نظرته لابنته قد تصبح نظرة ذكر إلى أنثى، نظرة شهوانية حيوانية؟

أبي الذي بات يخاف عليّ من نفسه، بات يخاف أن يشتهيني ولا أحد يعرف إلى أين قد يصل الأمر بعد ذلك!

طالما الأمر هكذا، لماذا منزلة الأب مقدسة؟ طالما أن الأب قد يشتهي ابنته مثله مثل أي ذكر آخر في هذا العالم، لماذا إذاً هو أب؟ لماذا الدين خصّه وخصّ الأخ بمكانة رفيعة؟

في تعريف مكانة الأب، هو الساهر الأمين على حماية الأسرة من كل أذى حسي أو معنوي. فإذا كانت الابنة عليها "الاحتشام" أمامه حتى لا يشتهيها أو الأسوأ أن يغتصبها، فماذا يبقى لها من ملجأ؟ لا شيء. صدّقوني.

في اليوم التالي، دخَلَت أمّي وهي تحمل بيدها طقم صلاة فوجدتني مستيقظة وأتصفح الأخبار. وضَعَت ما بيدها على سريري قائلةً: "لا تطلعي قدام أبوك هيك. البسي طقم الصلاة. ما بجوز من الله".

تخيّلوا أن والدتي اقتنعت مثلها مثل أختي بكلام الشيخ اللعين. لم تفكّر بالكارثة، كارثة أنني ابنة رجل عليّ أن أخاف على نفسي منه، وعليّ أن "أحتشم" حتى لا "يشتهيني".

هكذا يقوم الشيوخ بتسميم عقول الناس النظيفة والبريئة، ويحوّلهم إلى شهوانيين... أهلا بكم في رحاب التديّن.

"كيف زرع شيخ الجامع في عقل أبي أنه إذا شاهد ابنته بثياب ‘غير محتشمة’ قد يشتهيها؟ وكيف لأبي، هذا الرجل الطيب، أن يصدّق أن نظرته لابنته قد تصبح نظرة ذكر إلى أنثى، نظرة شهوانية حيوانية؟"

بدأ أبي يتحوّل إلى متديّن غليظ القلب والحضور. بات يضجرنا بالخطب الدينية والمواعظ التي عفى عليها الزمن. وبدأنا نتشاجر كثيراً بسبب رفضه لثيابنا، أنا وأختاي، وطلباته منّا أن نرتدي "مانطو" (معطفاً) ورفضنا، بتحريض منّي.

ما كان مؤلماً بالنسبة لي أنني بتّ أشعر بالرغبة في التقيّؤ بحضور أبي، والسبب يعود إلى أنني في صغري تعرّضت مراراً للتحرش من قبل قريب لي "محرّم". بتّ أتخيّل والدي مكانه.

ما عدت أهنأ بالطعام إذا كان أبي أو أخي معنا على المائدة. نسيت أمر الجلوس مع عائلتي. صرت أنزوي في غرفتي بين كتبي هرباً من أبي والأفكار الشهوانية التي غرسها الشيخ في عقله.

أبي الذي كنت أنام في حضنه في ليلة كل امتحان جامعي، أبي الذي كان يحب رقصي كثيراً، ويحب أن يدبك معنا أنا وإخوتي، بات ينظر إلينا نظرة داعشي حين يرانا نضحك، فما بالكم إذا ألقى القبض علينا متلبسين بجريمة الرقص؟

الموقف الذي لن أنساه أبداً، كان في شتاء العام 2019. تعرّضت لجلطة وغيبوبة، ربما بسبب تفكيري بالدين كثيراً، كل ما أتذكّره حينها أنه بينما كان أخي يقوم بحملي إلى السيارة كان أبي يصرخ: "لبسوها الحجاب".

أوقفت أمّي أخي ريثما تلبسني حجاباً وأنا في غيبوبة. سمعت صوت أختي تبكي وهي تقول: "هلق وقت الحجاب؟ البنت عم تروح من بين إيدينا".

أول شيء فعلته بعد أن استيقظت من الغيبوبة التي دامت ساعة ونصف أنني تفحصت رأسي. وجدت الحجاب عليه فشعرت بالأسى على نفسي كثيراً.

أي تديّن حقير تافه يزرع في عقل "المؤمنين" أن الأب قد يشتهي ابنته إذا كانت "غير محتشمة"؟ حتى إنْ كانت عارية كلياً لا يجب أن يشتهيها.

كم هو وضيع وشهواني هذا التديّن! كيف أستطيع أن أشعر بالأمان في ظل انتشاره؟ كيف أستطيع أن أحترمه؟

لا أريد تديّناً لعيناً يضع أبي وأخي على نفس المستوى من أي ذكر غريب قد يشتهيني.

تغيّرت علاقتي مع الرجل الذي كان سابقاً أبي، وما عدت أشعر نحوه بعاطفة الأب، ولم أعد أقيم وزناً للأبوة ولا للأخوة. بات كل الذكور في نظري سواسية، وعليّ أن أحمي نفسي منهم!

كم مؤلم أن ننحدر إلى هذا المستوى من التفكير، بسبب عقلية شيخ مريض. لماذا عليّ أن أفكر بأن كل الذكور يشتهونني بمَن فيهم أبي وأخي؟

لديّ الكثير من الأصدقاء الرجال وأشعر بالأمان معهم. يقدرونني ويحترمونني كثيراً، وأشعر نحوهم بعاطفة الأخوة والصداقة.

رويداً رويداً، بدأت أُخرج سموم هذا الشيخ اللعين من عقلي، بعد أن تأثرت به لا إرادياً، لكن علاقتي مع أبي لم تعد كالسابق ولن تعود أبداً. أفقدني التديّن أبي. بتّ يتيمة وأبي على قيد الحياة.

كم أشتاق إليك يا أبي، اللعنة على تديّن حرمني من عاطفتك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image