شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
فقدت قدرتي على الرقص... يبدو أن هذا جسد امرأة أخرى

فقدت قدرتي على الرقص... يبدو أن هذا جسد امرأة أخرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 12 مارس 202212:01 م

 نطفو على قدم من هواء


وقفت في المطبخ مع ابنتي شبه المراهقة، وعلى الهاتف المحمول تدوي إحدى الأغاني الشعبية الرائجة في محاولة لتخفيف الضغط النفسي الذي يتعرض له كلانا لأسباب مختلفة، أشجعها: "هيا لنرقص"، تنظر لي مستغربة قائلة: "ماما أنا لا أرقص! هل تعرفين الرقص؟".

بادلتها نظرة أكثر استغرباً: "ألا تعلمين أني أعرف الرقص؟ لقد كنت أرقص طوال الوقت منذ سنوات!".

الوجه الآخر لعلياء

صدمتني الحقيقة مثل لفحة هواء باردة تفاجئك عندما تظن خيراً في شمس ديسمبر، ابنتي بالفعل لم تشاهدني أرقص أبداً، لم تر أي فيديو قديم لي وأنا أرقص، ولم تسمع أي قصة من أقاربي أو أختي عن ذلك.

هرعت للصديقات وأنا نصف فزعة نصف مرحة، أخبرهن أني فقدت قدرتي الخارقة الوحيدة، فقدت قدرتي على الرقص، والأسوأ أني لم أعلم بذلك على الرغم من أني فعلت منذ ما يقرب من العشر سنوات، وهو عمر الصغيرة!

منذ أيام مراهقتي الأولى، وعلى الرغم من كل التشكيك والشكوك التي سكنتني ومن حولي عن جمالي وأنوثتي في ظل شخصيتي القوية والعنيدة والعنيفة أحياناً، كان الأمر الأنثوي الوحيد الذي أتقن القيام به بما لا يقاس هو الرقص الشرقي، أفقد، عندما تبدأ الأغاني، كل وقاري الراسخ في الأذهان وجديتي المعتادة، وأتمايل برشاقة وبما يتناسب مع لحن الأغنية وكلماتها، أقوم في بعض الأحيان بحركات مرحة للغاية كما لو أني المغني/ المغنية، أو كمجروحة معذبة كبطلة كلمات الأغنية.

أتقنت الرقص لدرجة جعلت كل فتيات العائلة الأخريات يتوقفن عن تعلمه في النهاية لأنه لا مجال لمنافستي، وكانت هذه الدقائق الراقصة في كل مناسبة هي الرابط الذي يجمعني بأقاربي الذين يهابونني ولا يستمتعون برفقتي كثيراً، لكن لا يستغنون عن وجودي في أي حفل ليندمجوا مع ذاتي الأخرى الأكثر خفة أو كما يقولون الوجه الآخر لعلياء.

المرة الأخيرة

في مطبخي الصغير، وأنا مع ابنتي، أخذت أفكر متى آخر مرة رقصت، ثم صدمت مرة أخرى، لكن كان بالضبط منذ ما مجموعه عمر ابنتي مضافاً إليه أيام قليلة، قبل ولادتها بشهر تقريباً، وأنا حامل في الثلث الأخير من الحمل، وفي حفل خطوبة أختي، رقصت بالفعل لساعات ببطن عملاقة للغاية، كان الكل يأتي بجواري يحذرني: "اجلسي، ارتاحي، ستلدين مبكراً، تضرين طفلتك، هل جننتِ!".

لكني كنت أرقص بصورة هستيرية ولا أستطيع التوقف، ربما كنت أعلم في قرارة نفسي أنها المرة الأخيرة، فأنا من بعدها حتى في الحفلات والمناسبات، بما فيها زفاف نفس الأخت، كان أقصى ما أقوم به الوقوف على حافة أرضية الرقص وأهز رأسي وأبتسم، أو أصفق بيدي بوقار، حتى نسيت أني أرقص.

الأمر الأنثوي الوحيد الذي أتقن القيام به بما لا يقاس هو الرقص الشرقي، أفقد، عندما تبدأ الأغاني، كل وقاري الراسخ في الأذهان وجديتي المعتادة، وأتمايل برشاقة وبما يتناسب مع لحن الأغنية وكلماتها... مجاز في رصيف22

لقد أصبحت مثل أمي عندما كنت أجد بصدفة لها وأنا صغيرة صوراً من شبابها، في شعر بني طويل يكاد يغطي خصرها، ونظارة شمسية كبيرة وسروال واسع وقميص ضيق وصندل عريض عالي الكعب، تبدو فيها شبه النسوية غلوريا ستاينم، وأجري إليها: أمي، أهذه أنتِ؟ كيف تحولت وأصبحتِ "كذلك"؟

هذه المرأة الرزينة في منتصف العمر التي ترتدي ملابس محتشمة أنيقة طوال الوقت، جميلة يحسدها الجميل على جمالها الراسخ رغم السنون، لكنها ليست تلك المرأة المعتزة بأنوثتها وشعرها الطويل خلف ظهرها في الصورة، لم أر أمي قط بشعر طويل أو صندل عالي الكعب، تلك صورة عن أمي لا أجدها سوى في الفوتوغرافيا.

