"هنا أهرب من كوابيس حيّة أشاهدها بعينين مفتوحتين على الحياة.. هو ليس مجرد مكان أخلد فيه إلى النوم، لكنه مساحة للخجل والتواري عن كل ما يحيط بي، هنا أخلق أحلاماً موازية أكثر سعادة ممّا أراها في يقظتي".
هكذا توجز إلين علاقتها بسريرها، وحين سألناها: ماذا يعني لك السرير؟
فكّرت إلين، فتاة قاهرية في العقد الثالث من عمرها، وخريجة كلية الألسن قسم أسباني، للحظات قبل الإجابة على السؤال، كأنها تسترجع شيئاً لازال عالقاً في مخيلتها، لكنها لم تتردد في الحديث عن سريرها كمساحة شخصية تلقي فيه بنفسها بعيداً عما تواجهه في واقعها.
"السرير عالم آخر"
تقول إلين ساردة يومياتها: "يومي يبدأ عندما أترك سريري في الصباح، أستيقظ على صوت حماتي وهي تشتم، لأجد نفسي أدور في ساقية خدمتها والذهاب معها للمستشفى، لأنها مريضة وتحتاج لغسيل كلية، 4 ساعات لكل جلسة وثلاث مرات أسبوعياً، تتحول بعدها لشخص أكثر بذاءة وتسلطاً، وتتهمني بالدلع إذا عبرت عن تعبي، أما زوجي فلم يعد موجوداً إلا في البطاقة الشخصية، هو دائم الانشغال والسفر للعمل خارج مصر، ولا يحدثني إلا ليطمئن على والدته فقط".
انعكس واقع إيلين على حياتها، وابنتيها سلباً، حيث باتت تظهر عليهن بوادر اضطرابات نفسية، تقول لرصيف22، أن يومها تحول لصراعات لا تنتهي مع أمها وأشقائها، الذين تركوها لحالها، بعد أن طالبوها عدة مرات بالابتعاد عن زوجها والتطليق منه، إما في الكنيسة لاستحالة العشرة، أو على طريقة الشريعة الإسلامية أمام المحاكم، لكنها خافت من "الفضائح"، واستمرت في زيجتها حرصاً على ابنتيها، وخوفاً من ردة فعل زوجها، بأخذ لورا 3 سنوات وليزا عام ونصف، وحرمانها من رؤيتهن للأبد، فهذا ما يهددها به بالفعل حين تصارحه بأن الحياة معه أصبحت جحيماً.
"سرير بدون دفء وحب مثله مثل أي مكان آخر، مجرد مكان للنوم"
"دفعتني أمي بقوة إلى غرفتي، وأحضرت والدي لربطي في السرير، وكشفت أمامه ملابسي الداخلية، ونظرت لجسدي للتأكد من عذريتي"
أما السرير، حيث الخيال والأحلام فعالم آخر بالنسبة لإيلين، غرفتها هي المكان الأقرب لها، وساعات الخلود للنوم هي الأحلى، تقول: "السرير يعني لي فترة هدنة، أو استراحة محارب، هو مساحة للخجل والتواري عن كل ما يحيط بي، هنا أخلق أحلاماً موازية أكثر سعادة مما أراها على مدار ساعات يومي".
"تحرشوا بي وضربوني"
على عكس إلين، ترى ريتاج من سوريا (38 عاماً)، أنَّ السرير يُمثِّل لها مكاناً مخيفاً، فهو يذكّرها باعتداء ترك بصمته على جسدها وروحها للأبد، تقول: "حكايتي تبدأ من المرحلة الإعدادية، حين اصطحبني أبي إلى غرفته، على سريره، لأشاهد مقاطع جنسية بشريط فيديو، كان يخبرني أن عليه تعليمي تفاصيل العلاقة الزوجية المستقبلية، في الدقائق الأولى لم أستوعب ما حدث، وصدقت بالفعل أن هذا الأمر، الذي طلب أن يكون سرياً بيني وبينه، سيفيدني فيما بعد، لكن بعد ثلاث مرات تكرر فيها الأمر، بدأت أشعر بغثيان وتعرق وتوتر لم أجد لهم تفسيراً، لبراءتي وصغر سني وقتها".
"اصطحبني لسريريه وأنا في الإعدادية ليعلمني تفاصيل العلاقة الزوجية المستقبلية".
تضيف ريتاج لرصيف22: "في المرة الرابعة التي اصطحبني فيها والدي للغرفة، أغلق الباب بإحكام علينا، اجتمعت كل الأعراض السابقة دفعة واحدة وأنا أجلس بجواره، وشعرت بعجز وتصلب في حركتي كأنني قيدت على الكرسي برباط حال دون حركتي بعيداً عنه، ثم شعرت بيد أبي تتحرك على جسدي وتلامس منطقتي الحساسة، فلم أدرك وقتها كم الدقائق التي مرت وأنا غارقة في الدموع، وبات يلازمني شعور بغثيان، وألم في معدتي مع كل مرة أتذكر فيها ما حدث".