تلك صورة عن أمي تغيرت بعد إنجابها، مثلما أنا تحولت وفقدت قدرتي السحرية على الرقص في غرفة الولادة، كما لو أنهم أخرجوها مني في نفس العملية الجراحية العاجلة لإخراج الطفلة من بطني.

أمومة تثبت أقدامي بالأرض

تذكرت بعد حادثة الرقص هذه حادثة أخرى منذ عام أو أكثر قليلاً، خلال رحلة لي مع صديقة لتغطية أحد المهرجانات السينمائية خارج القاهرة، قررنا قضاء الصباح قبل بداية عروض الأفلام على شاطئ البحر، ارتديت بذلة السباحة لأول مرة في نهار مهرجان، نزلت إلى الماء وذهبت بعيداً، بعيداً للغاية في عرض البحر، لم تعد قدماي تلمسان الأرض، لكن ذلك لم يقلقني، استمررت في السباحة رائحة غادية تحت أشعة الشمس، أخرج لأشرب رشفات من مشروبي، أحدث الصديقة لدقائق ثم أنزل مرة أخرى. تستغربني الصديقة عندما أتأخر في البحر، تناديني: "هيا سيفوتك أول فيلم".

تعلم الصديقة أني أعامل الأفلام بتقديس، لا أفوت عرض فيلم سينمائي خلال التغطية حتى لو اضطررت لعدم النوم أو الأكل، لكن في تلك اللحظة أنا كنت أحظى بمتعة لم أجربها منذ سنوات طويلة، كنت أسبح غير خائفة على شخص ما، كنت أستمتع بمخاطرتي الصغيرة بالعوم بدون الاعتماد على أرض تحتي تنقذني إن استقمت وتوقفت عن التمدد.

الآن لا يمكنني احتمال شعور آخر بالخطر، أنا قلق بالفعل يمشي على قدمين... مجاز في رصيف22

أخذت أفكر: لماذا لا أقوم بذلك منذ سنوات، وأظل دوماً قريبة من الشاطئ، ثم تذكرت السبب: أنا هنا لأول مرة في الماء بدون الصغيرة، ولا أستطيع القيام بنفس الأمر بوجودها.

مع وجود الطفلة، حتى بعدما كبرت وتعلمت السباحة حتى أفضل مني وبشكل أكثر جرأة، لا يمكنني الابتعاد عن الشاطئ والاستمتاع بالمياه العميقة المفتوحة، يجب أن تظل قدمي ثابتة في الماء، يجب أن أكون جاهزة متحفزة كل دقيقة حتى أنقذها من ظل خطر لا أدري كنهه.

عطلت تلك القدرة في جسمي على الاسترخاء التام والاستمتاع بالمخاطر البسيطة للسباحة بلا ثقة في أرض، لأني لا يمكن أن أضع نفسي تحت أي خطر، لأن ذلك يعني أني غير قادرة على حماية ابنتي، حتى عندما تذهب أبعد مني يجب أن أظل على الأرض مسمّرة في انتظار لحظة خطر أتمنى ألا تأتي أبداً.

تكرر الأمر مرة أخرى عندما ذهبنا إلى ما يدعى "حديقة المغامرات" وهي تحتوي على ألعاب خطرة، يمشي فيها اللاعبون على ما يشبه حبال السيرك، مجتازين صعوبات عديدة، على ارتفاع طابق ثم طابقين وهكذا كلما كان لديك شجاعة أكبر ستصعد لأعلى بتحديات أصعب، لا يؤمنك سوى ذكائك، وحبل واهن يربط اللاعب من ظهره.

عندما كنت ملكة الألعاب الخطرة

وقفت في الأسفل قلبي معلق بالصغيرة الضاحكة من أمها الجبانة التي تأبى التجربة، أخبرها مراراً وتكراراً أني جربت مثلها من قبل، لقد كنت ملكة الألعاب الخطرة قبل إنجابها، كنت أذهب إلى الملاهي لاختار أخطر اللعبات وأكثرها ارتفاعاً، أجربها وأصرخ وأنا استمتع بالأدرينالين يضخ في دمائي مع الشعور بالخطر، بأني سأظل هناك في الهواء أعاني لن أعود مرة أخرى للأرض، هذا الشعور بالخطر كان ينعشني.

لكن الآن لا يمكنني احتمال شعور آخر بالخطر، أنا قلق بالفعل يمشي على قدمين، أقف أسفل اللعبة التي بها الصغيرة، قلبي معلق بكل خطوة تخطوها، لا أستطيع تصويرها فيديو فأطلب من صديقتي أن تقوم بذلك، فأنا أهرع نحوها أحياناً أو أقف أصرخ بدلاً عنها أحيان أخرى.

أتفهم الآن لماذا تظن ابنتي أنني جبانة منغلقة، فهذه هي الصورة الوحيدة التي رأتها مني طوال عمرها الذي يقترب الآن من العشر سنوات، ليس نسخاً أخرى أكثر شباباً وحيوية وأنوثة وثقة في النفس وشجاعة ورغبة في التحدي.

التحدي الوحيد الذي أقوم به هذه الأيام هو تمضية يوم بلا نوبة قلق على أحد أفراد عائلتي، أو دخلي أو تقصيري، حتى أصبحت أفاجئني أنا شخصياً عندما أتذكر نسخاً أخرى مني كما لو أنها ذات ألاقيها في جلسة تحضير أرواح ولست أنا بالفعل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image