تكمل ريتاج قصتها بأن صدمتها لم تقف عند حد والدها، بل امتدت لأمها التي عنَّفتها حين سمعت منها ما حدث، ولم تصدقها، بل اتهمتها بالجنون واختلاق القصص للتهرب من علاقة غير شرعية مع أحد الشباب، "مثلما تفعل الكثير من الفتيات المنحلات في نفس عمرها"، تحكي ريتاج عن والدتها.
"منذ ذلك الحين، تتلذَّذ أمي، وكذلك أبي وأخي الأصغر بعامين، بالتعدي عليَّ، بالضرب مرة والسباب مرات، بل وصل الجنون بأمي في أحد الأيام أثناء دراستي الثانوية بأن دفعتني بقوة إلى غرفتي، وأحضرت والدي لربطي في السرير، وكشفت أمامه ملابسي الداخلية ونظرت لجسدي للتأكد من عذريتي، بعد أن شكت في سلوكي لمجرد رؤيتها لي أجرب أحمر شفاه، كانت تنعتني كثيراً بالمنحلة"، تقول ريتاج.
تغيرت حياة ريتاج بعد هذه الوقائع، لكن بقي السرير مكاناً مخيفاً لها، وتحاول في الكثير من المرات الابتعاد عنه، تقول: "مضت على هذه الأمور سنوات، الآن أنا متزوجة، ولديّ ابن عمره 6 سنوات، وتركت بلدي لأعيش في الأردن مع زوجي، وأداوم على زيارة الطبيب النفسي من وقت لآخر، فهو يساعدني كثيراً لأحب وأسامح أسرتي، لكن هذا لا يمنع أن السرير مكان قبيح بالنسبة لي، وأتمنى أن أتصالح معه مستقبلاً، وأشعر بالراحة عليه دون أن تأتيني ذكريات عن بلدتي أو طفولتي البائسة، وأحلم بالغوص في النوم مثل الكثيرين".
"سريري يخلو من الأمان والحب"
"هو مكان محايد، حلو مرة وسيء مرات أخرى، يعني لي الانعزال قليلاً عن اللهاث اليومي وراء لقمة العيش، تسديد فاتورة تركي لبلدتي في الفيوم، ومجيئي للقاهرة للدراسة ثم العمل كمراسلة صحفية وكاتبة"، هذا ما قالته نيرمين (25 عاماً)، التي تخرجت من كلية الإعلام بجامعة القاهرة منذ 4 سنوات مضت، قضتها بعيدة عن أهلها، تاركة بلدتها الهادئة لصخب المدينة القاهرية الذي لا ينتهي.
تقول نيرمين: "غرفتي في القاهرة تختلف كلية عنها في بلدتي، فكأنني أعيش حياتين مقسمة بينهما لشخصيتين، الأولى في وادي الريان بالفيوم، حيث أتنفس الهواء النقي، وأخلد إلى النوم بمعناه الحقيقي، واستيقظ لأجد حنان أمي يحاوطني مع اهتمام أبي، وحياة أخرى أنام فيها لأستيقظ على صراعات في البيت المشترك الذي أسكنه بالقاهرة مع 4 فتيات مغتربات، لكل منهن عاداتها وسلوكياتها، ولا تخلو منه الخناقات على أتفه الأمور، ثم ألهث وراء عملي بأزماته المختلفة".
"الغرفة مفتوحة ولا مجال للخصوصية".
بالطبع لا مجال للحديث عن الخصوصية، تقول نيرمين، فالغرفة مفتوحة طوال اليوم، "قد أجد شيئاً ناقصاً منها، فقد تقرر إحداهن أخذ ما تحتاج دون استئذان، حتى الأدوات الشخصية لم تسلم من التطاول، مثل طبق أو كوب أو أدواتي الخاصة من مشط وفوط وإيشاربات للشعر".
نيرمين تعي أنَّ الحياة في القاهرة لها الكثير من العيوب، تقول لرصيف22: "أعرف أن ما دفعته من راحتي غالياً، لكن لكل شيء ثمن".
"السرير في القاهرة قد يفصلني قليلاً عن هذه الصراعات، لكنه يخلو من الأمان والحب، وسرير بدون دفء وحب مثله مثل أي مكان آخر، مجرد مكان للنوم، أما في الفيوم فالأمر مختلف، لأنني أحب النوم، وأشعر بدفء أمي التي أجاورها في الكثير من الأوقات في الإجازة، وزيارة البلد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...